بارت 25

546 49 11
                                    

أن تتعثر قدماكِ وانتِ طالبة في الكلية، ليست كما كانتا تتعثران و انت تلميذة في الإبتدائية أو الثانوية ، الطفولة كانت مسرحاً للتجارب ، التي نتعلم منها كيف ننهض بسرعة عندما نتعثر ، عندما تقدمنا في العمر تعلمنا كيف بجب علينا أن لا نتعثر أبداً ، هكذا و بمرور الزمن نفقد حتى حرية أن تتعثر أقدامنا .
شكرت طالبة التي مدت لي يدها و ساعدتني في عثرتي في حديقة الجامعة ، واصلت طريقي من دون أن ألتفت ، من خجلي قررت أن لا أذهب الى قاعة الدرس ، أتجهت بعيداً عن أعين الطلاب ، وجلست وحيدة على مصطبة معزولة وكادت العبرة أن تخنقني :
هل كان فارووق عثرة عاطفية في طريق مراهقتي ، علىّ في هذا الوقت أن انهض منها و أنظف تنورة ذكرياتي ؟ هل بحاجة للحياة جديدة ؟ حياة تبدأ من هذة اللحظة و تغامر في المستقبل .
لا ... قلت لنفسي : الموضوع ليس كذلك ، فارووق هو الحقيقة التي تشدني الى زمني الجميل ، هو حلقة الوصل بيني و بين نفسي ، بيني و بين العالمي في محلتنا ، بيني و بين أغنياتي ، بيني و بين ذكرياتي العاطفية .
فارووق هو الكلمة الأولى ، هو لمسة اليد الأولى ، هو القبلة الأولى ، هو الخجل الأول ، و الخطأ الأول ، والمغامرة الأولى ، هو النورس الأبيض التي حط صباحاً على نافذتي ، وجاء بالشمس معه الى حياتي و قال أنا معجب بكِ ، و عندما تلعثمت أمامة قال أنا أحبك .
أول أعجاب يتقدم به أحدهم نحوك ، هو الإعجاب حقيقي الذي يولد بلا تاريخ ، هو المباغتة  غير المتوقعة التي نستقبلها كما هي من دون أستعداد ، و نحتفظ بذكراها الى الأبد .
الأعجاب الأول هو اللغة الروحية السامية ، التي ندشن بها عصراً جديداً لحضارة جديدة من الحب ، مملكة مترامية الأطراف ، تبني أبراجها و زهوراتها و حدائقها المعلقة في القلوب فتيه .
مرت أسابيع طويلة ، و أنا لم التق هذا المجنون سوى مرة الواحدة عابرة ، ألتقيته في شارع مصادفة ، و تمشينا في دروب المحلة ، لم يكن لدينا ساعتها الكثير لكي نتحدث عنه ، كل الأغاني التي نعرفها غنيناها سوية ، أغانينا القديمة وحدها تمنحنا ذلك الأحساس الفريد بالنشوة و الخدر .
كتبي الجامعية ، لا تشبه كتبي قديمة ، فهي خالية من الشخابيط ، خالية من عبارات المبهمة التي كنت أدونها لنفسي كي لا يفهمها الآخرون ، تلك الكلمات التي اعتدت على كتابتها من غير وعي ، دفاتري أيضاً خالية من حرف (الفاء) الذي كنت أرسمه كبيراً بألوان مختلفة ، هل صرت أفكر بالمستقبل ؟
نحن لا نخاف من الماضي ، لأن كل مايمكن أن يحدث قد حدث فيه ، و أصبح بمتناول الذكرياتنا ، نحن نخشى المستقبل .
هل يمكن أن يصبح فارووق حكاية من الماضي ؟ هل يمكن لنادية أن تكون في يوم من الأيام شيئاً من الماضي ؟ منذ ان اصبحت هي في جامعة بغداد ، و أصبحت انا في الجامعة التكنولوجية ، صرت أخاف كثيراً ، أخاف على صداقتنا أن يسلبها المستقبل من بين ايدينا ، كيف لا نذهب انا و هي صباحاً الى مدرسة نفسها ، و ندخل الى صف نفسه ، و نجلس على رحله نفسها ؟ كيف لا نقراء دروس سوية ، ولا نخلق الأعذار لبعضنا أمام الأهل ، و أمام المعاونة ست إثمار ؟ كيف سنمشي من الشارع الى البيت من دون ان نكون معاً ؟ ماذا سيقول برياد عندما يراني وحيدة من دون نادية ؟ هل سيعرفني ؟
هل سيأخذها المستقبل مني ؟ هل ستتحول بمرور الوقت الى صديقة القديمة ايتعيد معها كلما صادفتها ذكريات الملجأ و المدرسة و ساعة البغداد و الزوراء ؟ ماذا سأفعل بأحلامها التي أدمنت مشاهدتها ؟ أصادفها أحياناً في رأس الشارع و هي بأنتظار باص ، و أكون انا أيضاً بأنتظار باص آخر ، نتحدث قليلاً ثم يأتي أحد الباصين قبل الآخر و ينهى حديثنا ، هي تذهب الى الجادرية ، و أنا الى الشارع الصناعة، المسافة ليست بعيدة لكنها ليست قريبة كذلك .
سيأتي المستقبل بكل وقاحة ، ويجعل منا جيلاً قديماً ، بأغانٍ قديمة ، و أزياء قديمة ، و لهجة هي الأخرى القديمة ، يا آلهي نحن نكبر أيضاً ، لقد شاغلتنا الحروب و نسينا اننا نكبر ، الحروب الحديثة تبقى مراهقة و نحن نتقدم في العمر ، الصواريخ فتيه و نحن نمضي في سنوات بعيداً .
سيفاجئنا الزمن ، يصير حاتم العراقي مطرباً قديماً ، و كذلك هيثم يوسف ، ومهند حسن ، و رائد جورج و أسماعيل الفروجي ، سيكبر عدنان و تتزوج لينا و يكف السندباد عن التجوال، و ستتغير لهجتنا و تبدوا كلماتنا غريبة ، ستتغير عادات بدورها و تنقلب المعايير مع تغيير لهجتنا ، سيتغير كل شيء ، اللهجة هي المستودع الاخلاقي و الموجه السلوكي للناس ، عندما نتخلا عنها نخسر ذواتنا و تتشوه مشاعرنا .
في الجامعة ، اسمع كل يوم مفردات جديدة ، غريبة بعض شيء ،و خاليية من اللطف .
قفاص ، نگري ، حاته تملخ ، باي ، أصيلة ، طگوگ .
مفردات قليلة بحروف مدببة ، تحشر نفسها في اللهجة ، و تحاول ان تخترق ذاكرتها ، لكنها من ناحية الثانية ، تنذر بخراب روحي عميق ، اللهجة محلية في طبيعتها تتطور تلقائياً ، و تستجيب لنموها الداخلي ، إنها و بمرور الوقت ، تحور الواقع و تعيد صياغته .
في ممرات الكلية ، في الصف ، في النادي ، أعيش غريبة بين الأخرين الغرباء، لست أنا نفسي كما كنت في مدرستي القديمة، في محلتنا ، في بيتنا ، أنا الأن مضطرة لإعادة تعريف الشخصيتي ، يجب أن اقدم لأخرين إنطباعاً مزيفاً عن الطالبة التي هي أنا ، لأنني أنا في الحقيقة مجموعة نسخ مزيفة عن هذة الأنا .
هل هذا صيحيح ؟ ربما هو صحيح .
كلا ، أنا مخطئة ، أنا هنا في الجامعة أكثر وضوحاً مع نفسي ، اكثر انسجاماً مع ذاتي ، أطرح على نفسي عشرات الأسئلة معقدة ، و أتلقى منها عشرات الأجوبة البسيطة .
في البداية ، في الأيام الأولى للحياة الجامعية ، كان لدي بعض خوف من شباب الغرباء ، مخاوف عادية و مفهومة من كل ماهو الغريب .
نحن نخاف غريزياً من الأشياء التي نجهلها ، نخاف من الغموض الناتج عن الأنطباعات الأولى ، هذا الشاب طيب حد سذاجة ، هذه فتاة مسكينة ، هذا الطالب شيطان ، هذه البنت مغرورة ، هؤلاء شلة شريرة ، هذة الطالبة معقدة ، هذا المتعجرف ، و هذه المتواضعة ، هذه حديثة ناعمة، و هذا ابن العائلة .
هةذا يجري تقييم الأخرين بلا خبرة ، ثم شيئاً فشيئاً ، تكون الأشياء اكثر وضوحاً . يتكفل الوقت بالسخرية من الأنطباعاتنا الأولى ، لماذا علينا في الأصل ان نكون الأنطباعات الأولية ؟
لماذا لا نترك الوقت يتصرف دون أن نتورط بالآخرين أو نورطهم معاً ؟
مع بيداء وحدها كنت اشعر بالطميانينة، ليس لأن إنطباعي الأول عنها كان جيداً ، لكنة الوقت الذي تكفل بالمكافحة الغموض ، و أزالة العتمة عن طبيعة الروحها ، و جعلني اتعلق بها الى هذا الحد ، أنه الوقت الذي تراكم بيننا على هيئة الذكريات .
هل أغير قسم الذي أدرس فيه ، و التحق بقسم الذي تدرس بيه بيداء ؟ لأبقى قريبة منها ؟
ماذا لو تغيرت بيداء نفسها ؟ ماذا لو لم تعد تحب ذكرياتها ؟
هذا الصباح ، تحدثت عنها مع نادية في الدقائق التي كنا ننتظر فيها الباص ، قلت لها : إن بيداء تدرس في قسم قريب مني ، و أذهب للقائها بين المحاضرات ، لم تهتم نادية بالأمر كثيراً ، و لم تعلق علية ، يبدو انها لم تعش غربة شبيهة في كليتها ، لم تجرب معنى ان تعلن عن حضورها بين الناس، كما لو إنها تولد فجأة بلا تاريخ .
كانت نادية هذا الصباح على غير عادتها معي ، في الحقيقة لم تكن على عادتها مع نفسها هي ، لقد كبرت هذة البنت كثيراً ، أكثر مما يستحقه زمنها ، كانت تضع طبقة من مساحيق التجميل فوق وجهها ، مساحيق تحجب عني نضارتها القديمة ، طبقة لونية مبالغ بها نسبياً ، لم تكن بحاجة إليها بهذا القدر ، نادية في طبيعتها أجمل من نادية مع المساحيق .
لكن في أية طبيعة هي أجمل ؟ هل في طبيعة التي أعرفها انا و أدخلتها في أطارها المؤبد لانها كل ذكرياتي و أريد ان احبسها هناك ، أنا أعرف نادية الصغيرة ، التي التقيتها في ملجأ محصن ضد الحرب ، و كبرت معها في الأبتدائية ، و المتوسطة ، و الأعدادية ، انا صديقة طفولتها و مراهقتها ، أما هذا (ميك اب ) فهو دخيل على علاقتنا، أنه يذهب بها الى عالم جديد بعيد عني ،
( الميك اب) ممارسة عدوانية ضد ذكرياتنا ، مجرد و سيلة باهتة للمصالحة مع الحاضر أو وسيلة غبية لتشويه الماضي ، بالأحرى هي سلاح لتأجيل غدر المستقبل .
فاجأني فارووق مرة بهدية غريبة ، هدية لم اكن اتوقعها منه ، فبعد عودته من إحدى السفراته مع منتخب الشباب ، اهداني علبة ( الميك اب ) متعددة الطوابق ، تتدرج ألوانها من البني الغامق حتى الوردي الفاتح ، هذه أول مرة في حياتي تكون عندي علبة من هذا النوع ، و هذه أول مرة ، اكتشف ان وجهي مهدد بالوان غريبة عليه ، صعدت الى غرفتي  و جربتها ، و ضعت الأحمر و الأزرق و الأخظر فوق الخدي و تحت العيوني صرت أشبه المهرجين ، كنت في السابق اشاهد امي وهي تضع قليلاً من المرطب الأبيض على وجهها ، ثم تمسك بقلم حمرة فاتح و تمرره فوق شفتيها ، لكنها لا تستخدم كل هذه الألوان ، مرة صعدت خفية الى غرفتها ، وجلست على الكرسي الذي تجلس عليه وهي تتجمل ، و عبثت بمساحيقها أمام المرأه ، دخلت فجأة و أخذتني من يدي وهي تضحك علىّ أمام ابي ، أخذني في حضنة و قال لي : ستكبرين و تضعين المساحيق على وجهك و تصبحين جميلة .
هل كان فارووق يريد ان يقول لي كوني جميلة ؟
هل انا ليست جميلة بدون هذه الألوان ؟
لم يكن فارووق يفكر بذلك كما أظن ، ربما كان يريد ان يقول لي لقد أصبحتِ أمراة .
فارووق ..... انت أيضاً أصبحت رجلاً ، لم تعد تكتب لي رسائل الملونة و ترشها بالعطر ، صرت تحمل الهدايا مثلما يحملها نجوم التلفزيون ، هدايا جديدة تشتريها من عالم الكبار .
لم اذهب في الباص الطالبات هذا اليوم ، سأذهب لألتقي فارووق ، سأترك لكم مستقبل هذا اليوم ، و أترجل نحو الماضي، سأذهب مع فارووق اتمشى معه في شوارع التي تعرفني و أعرفها ، لا أريد ذهاب الى المستقبل ، انا أخاف من غياب الماضي ، اخاف من المجهول ، المستقبل مفتوح على كل الأحتملات ، و كل الأحتملات في الأفق هذه الأيام تخيفني ، ليست هناك معجزات يحققها المستقبل ، أنه شيخ مريض يستند الى عكاز الماضي و يتقدم نحونا .
المستقبل ليس طريقاً سريعاً يمضي بنا نحو الأمام ، هذه الكذبة ، كذبة تافهة و سخيفة، نحن نعيش على ظهر مركب العملاق ، تدفعه الأمواج في اللا أتجاه ، تعبث به العواصف و سط بحر الهائج من جنون العالم ، كيف نثق بالمستقبل و نحن لا نتقدم ؟ كيف نسلمة أمرنا و نحن نتراجع؟
كم مرة تركنا مستقبلنا خلفنا و تهنا في الطريق الى أنفسنا؟ الماضي هو الحقيقة الأكيدة الوحيدة التي أثق بها،التي أعرفها جيداً و أطمئن حتى لخرابها ، لدي خوف مبهم من القادم،شعور عميق بالهزيمة ، حدس جنوني بأننا ماضون نحو الفوضى ، كل شيء يتدهور أمام عيني و هذه هي الثمرات المستقبل تتعفن فوق أغصانها و تسقط على الأرض ، أنا تغريني بطعم مر ، بمصير غامض و مجهول، أنظر بأتجاه الأفاق الفسيحة وهي تضيق مثل زقاق نحيف في محلة بغدادية القديمة، شاهدته مرة في أحلام نادية ولم انسه الى الأن .
سأذهب مع فارووق هذا المساء ، سأتجول معة في درابين الماضي ، سأعيد معة كل الحكايات التي لا تقبل الإضافات ، سأتحدث معه بلهجة أحبها ، لهجة أنا شخصياً ، من نحن بدون لهجتنا ؟
(الكاتبة /شهد الراوي )

-----------------------------------
قررت انشرها اليوم لأن خلصت كتابتها و بارت 26 حاضرة بس ماراح انشرها لأن اذا نشرتهم ورا بعض ماراح تجيني لا لايك ولا كومنت انتظروني انشاالله يوم جمعة راح انشرها  باااي ((( أسف على الأملاء )))

ساعة بغداد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن