بارت 21

434 40 2
                                    

لدي قصة تذكرتها هذة اللحظة ، وقلت يجب أن أخبركم عنها ، حدث في ليلة من الليالي ، عندما كنا نستعد أنا و نادية لأداء الإمتحانات الوزارية ، نسهر في غرفتها حتى ساعة متأخرة من الليل ، في هذه الليلة فجأة رمت نادية الكتاب من يدها و قفزت فوق سريرها لترقص ، تركت أنا كتابي مفتوحاً و غنيت لها ، أغلقت الكتاب بهدوء و عزفت لها إيقاع أغنية تحبها ، نطت من السرير الى أرض الغرفة و أتجهت نحو النافذة تفتحها و تطل منها على الحديقة الخلفية ، تنفست نسائم الليل ثم عادت تفتعل مواضيع لها علاقة بكل شيء إلا الدراسة ، عرفت ساعتها إنها أصيبت بالملل:
-تعبت من الدراسة .
-هاي أخر سنة ، خلي نخلصها و نرتاح .
-مليت بعد ما أكدر أركز بلكتاب .
عادت الى النافذة مرة أخرى ، مدت يدها في الهواء لتتأكد إن ما تسمعه هو صوت قطرات المطر ، أعرف إن في رأسها فكرة مجنونة ،
وقد اخبرتكم سابقاً عن حبها للمطر :
-مطرت الدنيا، تعالي نطلع للشارع .
-يا شارع بهل الليل تخبلتي ؟
-تعالي نطلع راح أموت من الكآبة .
-وأهلج؟
-نايمين .
-وإذا أحد شافنا بالشارع بنص الليل شراح يگول ؟
-عادي
- لج بابا صيري عاقلة شوية .
-اذا انتي متطلعين ، أني راح أطلع وحدي .
نهضت معها ، نزلنا السلم على أطراف أصابع أقدامنا و قلبي يكاد ينكمش من الخوف ، فتحنا الباب الخارجي بحذر شديد و خرجنا .
مشينا بسرعة مجنونة في الشارع من دون أن أعرف الى أين تريد أن تذهب في هذا الوقت من الليل ، ورذاذ المطر ينظف الهواء و يبلل و جوهنا :
-وين رايحين ؟
-لساعة بغداد .
-شنسوي هناك؟
-ناخذ صورة للذكرى .
-بس ماعدنا كاميرا ؟
-مو شرط كاميرا .
-إنتِ مجنونة .
- أدري أني مجنونة، وأحب جنوني ، تعبت من العقل .
- موعدنا أمتحانات؟
-راح ننجح لا تخافين .
إقتربنا من بناية الساعة وتوجهنا نحوها كان أحد حراس يجلس على مصطبة قريبة و يضع سلاحه بين قدميه و يستمع لجهاز الراديو الذي تركة الى جانبة تحت المظلة اسمنتية يحتمي بها من المطر ، مررنا من ورائة بحذر ، و توغلنا في الظلام بعيدا عن مصدر الإضاءة ، وقفت هي أمام الساعة و طلبت مني أن التقط لها صورة وهمية ، وقبل أن اجلس على الأرض لكي أجمعها في لقطة واحدة مع الساعة إلتفتت هي الى الوراء و قالت تضحك مع نفسها :
-لحظة ...خلي اتأكد خاف مروة تطلع بالصورة .
ضحكت معها و إلتقطت لها صورة واحدة كانت تبتسم فيها من كل قلبها و تقول :
-لقد سقطنا في المستقبل .
قالت ذلك قبل أن تعلن الساعة منتصف الليل حسب توقيت بغداد التي تنام الآن تحت المطر،
وضعت يدي بيدها وركضنا بإتجاه محلة ، أنعطفنا نحو شارعنا ، وصلنا بيتهم ، دفعنا الباب الذي تركناه شبه مفتوح خلفنا لحظة خروجنا ، و تسللنا خلسة الى غرفتها في طابق الثاني من البيت ،فتحنا كتاب وقبل أن ننتهي من قراءة صفحة واحدة منة نمنا على أرضية الغرفة بإتجاهين متعاكسين ، أيقظتنا أمها في الصباح ، تناولنا فطوراً سريعاً و توجهنا الى المدرسة .
قالت المديرة بنبرة من التحدي و التشجيع وهي تتجول على صفوف المنتهية :
-هذة المدرسة ست راجحة لا تقبل إلا بنسبة نجاح ‎%‎100 .
هذه هي أيامنا الأخيرة مع ست راجحة و ست أثمار و مدرستنا الثانوية التي عشنا فيها أياماً صعبة ، تصادفت مع سنوات الحصار الذي حرمنا من الدفاتر الملونة و الكتب الجديدة ، وضع الحصار أمامنا صورة المستقبل مفتوح على أحتمالات كلها ليست سعيدة ، من على مقاعد الدراسة إختفت وجوه أليفة من طفولتنا ، غادرتنا وجدان ، غادرتنا تبارك ، غادرتنا سمية ، غادرتنا ريتا، وجوه الكثيرة اخذها غياب وسط الدموع ، من قطار المدرسة ترجلت اسماء كثيرة من محطات كثيرة ، تغيب إحداهن و يتواصل غيابها ثم يأتي الجواب لقد هاجرت مع أهلها .
صارت الهجرة أمتيازاً إجتماعياً للمهاجرين ، الطالبات اللواتي لم يهاجرن يشعرن بالحسد نحو زميلاتهن اللاتي عبرن حدود ،و لامست أقدامهن أرض الحياة الجديدة و تنفسن عطر عالم جديد ، هاجرت صديقاتنا الى المدن الباردة ، بينما نحن نتفسخ في المكان ، نعيش بإبتسامات جامدة و أيام من غبار .
(الكاتبة /شهد الراوي )
♥️💋💋💋💋💋💋💋💋💋💋💋💋💋

ساعة بغداد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن