مثلما كنت احب مدرستي في النهار ، كنت اخاف من اسباحها في الليل . الأطفال كلهم يخافون من بناية المدرسة في الليل ، وفي النهار يخافون من المديرة .
ذات مساء كنا نلعب تحت ضوء مصباح عمود الكهرباء في شارعنا ، كان ذلك في آواخر شهر حزيران ، كنا على وشك أن نذهب لبيوتنا ، عندما قالت بيداء تعالوا نذهب الى المدرسة ونتسلق سياجها ، بدت لنا هذة الفكرة غريبة في أول الأمر ، لاكن نادية قالت : تعالوا نذهب الى الأولاد الذين كانو يلعبون كرة القدم . ونخبرهم ان نتائج الامتحانات الوزراية معلقة في لوحة الأعلانات عند باب الإدارة منذ ظهر هذا اليوم ، ثم نراقبهم وهم يتسلقون الجدار ، نتركهم هناك و نهرب .
لم يصدق الأولاد أنفسهم حين طلبنا منهم القيام بعمل بطولي ،
تركوا ملعبهم الصغير وركضوا أمامنا في الحال وتقافزوا واحداً بعد الآخر فوق السياج ، ثم نطوا داخل بناية المدرسة المظلمة ، تركناهم و هربنا و نحن نكاد نموت من الضحك ، غير ان هؤلاء الأولاد الشياطين أفسدوا علينا ضحكتنا ، فقد عادوا بعد قليل ، بعد ان اكتشفوا مقلبنا وهم يحملون بإيديهم أوراقاً الإعلانات قديمة رفعوها من اللوحة و قالوا لنا :
-هذا نتائج الامتحانات .
إندهشنا كلنا ، عندما وجدنا كذبتنا ظهرت كحقيقة وإنقلبت الأمر ضدنا ، ورحنا نتوسلهم ان يقولوا لنا ماذا في هذة الأوراق ؟
انها مجرد اوراق بيض فارغة ! كنا نقول لهم لكنهم اصروا على انها النتائج الوزارية ، قالوا لي في سبيل امثال :
انت مكملة بدرس لغة الإنكليزية
وقالوا لنادية انت راسبة
ولبيداء مبروك لقد نجحت ياشاطرة
ثم قالوا لمروة نتيجتك لم تظهر لحد الأن .
توسلنا لهم مرة بعد أخرى ، ان نرى بأعيننا النتائج ولكنهم رفضوا ذلك بقوة ، ثم هربوا بعيداً عنا ، عدنا الى البيت و القلق يمنعنا من النوم في تلك الليلة الطويلة ، يا إلهي هل حقاً انا مكملة في درس اللغة الأنكليزية ؟! حاولت ان استذكر الأسئلة و إجاباتي عليها ، لكن ذاكرتي تشوشت ونسيت كل شيء عن الإمتحان ، حتى إنني نسيت فيما أذا كنت قد إمتحنت في مادة اللغة الانكليزية أم لا ، لاكنني اتذكر جيداً انني امتحنت في كل المواد ولم أغب يوماً في حياتي كلها عن المدرسة .
كنت اقوللنفسي في كل مرة يملأ فيها خوف قلبي : إنهم يكذبون ، انا لا انسى ، انا كنت شاطرة في كل الدروس و خاصة في درس لغة الأنكليزية ، فأنا احفظ الكتاب من الغلاف الى الغلاف ، فكيف اكون فد رسبت في هذة المادة السهلة ؟! ثم كيف تكون نادية راسبة وهي من اشطر الطالبات غي المدرسة ؟! ولماذا لم تطهر نتيجة مروة وان الإمتحانات مانت وزارية ؟!
كنت أريد ان انهص من سريري وأخرج الى الشارع ، لقد إختنقت من هذا الهواء الجاف الذي يحرمني من النوم ، كانت الكهرباء تنقطع كثيراً ، نهضت من سريري وذهبت الى المطبخ ، فتحت الثلاجة و شربت الكثير من الماء ، ولما عدت الى السرير نمت في الحال من دون ان افكر ثانية بالنتائج .
طرقت نادية باب بيتنا في صباح اليوم التالي وهي ترتدي زي المدرسة ، وقالت لأمي : ان النتائج ظهرت و يجب ان نذهب لتسليمها ، قالت لها امي : انت تحلمين ، ليس هذا هو وقت ظهور النتائج الوزارية ، سمعت ذلك الحديث بينهما من وراء الباب وعدت الى نومي ، لكن امي لم تستطع العودة الى النوم ، اعدت لنا الفطور وقبل ان توقظنا ، ذهبت الى المدرسة بنفسها و عادت وهي تنادي علي : انهضي أيتها الكسولة النائمة ، لقد نجحت بمعدل 93 بالمئة ، ظننت حينها انها تمزح ، ولكن بعد ان تأكدت ، قفزت اليها من سريري اقبل وجهها ثم نهض أبي و قبلني، كانت هذة اول مرة يقبلني فيها ابي بمناسبة النجاح من دون ان يحملني بيدية من الفرح ، لقد اصبحت كبيرة ويداه نحيفتان .
لماذا يا أبي ؟ انا لم اكبر بعد ، حتى لو كبرت اريدك ان تحملني و تدور بي في الصالة ، اريدك ان ترميني في الهواء وابقى حياتي كلها معلقة في الفراغ تنتظرني يداك و تحميني من السقوط على الأرض ، أنا زعلت كثيراً منك ، لكني لم اقل لك حينها ، كنت اخجل ان اقولها امامك ، لانك كنت تحسبني صرت كبيرة . بين يديك يا أبي انا صغيرة حتى عندما أكون في الثلاثين من عمري ، انا دائماً صغيرة و معلقة في الهواء قريبة من يديك .
لقد نجحت ، ونجحت نادية و نجحت بيداء و مروة ، إلتقينا في حديقة بيت بيداء و نحن نضحك من الأولاد الذين كانوا نائمين الى هذة الساعة ، ولم يعرفوا بعد ان النتائج الوزارية قذ ظهرت حقاً ، بعد قليل ، خرجنا و طرقنا باب بيت احمد وقلنا لة لقد نجحنا ، أما انت أذهب الى المدرسة ، وسترى من هو الذي رسب بدرس الإنكليزي يا شاطر ، و فعلنا ذلك مع فاروق و نزار ومنافو باقي الأولاد ، بعد ساعة إمتلأت المحلة بالفرح ، لقد نجح جميع .
كان ذلك النهار نهاراً مميزاً لايمكن أن أنساه للأسف الشديد ،
إجتمع فيه الفرح و الحزن . الأفراح في محلتنا لاتدوم طويلاً . في هذة اليوم نفسة ، بعد ان تسلم نزار نتيجة الإمتحان ، كانت تقف في بابهم سيارة كبيرة سوداء اللون نوع شوفرلية ، سنتعود عليها في ما بعد ، إنهم في هذة الساعة يتركون بيتهم ، ويهاجرون الى خارج العراق ولن نراهم بعد هذا اليوم .
لم أكن أعرف وقتها معنى ان تهاجر عائلة من المحلة ، لم نكن قد تعودنا على مثل ذلك ، كان الحصار ليس قاسيا بالدرجة التي سيكون عليها بعد سنوات من الآن .
أمس ، سمعت إمي بالمصادفة تتحدث مع ام نادية عن الحصار ، ولكني لم اصغ اليهما جيداً ، لقد سمعت كثيراً هذة الأيام كلمة الحصار وكرهتها ، بسبب هذة الكلمة وحدها يجب ان لا نطلب من اهلنا الكثير ، وان نتحمل مزاجهم . بسبب الحصار فقدت أمي الراحة التي تعودت عليها وصارت تشكو من الملل ، ولا تحب ان نطلب منها شيئاً ، حتى اذا كان ذلك الشيء بسيطاً ولا يكلفها سوى كلمة واحدة ، تخيلوا ان امي صارت تتعب حتى من كلمة واحدة . اصبح ابي كثير صمت ويسرح في اغلب الأوقات و هو يتأمل سقف الصالة كأنة يشاهد المروحة للمرة الأولى . صار خروجنا من البيت قليلاً ، لم نذهب في هذة الصيف الى بحيرة الحبانية ، ولم نخرج في نزهات بعيدة .
تحركت السيارة السوداء ، بقى بيت ابو نزار فارغاً و سريعاً ما علاه الغبار وأصبحت اشجارهم كئيبة ، على باب بيتهم تلتف سلسلة حديدية طويلة يسبب منظرها الحزن . لقد هاجروا بالفعل ، فبإمكانك ان تعرف إنهم لن يعودوا ، فقط من منظر الأشجار وكآبة الجدران .
خلال أيام قليلة ، صار بيت قديماً تتحرك فية أشباح مخيفة ، حتى نحن صرنا نخاف ان نقترب منة ، لكن القطط لا تخاف ، فهي تقفز فوق السياج ثم تنزل و تتجول في البيت بحريتها ، لقد أصبح بيت أم نزار بيتاً للقطط الغريبة و الأشباح .
في العطلة الصيفية نفسها ، ليس بيت ام نزار وحدة من هاجر من المحلة ، بيت ام علي وبيت ام سالي هاجرا ايضاً ، ثم تبعهم بيت أم ريتا ، اصبح مشهد الدمع و التوديع عادياً ، في كل مرة ، نقف نودع صديقة تسافر مع اهلها من دون امل في ان نراها ثانية .
انة الموت من النوع الاخر تقول امي : ان يختفي احد مامن حياتك وليس لديك امل في اللقاء به ثانية ، وهذا يعني من وجهة نظرها ان احدكم بالنسبة الى الآخر قد مات . أمي دائما تجعل الأمور أكثر تعقيداً وكل شيء عندها مرتبط بالموت .
الموت هو الغياب الطويل الذي لا لقاء بعدة ، قد يذهب الميت الى الجنة لكن الذي يهاجر من بلدة فان الجحيم تذهب وراءة.
في بداية الأمر ، كانت الامهات يجلسن عند الأبواب في ساعة حزن رهيبة عندما تترك عائلة من المحلة بيتها في هجرة طويلة ، فيتذكرون الجيران الذين غادروا ، منذ اول يوم لوجودهم في الشارع ، حتى آخر لحظة صعدوا فيها السيارة ، ولكننا الآن أصبحنا معتادين على ذلك .
عندما نشاهد عائلة تصعد سيارة الشوفرلية السوداء الكبيرة ، نعرف انة مهاجرة من منظر الحقائب التي ترزم فوق سقف هذة السيارة ، يتوقف الجميع لوداعهم وينتهي كل شيء . ان الناس يتعودون بسرعة على التكيف مع الأشياء الحزينة إذا تكررت وأصبحت عادة طبيعية متوقعة ، الحزن الشديد يأتي من الأشياء التي لا نتوقعها ، لذلك كان الحزن في البداية شديداً على الذين هاجروا أولا ً ،ولكن هذا لايعني أننا عندما نمر على بيوت المهجورة ونتذكر أهلها لا نحزن ، على العكس تماماً ، يكون الحزن أكثر عمقاً والماً ، وحتى أكثر دموعاً من لحظة الوداع نفسها ، ليس لأننا نفتقد الناس الذين نحبهم ، ولكننا نتألم المنظر بيوتهم الجميلة وقد أصبحت غابات الصغيرة من الدخان . كنا في شهر تشرين الأول ، في السنة الأولى من الثانوية ، لقد تغيرت أمور كثيرة في حياتنا ، ويجب ان لا نضحك بصوت مسموع في الشارع ، ولا نكتب على الجدران ، كنا نمر انا ونادية امام بيوت الجيران الذين هاجروا ، وعندما نرى أوراق الأشجار اليابسة في حديقتهم نشعر بالألم ، تتمنى كل واحدة منا ، ان تتحول الى غيمة كبيرة وتنزل مطراً نظيفاً يغسل هذة الأوراق من الغبار .
أحياناً ، تدفعني رغبة عميقة ، أقترب من بيت ام سالي واطرق الباب ، أعرف إنهم لم يعودوا في بيتهم ، ولكنني أحب ان اطرق الباب ، هذا هو الشيء الوحيد الذي استطيع ان افعلة كي اتذكرهم واشعر أنهم لم يغيبوا من حياتي ، أنظر من فتحة الباب الى الكراج البيت ، اتخيل خطواتهم في الممرات واسمع اصواتهم وهي جامدة على الجدران ، ارى ابتسامتهم تلتصق بالنوافذ و أفرح بها ، ارى آثار إطارات سيارتهم مطبوعة على البلاط ، واسمع صوت أزيز المحرك وهو بنفث بخاراً ابيض ثم يدوي .
عندما كنت صغيرة وكان أبي بعيداً عن البيت ، وقعت مرة من السلم ، وسال الدم من أنفي ، حملتني أمي وهي تجري مسرعة نحو المستوصف الحكومي في المحلة المجاورة ، خرج أبو سالي من بيتهم وشاهدها تبكي ، دخل بسرعة وأدار محرك سيارتة ، وانطلق في أثرنا وأخذنا الى الطبيب ، كم اتمنى في هذه اللحضة ، ان يخدش انفي مرة اخرى ، اريد ان يأخذني أبو سالي الى الطبيب وهويحملني بين يدية ، لقد اشتقت إليهم ، إشتقت الى أم سالي وسالي و سندس و سوسن وسهير و سولاف ، إشتقت الى أن يخدش انفي مرة اخرى .
مثلما قلت لكم ، انا احب ان بهتم الآخرون بي حتى لو انخدش انفي وسال من الدم .
نزلت دمعتي في باب بيتهم ،وواصلت طريقي من دون ان اتحدث مع نادية بكلمة واحدة ، في اللحظات التي اكون فيها حزينة ، لا احب ان اتحدث مع احدهم ، نادية تعرف هذا ولا تزعل مني . لم يستمر صمتي طويلاً ، جاءت ملائكة ، الشيطانة كما كانت نادية تسميها عندما كانت معنا في الملجأ عام 1991، إقتربت منا ومن دون مقدمات قالت لنا :
-اني تركت مدرسة .
-ليش ؟!
سألتها انا ونادية في الوقت نفسة
-تركت المدرسة ، هذا آخر يوم لي فيها ، سأحرق كتبي و دفاتري في التنور ، أمي تطلقت البارحة ، طردها ابي من البيت ، سنبقى انا واختي الصغيرة معة .
-لماذا لم تذهبا انت و اختك مع ماما ؟ سألتها نادية
-امي شريرة ، اجابت بشهقة عميقة وراحت تبكي .
- كيف تقولين هذا عن امك ؟!
-لان ابي طيب ومسكين ولا يعرف عنها شيئاً ، وواصلت البكاء .
وقفنا انا ونادية مستغربتين من هذا الكلام ، نظرت الينا شيطانة وهي تتهيأ لتقول شيئاً اخر فكرت بة جيداً في رأسها :
-اعرف انكما تكرهانني منذ تلك ساعة التي رأيتكما فيها في الملجأ ،انتما سعيدتان لأن اميتخون ابي مع رجل غريب ، لكنني اكرهكما ايظاً .
ثم تركتنا وهي تردد بصوت عالٍ:
-اني شيطانة مو ؟اني اكره كل الجيران ، كلكم شياطين .
(الكاتبة /شهد الراوي )
•••••••••••••••••••••••••••••
صوت +كومينت =بارت 8
احبكم جداًجداً 💋💋💋
باي باي .... انتضروني لبارت جاي
أنت تقرأ
ساعة بغداد
General Fictionدخلت الي حلمها بقرة 🐄،دخلت دراجة هوائية 🚲،دخل جسر ، دخلت سيارة عسكرية 🚓، دخلت غيمة ☁️،دخل غراب 🦅، دخلت شجرة 🌳،دخل طفل 👶🏻،دخلت طائرة ✈️،دخل بيت مهجور 🏚، دخلت قطة 🐈، دخل خزان مياه 💦، دخل شارع 🛣، دخلت زرافة 🦒، دخلت صورة فو تغرافية 📸🌁،دخلت...