توقف الباص ، الذي كان يقلنا الى جامعة فجأة في منتصف الشارع ، قبل ان توشك إطاراته أن تدهس رجلاً مسناً يجر عربه حمل خشبية ، رفض أن يفسح لها طريق :
- ادهسني و خلصني من هذه الحياة ، لا اريد بعد هذا اليوم ان اعيش في هذا الزمن الحقير ، اريد ان اموت .
نزل الية السائق يتوسله كي يتنحى عن الطريق ، كان الرجل يائساً و يتمنى الموت من كل قلبه ، لكنه بعد القليل إنتبه لحاله و شعر بخجل من نفسه ، استجاب للسائق و سحب عربته الى الرصيف و جلس يبكي بمرارة .
كيف يمكن لرجل يريد أن يموت و يشعر بالخجل في الوقت نفسه ؟ ظل هذا السؤال يشغل بالي طول الطريق الى الجامعة ، اليس الموت يعني نهاية كل شيء ؟ لكن ... لماذا بقى مع هذا الرجل شيء من الخجل ؟ هل كان يريد ان يأخذه معه في موته ؟ هل يخجل الموتى أيضاً ؟ ماذا يستفيدون من خجلهم في العالم الآخر ؟ لقد أحببت هذا الرجل و تمنيت أن أعود إليه و أستمع لقصته ، بطبيعتي أحب الناس الذين يخجلون ، فهؤلاء وحدهم يمكن التفاهم معهم دون خسائر ، لأن الخجل صفة عظيمة تجعل من الإنسان إنساناً ، كنا في محلتنا نصفُ الناس الجيدين بأنهم طيبون و خجولون ، كلما صادفت شخصاً لا يخجل أدركت مع نفسي إنه انسان خطر و شرير ، الخجل ليس صفة دينية أو تربوية أو مبدأ أخلاقي ، إنه من هبات الوجود التي تمنعنا من إرتكاب الفظائع بحق غيرنا ، أحببت ( فاروق ) لأنه يخجل كثيراً و يحمر وجهة عندما يتعرض لموقف محرج ، أحبه عندما ينظر الى الأرض و هو يتحدث عن والده ، أحب حياءه من الناس عندما يكون وحيداً و يتحاشى المعجبين به لكونه لاعباً معروفاً .
ماذا لو فقد فاروق هذا الخجل ، هل سيبقى هو نفسه ، ماذا لو تبخر الخجل من حياتنا فجأة هل نتحول الى غابة ؟ هذه الغابة التي نعيش فيها هذه الأيام هي بمعنى من المعاني غياب الخجل الذي نزل علينا بغته .
وصلت الى الجامعة ووجدت ( فاروق ) ينتظرني وحيداً عند مكتب للطباعة في الجانب الثاني من الشارع ، تمشيت معه حتى مكان سيارته الجديدة التي ركنها في فرع بعيد عن الشارع العام ، وقبل أن يصعد إليها و يودعني قال لي ما كان يريد أن يقوله ولكن الخجل كان يمنعه :
- امي و خالتي غداً في بيتكم راح يخطبوك من أهلك .
- فاروق شنو هاي المفاجأة؟
- ليش مو خوش مفاجأة !
- لا ، بس آني ما مستعدة لهذا الخبر .
- فكري بالموضوع و عندك يوم كامل ، قال ذلك و هو ينظر الى الأرض .
- مو قضية أفكر بالموضوع ، انت تعرفني كلش زين شكد احبك بس هاي الظروف مو مال خطوبة و زواج .
- ليش ؟
- ما أعرف ، أهلي يمكن بهاجرون .
- آني موافق اتزوجك بأي مكان و بأي دولة و بأي قارة ، وين متروحين اروح وراك .
- حبيبي مو هذا الموضوع ، خلي نفكر زين قبل ان نتخذ قرار مو صحيح .
- على راحتك و لكن أمي وخالتي راح يجوكم باجر .
أدار ظهرة عني وهو غير سعيد بردي ، صعد الى سيارته الأساس ، كنت أحسب أننا مازلنا نلهو ، لماذا يتحول الحب الى شرط إجتماعي ، والتزام مثل واجب دراسيد؟
في الوقت نفسه نمت بداخلي بهجة غامضة ، لا تعرف كيف تشق طريقها و تعبر عن نفسها ، فرح سري مخنوق بالوساوس ، الزواج من حبيبها هو حلم كل فتاة ، لكنه من ناحية اخرى تضييق المساحة عالمها ، تضييق لمديات الحلم و نهاية لقصة لم تكتمل فصولها .
الحب في المراهقة مثل تدخين الأولاد الصغار ، هو رغبة للإنتقال الى عالم الكبار بفم طفل و سيجارة بالغة ، كيف يتخلى الطفل عن فمه لصالح سيجارة تحترق بين شفتيه ؟
هل انا مراهقة ؟ لقد تجاوزت ذلك العبث الطفولي منذ زمن ليست لدي رغبة في تكرار أخطاء الماضي الجميلة ، هل انا امرأة ناضجة ؟ لا أدري ؟
كيف يمكن ان اقول لفارووق انتي غير مستعدة نفسياً ؟! هل يعد ذلك رفضاً صريحاً ؟ كيف سيفهم هذا الشاب الوسيم و النجم الرياضي الموهوب ان احداهن ترده و ترفض الاقتران به ؟ انا لست احداهن ، انا حبيبتة .
انا احبه ، بل أموت عليه ، هذا الطائر الأبيض الوحيد في السماء الإرجوانية الكئيبة ، هو الشيء الوحيد الذي معة اسمي الحياة حياة و ليست سجناً كبيراً ، احب فاروق المراهق الرياضي في فريق المحلة ، احب ( فاروق ) الذي تتعرق يداي بين يدية و يرتعش قلبي معه ، ذلك الشاب الطيب الخجول ، الذي يحررني من خجلي ، ويطلق حريتي في الغناء ، لكن كيف سيكون هو نفسه زوجي ؟!
هل الحب و الزواج عالمان مختلفان ؟ نهران يجريان باتجاهين متعاكسين ؟ هل يمكننا السباحة فيهما بوقت واحد من دون ان نغرق في أحدهما ؟ فاروق .... هل أخطأت الهدف هذه المرة و سددت الكرة الى خارج الملعب حبيبي ؟
في ذلك اليوم نفسه، من دون مقدمات ، تقدم نحوى منذر الذي يدرس معي في القسم نفسه ، وقال لي إنني أعجبه ، تلعثمت كما لو إنني اسمعها أول مرة في حياتي ، لا أعرف كيف ارد على هذا الشاب المؤدب و الخجول أيضاً ، ليس لدي القدرة على ان امنحة يوماً كئيباً ، استجمعت طاقتي الإيجابية ، وقلت له بكل هدوء :
- انا مخطوبة يا مندز.
من هذه الجملة المباغتة ، إنتقلت من الحياة و إحتمالاتها الى عالم فاروق وحده ، لقد رسمت دائرة ضيقة حول نفسي ، دائرة تشبه(فاروق).
(الكاتبة /شهد الراوي )
---------------------------
أنت تقرأ
ساعة بغداد
Ficción Generalدخلت الي حلمها بقرة 🐄،دخلت دراجة هوائية 🚲،دخل جسر ، دخلت سيارة عسكرية 🚓، دخلت غيمة ☁️،دخل غراب 🦅، دخلت شجرة 🌳،دخل طفل 👶🏻،دخلت طائرة ✈️،دخل بيت مهجور 🏚، دخلت قطة 🐈، دخل خزان مياه 💦، دخل شارع 🛣، دخلت زرافة 🦒، دخلت صورة فو تغرافية 📸🌁،دخلت...