الفصل الخامس والخمسون والاخير

871 29 1
                                    


الفصل الخامس والخمسون والأخير


للحظة .... استبعد الفكرة تماما عن ذهنه ... حتى وهو يستنشق الآثار الباهتة لعطرها المألوف ... عطر رقيق كان يذكره دائما بصغر سنها بمذاق الطفولة فيه .. حيث يكاد في كل مرة يستنشقه أن يشعر بطعم الفراولة فيه في فمه كما في أنفاسه ...
لقد كانت تضعه ليلة أخذها إلى حفله الخيري .... عندما كانت بين أحضانه للمرة الأولى ...
ألهذا الحد تشوشت حواسه بها ؟؟؟ إلى حد أن يتوهم وجودها ؟؟ .. ولم تراها تأتي .. بعد كل ما فعله بها .. وما زال يفعله بها حتى الآن ... ؟
خطا إلى داخل الصالة وهو يخلع سترته ويرميها جانبا في إهمال غير معتاد منه ... ثم يحل ربطة عنقه بنزق قبل أن يتوقف تماما جامدا مكانه وعيناه تسقطان مباشرة على الشخص المكوم فوق أحد المقاعد الكبيرة ذات الذراعين ... لقد كانت أمان ..
رأسها منحني جانبا وقد غرقت في النوم بينما هي تضم ساقيها إلى صدرها .. بدت له صغيرة .. وخائفة .. رباه .. أتراه يوما يتمكن من السيطرة على خفقات قلبه في حضورها ؟؟
اقترب منها ببطء .. ثم جثى أمامها ينظر إليها عن قرب ... إلى وجهها الشاحب .. لقد كانت متعبة .. وكيف لها ألا تكون وهي حامل بطفله ... ومرغمة على تحمل توتر الوضع كله بينهما ...
قبل أن يمد يده نحوها كي يوقظها برفق تململت فوق المقعد ورأسها يتحرك من جانب إلى آخر .. شفتاها تتحركان بهمس ناعم لاسمه .. بينما انفرجت أصابعها المنقبضة لتسقط من بينها ورقة صغيرة مجعدة فتستقر على الأرض ..
بدون تردد ... رفع الورقة .. مدركا قدمها ... ورقة صغيرة من تلك التي تستخدم لكتابة الملاحظات .. لونها أخضر باهت مما جلب الابتسامة على شفتيه وهو يتذكر دفتر الملاحظات الصغير والمشابه الذي كانت أمان تحمله دائما في حقيبتها في باريس كي تخط فوق ورقاته .........
تسارعت أنفاسه وهو يفتح الورقة بيد مرتجفة مدركا فجأة ماهيتها ... ومن خلال الإنارة الضعيفة للصالة ... تمكن من قراءة كلمات كتبت بخطها الأنيق والناعم الذي يعرفه جيدا ...
( ربما أنا من دفعك للوصول إلى هنا ... ربما أنا من أردت هذا .. إلا أنني أعترف الآن وأنا على بعد ليلة من أن أكون لك .. بأنني خائفة ... لم أكن يوما أشد خوفا مما أنا عليه الآن ... لا للخطوة التي سأخطوها معك ... بل لأنني أخشى ألا أمنحك الحب الذي تستحقه ... والذي أعرف أنك تحمله لي في قلبك ...
يوما ما ... سأمتلك القوة على أن أفعل .. أنا لن أخشى أبدا الوقوف أمامك وقولها ... كل ما عليك فعله .. هو أن تكون معي .. وستفعل ... لأنني لا أمنحك خيارا آخر ) ..
اغرورقت عيناه بالدموع وهو يقرا الكلمات المخطوطة بأصابع مرتعشة ... لو أنه أصاب التقدير .. فإن أمان قد كتبت هذه الكلمات قبل ليلة من زواجهما في باريس ..

يتبع

:- فراس ..
رفع رأسه لينطر مباشرة إلى عينيها المشوشتين .. وكأنها لم تتجاوز ذلك الحد الفاصل بين الصحوة والمنام .. وهمست :- لقد كنت ..... لقد كنت في انتظارك ..
قال بصوت أجش :- أرى هذا ...
:- لم ... لم أقصد أن أغرق في النوم ...
تمكن من ملاحظة التورد الذي غطى وجنتيها رغم الإنارة الخافتة بينما غمغمت متابعة :- أنام كثيرا هذه الأيام .. ولا أعرف السبب ...
أحس بالعاطفة تكاد تخنقه وهو يفكر بأنه يعرف السبب ... إذ يتذكر جيدا شقيقته ملاك أثناء حملها برامي ... عندما كانت تتذمر من استغراقها في النوم في أوقات غير معتادة منذ حملها ....
هز رأسه وهو يقول :- هذا طبيعي ... إنها إحدى أعراض الحمل ..
رمشت بعينيها ووجهها يزداد توردا ... ثم اعتدلت في جلستها وهي تنزل ساقيها على الارض ... لم يتحرك من مكانه مبتعدا .. بل ظل جاثيا أمامها وهو يقول بهدوء :- من المفترض بك أن تري طبيبا كي نطمئن على حالك ..
وحال الجنين ... لم يقلها .. إلا أنها فهمتها .. تمكن على الفور من رؤية فمها ينحني من الجانبين في دليل على التعاسة وهي تهمس :- لا أستطيع ... ليس وأنا ... وأنا أخفي الأمر كما اتفقنا ..
لم يستطع مقاومة حاجته لأن يلمسها .. مد يده على الفور نحو وجنتها الناعمة يداعب ملمسها المخملي وهو يقول :- لأيام قليلة بعد .. حتى نعلن زواجنا على الملأ ..
قالت بقتضاب :- العالم بأسره يعرف بزواجنا يا فراس ... وأنا لا أهتم ... لا أهتم إطلاقا بما يقوله الآخرون ..
قال بحزم :- أنا أهتم ... أنت لن تدخلي بيتي كزوجة لي خفية عن الأعين كاللصوص ... ما حدث قبل خمس سنوات ... لن يتكرر مجددا .. أتسمعينني يا أمان ؟؟
عندما أشاحت بوجهها ... وقع بصرها مباشرة على الورقة التي كان يحملها بين أصابعه ... شحب وجهها وهي تعود لتنظر إلى عينيه لتدرك بأنه قد قرأها .. فقال بهدوء :- ما كنت لتحضريها معك لو لم ترغبي بأن أقرأها يا أمان ... صحيح ؟؟
أخفضت بصرها وهي تتمتم بارتباك :- أنا ... أنا جئت إلى هنا كي ...
صمتت ... وكأن البوح بسبب حضورها لرؤيته كان أصعب مما حسبت .. فقال بتوتر :- تستطيعين إخباري بأي شيء يا أمان ... مهما كانت المشكلة .. سنحلها معا ...
إلا إن تضمنت رغبتك بالرحيل وإنهاء علاقتك بي .. ليس مجددا يا أمان ... ليس وطفل مني ينمو بين أحشائك ..
مت يدها لتتناول الورقة من يده ... وتفتحها وتنظر إلى الكلمات المكتوبة عليها وهي تتمتم :- لقد كتبت هذه الرسالة قبل خمس سنوات ..
أحس بالحزن يغمر روحه وهو يقول بخشونة :- لقد أدركت هذا بالفعل ... إلا أنها لم تصلني قط ..
أخذت نفسا عميقا وهي تهمس :- لقد كتبتها في الليلة التي سبقت زواجنا .. قبل أن أنام وأنا أحضر نفسي للتسلل من شقة أبي للقائك صباحا .. لقد ... قد كنت أنوي منحك إياها بعد أن نتزوج ..
توتر جسده كاملا وهو يقول باقتضاب :- إلا أنك لم تجدي الفرصة إطلاقا كي تفعلي هذا ...
اعتدل واقفا ... وابتعد عنها وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره الفاحمة السواد فبدا لأمان متعبا للغاية .. مثقلا بالهموم .. فهتفت دون أن تفكر .. بصوت خرج منها ضعيفا .. مستعطفا :- أنا ... أنا آسفة ...
قال بخشونة :- عم تعتذرين يا أمان ... أنا من كذب عليك آنذاك ... أتذكرين ؟؟ تلك الكلمات التي سمعتني أقولها لوالدك .. لكم أتمنى لو أنك لم تسمعيها .. إذ أنني لن أستطيع أبدا محوها أو الادعاء بأنني لم أعنها ..
همست :- لقد كان لقائنا منذ البداية كذبة .. أن أعرف بأن أبي وضعك في طريقي متعمدا ..
ضحك بمرارة وهو يقول مقاطعا إياها :- لا يا أمان ... والدك لم يفعل شيئا من هذا القبيل .. عندما رايت صورتك في شقة أبيك .. عندما عرفت بأن الفتاة التي ضربتني بحجر ذلك الصباح وابنة عصام غالي كانتا شخصا واحدا ... طلبت من أبيك أن أراك دون حتى أن أفكر ... لا كي أخدعك ... لا كي أقيدك .. ولا حتى كي أقع في حبك .. ببساطة أنا أردت قضاء بعض الوقت معك .. إخفائي من أكون عنك كان ضرورة .. وإلا ما قبلت حتى النظر إلى وجهي .. أتنكرين هذا يا أمان ؟؟
أطل الحزن من عينيها وهي تهز رأسها نفيا .. استدار نحوها قائلا :- لقد أردت صديقا يا أمان .. وهذا ما رأيته فيك في البداية .. شخص لا ينظر إلي على أنني فراس الحولي .. شخص لا يحكم علي وفقا لما أملك .. لما أمثل .. للمسؤوليات التي أحملها .. لم أقصد ابدا أن أقع في حبك .. إلا أنني فعلت .. إنه الشيء الوحيد الذي كان صادقا في علاقتنا آنذاك ... وأنا لم أكذب عليك فيه أبدا ..

رسائل من سراب الجزء السادس من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن