الفصل الخامس والعشرين
فتحت جيرين باب شقتها .. ودخلت لتضيء المكان كله قبل أن تستدير نحو الرجل الذي تردد خلف الباب وقالت مشجعة :- هيا ... لا تكن خجولا ... تفضل ..
ضخما ... بطوله الفارع وكتفيه العريضتين .. من كان ليظن بأن رجلا مخيف الشكل مثله يمكن أن يبدو حرجا ومتوترا كما يبدو الآن ...
قال متوترا :- لا ... ما كان علي المجيء إلى هنا في المقام الأول ..
أدارت عينيها بسأم وهي تمنع نفسها من تذكيره بأنه لم يتوقف عن التذمر منذ التقطته أمام مزرعة كورتومولوش .. وطوال الطريق إلى هنا ... بصعوبة تمكنت من إقناعه بطريقة ما بعد أن عرفت منه بأنه لا ينوي مغادرة تركيا .. وأنه لا يمتلك فعليا أي مكان يذهب إليه في استانبول بأن يأتي إلى شقتها ..
( المكان واسع ومريح ... تستطيع البقاء الفترة التي تريد ... وقبل أن تعترض وتبدأ حديثك عن المباديء .. أنا سأنتقل للإقامة مؤقتا لدى صديقة قديمة لي ... حتى تعرف على الأقل ما تريد فعله في الفترة المقبلة ) ..
قالت بلطف :- توقف عن التردد ... لن أستطيع أن آكلك حتى لو أردت هذا .. إذ يقف عامل الحجم إلى جانبك كما ترى ... تعال لأعرفك إلى المكان ... سأدلك إلى الغرفة الإضافية .. ثم نتناول عشاء خفيفا قبل أن آخذ بعض أغراضي وأغادر ..
تساءل خلدون وهو يدخل إلى الشقة الصغيرة والمرتبة ... ذات السجادة الوثيرة الفاتحة اللون .. والأثاث البسيط إنما أنيق .. عما يفعله هنا حقا ..
الحقيقة هي أنه عندما غادر منزل كورتومولوش .. لم يكن قد اتخذ أي قرار أو وضع خطة مستقبلية لنفسه .. المنطق يقول بأن أول خطوة عليه القيام بها هي الاتصال بالسيد عصام غالي وإخباره بالمستجدات .. ثم انتظار أوامره بعدها ... وربما استقلال اول طائرة متجهة إلى الوطن .. غاسلا يده من كل هذه الفوضى في حياة عائلتي حولي وغالي ... إلا أنه لم يستطع ...
على الأرجح .... سيطلب منه غالي العودة الفورية .. مؤكدا ما أصبح خلدون يعرفه الآن بالفعل ... وهو أن أمان كانت بالفعل زوجة لفراس الحولي طوال السنوات الخمس الماضية ... وأن وجودها هنا .. تحت تحت حمايته .. كان منطقيا للغاية ..
كان على خلدون أن يستنتج بأن صلاحيات فراس الممنوحة إليه من قبل والد أمان يجب أن تنبع من سلطة شرعية ... إذ ما كان عصام غالي أبدا ليترك ابنته تحت حماية وتصرف رجل كل ما يجمعه بها هو صداقته مع والدها ...
كان عليه أن يعرف منذ لاحظ نظراته إليها عدة مرات .... عندما رآه يحتضنها مساء تعرضت للضرب على يد بعض المتنمرين .. بأنها لم تكن أبدا مجرد ابنة صديق له ...
كان عليه أن يعرف منذ البداية .. بأن استمرار وجوده حول أمان غالي لن يسبب له سوى الأذى ... فهاهو الآن .. حتى بعد أن أعفي من الخدمة ... وصرف عن العمل الذي كان يقوم به لخمس سوات متواصلة .. يرفض أن يعترف بانتهاء صلته بها ....
هاهو الآن ... حتى وهو يؤمن بعقم مشاعره ... فإنه يصر على البقاء حولها .. إلى جانبها .. يصر على أن يحميها بنفسه .. حتى وهي محمية بالعشرات من رجال الأمن الذين يثق بهم فراس الحولي ..
خلدون وحده يعرف بأن هؤلاء الرجال الأشداء كلهم .... لا يكفون لإبقاء أمان آمنة إن استسلمت يوما لأمر مجنون أرادت القيام به ...
كما يعرف ... بأنه الآن بالذات ... يمتلك كل الأفضلية في حماية أمان ... خاصة وأن أحدا لا يتوقع بقائه قريبا .. مراقبا من بعيد ...
خلدون سيبقى ... رغم كل شيء ... ولن يعود إلى الوطن حتى يراها وهي تستقل الطائرة ... عائدة أخيرا إلى حضن أبيها ...
:- خلف هذا الباب إلى اليمين غرفتي .... وإلى اليسار تقع غرفة الضيوف ... تزورني شقيقتي أحيانا قادمة من أنقرة لعدة أيام كل بضعة أشهر ... لذلك حرصت على إعداد غرفة إضافية لأجل استقبالها عند كل زيارة ..
فتحت جيرين الباب الأيسر ... وسمحت له بإلقاء نظرة سريعة على السرير المنفرد الذي على الأرجح لن يتسع لحجمه الضخم ... إلا أنه لم يقل شيئا ... إذ حتى الآن لا يعرف حقا ما كان يفعله هنا في شقة مديرة مكتب فراس الحولي ... تلك التي لم يرتح إليها قط ... والتي بدت له دائما منذ عرفها وكأنها تخفي أكثر مما تظهر .. إلا أنه لم يفكر إطلاقا عندما توقفت إلى جانبه في عرض الطريق عارضة عليه أن توصله إلى حيث يريد .. خاصة وقد كانت المزرعة واقعة خارج المدينة على أي حال .. وحاجته للسير طويلا حتى يصل إلى طريق مأهول يتمكن فيه من العثور على سيارة تقله إلى المدينة ..
أما قبوله للمجيء إلى هنا ... إلى شقتها .. فقد كانت بعد أن سألته إن كان هناك مكان يرغب بأن تقله إليه .. فكانت إجابته الصمت المطبق .. إذ كان لا يعرف أي أحد في استانبول ... كما كان لا يمتلك السيولة الكافية أصلا لاستئجار شقة أو حتى غرفة في فندق .. مما جعل عرضها بترك شقتها له خلال الأيام السابقة عرضا مغريا ...
هو ليس غبيا ... لابد وأن هناك سبب يدفعها لمساعدته .. شيء تريده منه على الأقل .. إلا أنه حتى الآن لا يمتلك خيارا آخر .. خاصة وأنها قد أكدت على مغادرتها الشقة تاركة إياها له خلال وجوده فيها ..
ابتسمت له ... فلاحظ للمرة الأولى أن المرأة الطويلة القامة .. السمراء والأنيقة بطريقة غير مريحة .. كانت جميلة حقا .. وقالت :- أنا متأكدة أنك تتضور جوعا ... سأعد شئا نأكله معا قبل أن أترك لك المكان ..