الفصل الثالث والعشرونتململت في وقفتها بعدم ارتياح وهي تقول بدون مقدمات متحاشية النظر إلى عينيه :- أنا حتى لا أعرف ما الذي أفعله هنا ..
قال بهدوء .. محاولا كبح المشاعر الجمة التي كانت تجتاحه لرؤيته لها :- اجلسي يا ملاك ... تكاد الفطائر أن تجهز ..
أشار بيده للنادل كي يسرع بطلبه المسبق .. ثم عاد ينظر إليها حيث كانت ما تزال واقفة مكانها وقال :- من المفترض بوجودك هنا أن يكون سببا لتوقف الناس عن التحدث حولي ... لا لإضافة المزيد ..
احمر وجهها وهي تسحب المقعد .. وتجلس .. بادية التوتر .. كانت تبدو متشنجة كقطة فوق صفيح ساخن .. لهذا الحد كان وجودها معه يربكها ... ولهذا الحد أيضا كانت فضولية اتجاهه .. كما كان هو فضوليا اتجاهها ... وقد كانت هذه علامة إيجابية .. صحيح ؟؟
منحها ابتسامته التي يعرف تأثيرها المهديء على الآخرين .. وهو يقول بلطف :- كيف حالك اليوم ؟؟
قالت وهي تنظر إلى أي مكان غيره :- بخير ... بخير .. مستعجلة إذ أنني تأخرت عن عملي ..
صمت للحظات قبل أن يقول مفاجئا إياها :- ما الذي حدث لنظارتيك ؟؟
حدقت فيه أخيرا مبغوتة ... ثم فتحت فمها لتقول شيئا .. ثم أغلقته .. وهزت رأسها وكأنها تخبر نفسها بعقم إخفاء الأمر :- لقد وقعت من يدي هذا الصباح فانكسرت ...
كبح ابتسامته وهو يستشعر التذمر في صوتها .. وأرغم نفسه على أن يسألها بهدوء :- ألا تمتلكين غيرها ؟.
تمتمت وهي تخفض رأسها :- لا ... أنا آسفة ..
شحب وجهه ... وقست ملامحه وهو يرى الخزي يفوح منها .. الخجل من نفسها .. من هويتها ... مما هي عليه .. فوجد نفسه يقول صلابة :- مم تعتذرين بالضبط ؟؟
رفعت رأسا مجفلة ... ثم ارتسم الادراك على وجهها فاتسعت عيناها صدمة .. وشحب وجهها وهي تتناول حقيبتها هامسة :- ما كان علي المجيء إلى هنا ؟؟
قبل أن تتمكن من النهوض كانت يده تسرع لتقبض على معصمها .. مانعة إياها من الحركة .. وصوته يقول بهدوء أخفى وراءه فولاذا :- أتتخلين عني مجددا يا ملاك ؟؟؟ لقد ظننت وجودك هنا كله يتعلق بتحسين صورتي أمام هؤلاء الأشخاص المتربصين بنا ..
نظرت حولها لتجد بعض العاملين ينظرون إليهما بالفعل وقد بدا عليهما الاهتمام ... فارتخت أصابعها حول حقيبتها .. وتمتمت :- هذا ... والإجابة المنتظرة عن سؤالي ...
ابتسم ... وهو يسحب يده تاركا معصمها وهو يقول :- هذا صحيح .... الإجابة المنتظرة ..
تراجع فوق مقعده عندما اقترب النادل حاملا الأطباق العامرة بالفطائر الساخنة والشهية .. وعندما ابتعد أشار لها جميل :- هل نبدأ قبل أن تبرد الفطائر ؟؟
بتردد ... مدت يدها لتتناول واحدة .. فتقتطع منها قطعة صغيرة وترفعها إلى فمها .. اتسعت ابتسامته وهو يرى نظرتها تذوب فور تذوقها مذاق الفطيرة الطازجة .. أتراها تعرف كم كانت تبدو جميلة ومعالم الاستمتاع تبدو جلية على وجهها ؟؟؟ .. كيف لامرأة مثلها أن تتحلى بقلة الثقة .. بالتردد .. بالقلق والخوف من الآخرين .. وهي على ما هي عليه ؟؟؟
لقد كانت جميلة .. إلا أن جمالها لم يكن ما جذب جميل إليها .. إذ عرف نساء فقنها جمالا بمراحل .. و قد كانت أنيقة .. بطريقة بسيطة غير متكلفة .. طريقة أظهرت بأن أناقتها شيء فطري لا يد لها فيه .. وقد كانت رقيقة .. إلا أن رقتها لم تكن فقط ما يوقظ فيه كل إحساسه بالرجولة والحاجة الدفينة داخله إلى حمايتها ...
ولا .... لم يكن لوني عينيها الفاتنين ما أبهراه فحسب فجعلاهما مركز أحلامه وأفكاره ...
لقد كان شيء آخر ما ناداه فيها ... شيء هو عاجز عن تعريفه .. شيء في روحها الهشة .. في ابتسامتها الطفولية التي لم تنجح أبدا في التأثير على أنوثتها الطاغية .. في وحدتها التي كانت صدى لوحدته ... في ضياعها الشبيه بضياعه .. لقد كان جزءا منه يرى فيها جزءا كان ناقصا من روحه فوجده اخيرا ..
ابتلع ريقه .. وشهيته تطير مع الهواء كما في كل مرة يكون معها .. مما اضطره لأن يذكر نفسه من جديد ...
الصداقة ما تريد يا جميل ... الصداقة لا غير ..
عندما لاحظت نظراته إليها ... توقفت هي الأخرى عن الأكل .. وتورد وجهها مجددا وهي تتنحنح قائلا :- أنا حقا تأخرت عن عملي ..
قال متفكها :- وهذا يعني أن أسرع فأخبرك بما لدي قبل أن ترمي الفطائر هذه المرة في وجهي .. صحيح ؟
عبست في وجهه ... ثم تنهدت قائلة :- أنا لست فظة بهذا الشكل في العادة ...
:- اهممم ... أنا فقط من اخرج الوحش الكامن داخلك .. أظنني أنا من يدين لك بالاعتذار ..
صمتت للحظة وهي تقول :- كيف حال ولدك اليوم ؟
:- مازن بخير ... لقد اتصلت بوالدته مساء وتأكدت من هذا ..
صمتت من جديد .. وأصابعها تعبث ببقايا الفطيرة وكأنها قد فقدت شهيتها هي الأخرى .. فقال برقة :- لم أكن مخيرا على الإطلاق ..
رفعت عينيها إليه بتردد .. فتابع موضحا :- تنازلي عن الطفلين لوالدتهم .. كان أمرا حتميا .. الأطفال .. بحاجة إلى والدتهم .. وأنا كوالدهم .. ما كنت قادرا على أمنحهم ما يحتاجون إليه حقا ..
تمكنت من استشعار الحزن وراء جمود لهجته .. فتمتمت :- كيف كنت لتعلم هذا دون أن تحاول ...
:- أنا أعلم في الواقع ... عن خبرة ... عن تجربة ... أنا وشقيقتي ترعرعنا بدون أم ... توفيت والدتي بعد ولادة مها بسنوات قليلة ... و ووالدي .. حسنا ... هو لم يتمكن من منحنا أي شيء على الإطلاق ..
أصابعه كانت تطرق بشكل رتيب فوق سطح الطاولة .. في علامة أظهرت مدى المرارة التي كانت الذكرى تخلفها لديه .. تابع دون أن ينتظر منها استفسارا :- أنا لا أعني طبعا الأشياء المادية .. أبي كان أكثر من قادر على توفير المأكل والمسكن والملبس ... والمربيات .. عدد كبير من المربيات والخادمات اللاتي ذهبن وجئن على مر السنين ... إلا أنه لم يمنحنا الشيء الوحيد الذي احتجناه ... حبه هو ..
همست وهي تشعر بمرارته تخنقها :- أنا آسفة ..
هز كتفيه وهو يقول :- لماذا تعتذرين عن شيء انتهى منذ سنوات طويلة ... عندما كبرنا أنا ومها بما يكفي .. كنا نأتي إلى هنا ... إلى الشقة التي أقيم فيها حاليا .. كانت لعمي المرحوم .. هو وحده من كان يمثل العائلة بالنسبة إلينا .. وظل كذلك حتى بعد أن مات قبل سنوات ... حتى عندما مات أبي لم نشعر أنا وشقيقتي بالخسارة كما شعرنا عندما مات عمي ...
هز رأسه قائلا :- عندما تم الطلاق .... كنت أمر بحالة من .... من الضياع .. أنت تعرفين بالتأكيد عما أتحدث .. الفشل في شيء كحياة زوجية كنت تتوقعين منها الكثير ... يتركك هشة .. ضعيفة .. حائرة .. متساءلة عن الخطأ الذي ارتكبته فأدى إلى ذلك الفشل ..
أحست ملاك بالدماء تنسحب من وجهها و كلماته تتردد داخلها ممثلة ما أحست به بالضبط بعد طلاقها ..
:- في تلك الحالة .... ما كنت لأتمكن من تقديم اي شيء لولدي ... لقد كانا بحاجة إلى الاستقرار .. إلى الأمان .. إلى أحد أبويهما في حالة من التوازن أنا لم أكن أتمتع بها ... ببساطة .. أنا لم أستطع أن أكرر خطأ والدي معي .. لم أستطع أن أكون أنانيا إلى ذلك الحد ..
تمتمت بعد لحظات :- ماذا عن زوجتك ... هل كانت ... أعني .. ألم تكن ...
قطعها ساخرا :- ألم تكن ضائعة مثلي ؟؟؟ لا ... على الإطلاق .. على اعتبار أنها تزوجت بعد ست أشهر فحسب من طلاقنا ... بسمة كانت أكثر نساء الأرض اللاتي عرفتهن توازنا وثباتا .. دائما كانت تعرف ما تريد .. وأيضا ما لا تريد
مثله هو .. رفع عينيه إليها ... فرأت شيئا لم يسبق أن رأته في زرقتهما القوية ... لقد رأت مرارة .. وحدة قاتلة .. وهو يقول :- أنا أعرف معنى أن أخسر أبنائي جيدا يا ملاك .. الأبشع .. أن أخسرهما وهما على بعد ذراع مني .. أن أتصل بهما .. فيضطر ابني بعد سماعه صوتي لسؤالي عمن أكون لأنه لم يتعرف إليه ..
تمتمت برفق :- أنت خسرتهما .. لأنك أحببتهما أكثر مما ينبغي ... وهو ليس عيبا .. بل هو ما يجعلك أبا صالحا .. أنا أظن بأنك فور أن تجد توازنك المفقود .. ستعود لأخذهما من جديد .. وعندها . أنا متأكدة من أنك ستتمكن من منحهما ما يحتاجان إليه وأكثر ..
حدق فيها للحظات طويلة .. عيناه الزرقاوان تلمعان بمشاعر جمة .. قبل أن يقول بصوت أجش :- أشكرك .
عاد وجهها يحمر مجددا وهي تلتقط حقيبتها قائلة بارتباك :- أه .. أممم .. أظنني قمت بدفع ديني كاملا .. وأستطيع الآن العودة إلى عملي بضمير مرتاح ..
ابتسم بتفكه وقد اختفى الحزن مرة واحدة من وجهه وقال :- أشكرك يا سيدة ملاك ... لقد أعدت إلي كرامتي المبعثرة .. ومطعمي المفقود ..
ابتسمت ... فأحس بقلبه يخفق بقوة وهو يلحظ التأثير الذي صنعته الابتسامة الغير مألوفة على ملامحها .. بينما كانت تقول وهي تقف :- هذا ما أفعله في أوقات فراغي كما تعلم ... لملمة الكرامات المفقودة ... و إنعاش عمل المطاعم ..
نظرت إليه بطريقة ذات معنى وهي تقول :- أشكرك .. على الإفطار ..
لقد كانت تشكره على شيء يتجاوز إفطارهما البسيط .. راقبها جميل وهي ترحل للمرة الثانية خلال أسابيع ... و تساءل شاعرا بغباء تساؤله .. عن يوم تأتي فيه فلا ينتهي برحيلها