#كبرت_فجأة 1
*السعودية
*قرية الباحة
*عام 1959
المال والبنون زينة الحياة الدنيا، فمن منا لا يحب أن يرى اولاده من أفضل الناس، بل وأفضل منه أيضاً، فنجاح إبنك هو نجاحك انت، فحسن تربيتك له السبب الحتمي وراء كل إنجاز سيقوم به يوماً.أكبر أولادي يدعى أحمد، لا انكر بأنه كان يسبق أقرانه بالفطنة والذكاء وحسن الكلام. برغم انه كان لا يتجاوز التسع سنوات، إلا أني كنت أعتمد عليه في الضيافةِ والترحاب.
أسعد به وأنا أراه يكبر أمامي، أسعد به وأنا أراه يحسن الضيافة لكل رجال القرية الذين إعتادوا زيارتي في الديوان الخاص بي، أسعد به وهو يرتدي ثوبه الأبيض المنسدل على قامته القصيرة، ويضع على رأسه الكوفية والعُقال، فكان يبدو بمظهره هذا بأنه رجل ثلاثيني صاحب كلام منمق.
لكن لا غنى عن دروس الحياة القاسية التي تفجع قلوبنا، فلم يلبث أحمد حتى أصابته حُمى شديدة أطاحت به في الفراش قرابة الأربع أيام.تملكنا الخوف من هذه الحُمى، وجافانا النوم في هذه الفترة حتى طبع قبلاته السوداء أسفل عيوننا، سهرنا انا وأمه لمراعاته في هذه المحنة. لتبدأ حالته بالتحسن في اليوم الخامس، لكن عندما استيقظ بدت لنا حالته أكثر سوءاً من ذي قبل.
كان يتصرف بتصرفات غريبة جداً، يصرخ على إخوته، وآصبح عدوانياً إلى أبعد الحدود، يرفض الإستحمام وتناول الطعام، بدا كلامه غير مفهوم بسبب تلعثمه الواضح في النطق، يفرك رأسه بهستيرية، واذا ما قلت له بأن يأكل او يستحم حتى يبدأ بالركض والهرب مني بين أروقة القرية، ويختفي عن الأنظار لنبدأ بالبحث عنه، فمرة نجده بين المنازل ومرة أخرى بين الجبال، كانت علامات الجنون واضحة عليه.
توجهت به إلى العديد من المستشفيات والأطباء المتخصصين وشيوخ الدين، لكن محاولاتي كلها كانت بلا جدوى، فلا أحد منهم تمكن من تشخيص حالته.
تعبت من كثرة البحث عن علاج له، فرضيت بالواقع المرير، مع الأخذ بزمام الأمور، فقمت بتهيئة غرفة خاصة به خارج المنزل، ليستقل بذاته وأضع حداً للمشاحنات التي تحدث بينه وبين اخوته.
كبُر أحمد وكبرت معه مشاكله، ان يكون لديك ولد يعاني من مرض مزمن وهو ذو بأسٍ شديد، أصعب ألف مرةٍ من تربية مئة طفل. فقد بات أحمد أكثر غنفاً من ذي قبل، لا يستطيع أحدٌ السيطرة عليه، وقد أكل الدهر مني عُمراً، وإشتعل رأسي شيباً، فقد غدوت الآن كهلاً لا أقوى على مراعاته وهو في أشد مراحل حياته قوة.
مع مرور السنين، تزوج جميع إخوته الذين يصغرونه بسنين، ولا يزال أحمد على حاله، نهتم به من بعيد فنضع له الطعام والشراب في غرفته، ويتناول هو ما يحلو له وفي أي وقت يريد، لانه اذا ما طلبنا منه تناول الطعام سيهرب من المنزل بلا أدنى شك، ونبدأ برحلة البحث عنه مرةً أخرى.
يتبع..
#بِــقَلَمـــي 💜🕊️