#قضية_في_السماء 2
لم نعد نملك الآن إلا جزءٌ بسيط من المال، لا بضائع، ولا رأس مال نعاود الوقوف به على أقدامنا من جديد، أصبحنا الآن من الناس الذين تغطيهم الديون إلى أخمص أقدامهم.
بدأنا بعملية البحث عن وظيفة بعد أن كنا أصحاب العمل، توفى والدي بالنوبة القلبية بعد مرور شهرين على هذه الواقعة. فباتت المسؤولية الآن على عاتقي لاني أكبر الأولاد، فذهبت للعمل في متجر لقطع الغيار، علِ بذلك أستطيع تأمين لقمة العيش لإخوتي ووالدتي.جلست في أحد الأيام أمام المتجر لأنظر إلى المارة وأستنشق الهواء العذب قليلاً، فشاهدت شاباً في مقتبل العمر يبدو انه في عمر الخامسة عشر، يقود دراجة هوائية ويربط علها إطارين، من النظرة الأولى لها عرفت بأنها من الإطارات التي تخصنا، فلا أحد يملك إطارات يابانية سوانا، وانا متأكد مما أقول.
طلبت من الشاب الوقوف وترجلت له، سألته وانا أتفحص الإطارات :
_هل هذه الإطارات للبيع؟
_نعم.
_حسناً سأشتريها منك لكن هل تستطيع تأمين إطارين أخرين أيضاً؟
_حسناً الآن سأحضرهم.بدأت اتبعه إلى ان توقف مقابل باب يحتضن عدداً من المخازن خلفه، ثم خرج وأعطاني الإطارات وسلمته النقود، وانا متأكد بأني على حق.
حملت الإطارات وتوجهت إلى المنزل وبدأت اسأل إخوتي فقالوا :
_هذه من الإطارات الخاصة بنا.
ولنقطع الشك باليقين، تسللت ليلاً برفقة اخوتي واولاد عمي وبعض الرجال الذين كانوا يعملون بمتجرنا من ذوي الخبرة. قفزنا إلى المخازن وتأكدنا بأن جميع البضائع خاصة بنا.
قدمنا بلاغاً للجهاز الأمني، فقاموا بإقتحام المخازن والقوا القبض عليه مع اثنتين من ابنائه، وأعادوا لنا ما تبقى من البضائع، وكان ما تبقى هو الربع فقط قمنا ببيعه وأخذ كلٌ منا نصيبه منه، وصدر بحقهم حكم الإعدام بعد ان تبين لهم بأنه قد قام بسرقة الكثير من المحلات وبعض عمليات القتل التي سجلت بحقه. وتم تنفيذ حكم الإعدام بحقه في عام 1986.الحياة تنتظر سقوطك فقط، حتى تبدأ بالنهش في أشلائك. توالت علينا المصائب وضغوطات الحياة حتى عام (1991)، تحدث معي عبر الهاتف عمي الذي يسكن بالسويد، وطلب مني الذهاب هناك فالأوضاع المعيشية هناك افضل، وبالفعل غادرت ومعي اخوتي واولاد عمي. ومن عام (1991) إلى عام (1993) في هذه المدة تزوج من تزوج ومنهم من أخذ الجنسية السويدية ومنهم من أخذه العمل، هكذا دواليك الى ان جاء اليوم الذي كنا نجتمع فيه كلنا. جلسنا جميعاً بأحد المقاهي وبدأنا نتداول أطراف الحديث. مر بالقرب منا رجل مسن ومعه أولاده الخمس، وسبحان الله قسمات وجوههم تبدو عربية عراقية، قلت لهم:
_يبدو انهم عراقيين.
قال أخي وهو يتبعهم بنظراته:
_نعم، ووجه الأب مألوف لكن لا ادري أين رأيته.
بدأت أطالعهم وانا أعيد شريط ذكرياتي، فشهقت ونظرت لهم جميعاً وقلت:
_هذا الرجل الذي أخذ بضائعنا.
_هذا محال الرجل تم إعدامه.
_اقسم لكم بأني أحفظ شكله عن ظهر قلب.
_دعونا نتبعه.
وبالفعل خرجنا جميعاً نتقفى أثرهم، إلى أن وصلوا إلى منزلهم، فبدأنا نسأل سكان الحي عنهم، قالوا لنا بأنهم عراقيون يسكنون هنا منذ أكثر من ست سنوات، ووضعهم الإجتماعي ممتاز.
نظرنا في بعضنا، فقلت لهم :
_انصتوا جيداً ،يجب ان نعرف قصته، فأنا متأكد بأنه ذات الشخص، وهو لم يرانا منذ ان قام يسرقة متجرنا، حتى في يوم المحاكمة لم يرانا، فمن المؤكد بأنه لا يتذكر وجوهنا، سندخل عليه الآن، بحجة أننا من نفس المدينة فكما تعلمون بالغربة دائمة ما يحنو أصحاب الجنسية الواحدة على بعضهم.
_حسناً يا مصطفى اطرق الباب.
وبالفعل طرقت الباب وأُذن لنا بالدخول، بعد التحية وتداول أطراف الحديث سألته:
_منذ متى وانتم هنا يا عمي؟
_منذ عام (1986)، اتيت هنا وانا هاربٌ من الإعدام بصحبة أبنائي.
_ ولماذا حكم عليك بالإعدام؟
_في عام (1985) تم إلقاء القبض علي وعلى إثتين من اولادي بقضية، وتم إصدار حكم الإعدام بحقنا، وكان لدي ابن عمٍ ظابط في المخابرات، دخل علي في عنبر الإعدام قبل إعدامي بأسبوع، وقال لي اتريد ان افك عنقك من حبل الإعدام انت وأبنائك؟ فوافقت لكنه طلب مبلغ كبير يقدر بنصف ما أملك، فوافقت بلا تردد أبداً.تنفس الصعداء ثم أردف قائلاً:
_قبل تنفيذ حكم الإعدام بيوم، دخل إلى العنبر ومعه ثلاث أشخاص كان قد احكم وثاق افواههم، ثم وضعهم مكاننا واخرجنا بسيارته وتوجه بنا إلى منزلي، وقال لي اخرجوا من هنا بأسرع وقت، في اليوم التالي سمعت بخبر إعدامي انا وابنائي الإثنان، لكن من تم إعدامه حقاً هو الثلاث رجال الذين وضعهم مكاننا، وهم من المتشردين في الطرق، فهو يعلم بأن لا أحد سيلاحظ غيابهم، لكن منذ ذلك اليوم وانا اموت باليوم الف مرة، فقد مات ثلاث اشخاص لا علاقة لهم بقضيتي. اخبرتكم بهذه القصة فهي تكاد تقتلني يا أبنائي. واتيت هنا في عام (1987).
_اي انه قتل ثلاث اشخاص بسببك يا عمي؟
_للأسف يا بني.
_اجعلهم أربعة إذاً.
_ومن هو الرابع؟
_والدي الذي مات بسبب سرقتك لبضاعته، والذي مات من القهر الذي فتك بصحته ليلاقي مصرعه بعد شهرين من سرقتك للبضائع الخاصة به.جحظت عيناه وهو يقول:
_أنتم أبناء سالم؟
_نعم، وانا إبنه الكبير مصطفى، الذي أجلسته في ذلك القصر بحجة إحضار النقود.
_أرجوكم سامحوني يا ابنائي.
_حتى لو أعطيتنا ما الدنيا كلها لن نسامحك، وليكن بعلمك أيضاً اذا هربت من قضاء الدنيا لن تهرب من الله يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وستلتقي بوالدي يوم الحساب، فعند الله تلتقي الخصوم.بدأ الرجل بالبكاء، فطلبت من اخوتي وابناء عمي النهوض وخرجنا من المنزل. في صباح اليوم التالي وصل لنا خبر وفاته إثر نوبة قلبية أردته ميتاً، فيبدو أن كلامي قد أثر به حقاً. آقسم لو انه أعطاني كنوز الدنيا كلها لن أسامحه على ما مررنا به بسببه.
..تمت..
تنويه :
القصة حقيقية بأحداثها وتواريخها.
#بِــقَلَمـــي 💜🕊️