جزيرةٌ قاحلةٌ خلفنا، وبحرٌ خاوٍ على عروشه أمامنا، رائحةُ الموت باتت تجوب المكان، ألسنةُ الشمس تحرق رؤوسنا، رائحةُ البحر التي بدأت تُصيبنا بالغثيان، اليأس يداعب وجوهنا بسخرية، لا نحمل معنا ما نسند به أنفسنا من طعام، والقليل القليل من الماء العذب الذي لو شربناه دفعةً واحدةً لن يروي ظمأ شخصٍ واحدٍ منا، كان قد حمله عوض معه في الليلةِ السابقه مع كيس تمرٍ صغير. كنا نهربُ من الفقر، ليفتح الموت لنا ذراعيه مرحباً بنا.
كان عوض أكثرنا قوة وصاحب شخصية قيادية، فبدأ يرشدنا على سُبلٍ للبقاء أحياء اطولَ فترةٍ ممكنة، فمن المحتمل أن يعودوا من أجلنا. إنتصفت الشمس السماء، لتبدأ بذلكَ الأرض بالغليان من أسفلنا، وتلطمنا أشعتها من فوقنا، لا شجرةً تحمينا ،ولا غطاءً يقينا من برد المساء.
وقف عوض ووجه كلامه لنا فقال : انصتوا جيداً ،لدي كيس تمرٍ واحد وقربةَ ماءٍ واحدة، اذا شعرنا بالجوع سنأخذ هذه الطحالب ونجففها بالشمس، ثم نتناولها، ومن يحتاج الماء سأعطيه بمقدار رشفه واحدة، حتى يتسنى لنا الحفاظَ على الماء لأطول فترة ممكنة.
توقف هُنيهة ثم إستطردَ قائلاً: لا تتحركوا من أماكنكم ولا تستنفذوا طاقتكم، سأحضر انا الطحالب بنفسي واجففها واعطي كل شخصٍ منكم حصته.
وبهذا بدأنا نتناول الطحالب المجففة، فكان من يكثر فينا من أكل الطحالب الممتلئة بالملح، يعطيه عوض تمرة، ويقول له بأن يُبقيها بفمه أطول فترةٍ ممكنة. مضت الأيام الثلاثة الأولى على مضض، لينفذَ التمر والماء في اليوم الثالث. تمكنَ منا الجوع والعطش، فبدأ الرجال بالبكاء، لنستيقظَ في اليوم الرابع على وفاة أولِ شخصٍ منا، شعرنا بإقتراب الموت من كل شخصٍ فينا، ليدق عوض على الوتر الحساس فقال: كلنا سنموت، سواء بين أهلنا او هنا، نحن نحمل بعضاً من الطاقةِ حتى الآن، فليحفر كل واحدٍ منا قبراً لنفسه، نحن الآن (15) شخصاً، لنبدأ بحفر (14) قبر، فأخر شخصٍ سيتوفى لن يجد من يدفنه.
بدأنا بالبكاء وحفر قبورنا، في غالب الأحيان كان عوض يجعلنا نرتاح لنحافظ على طاقتنا ويحفر هو عِوضاً عنا، عوض رجل في قمةِ الإنسانية والأخلاق حقاً. بعد مضي اليوم الخامس توفي شخصان، باشرنا بدفنهما.
في هذه الأثناء، كان عوض يذهب إلى شواطئ الجزيرة، يحمل ما يرميه البحر من أخشابٍ وسعفِ نخيلٍ وكل ما يحمله البحر بجعبته، وبدأ ببناء مظلة صغيرة جداً لا يمكنها ان تقينا أجمع، فكنا نضع فيها رؤوسنا فقط.
بدأ بعضهم بالدخول في حالةٍ نفسية حرجة، فيهرع إلى البحر من شدة العطش، فيشرب منه إلى ان يفقد وعيه ثم يموت. هلوسات أحدٍ آخر، وصلَ بهم الحد إلى السؤال بأن اذا ما توفيَ أحدنا هل نستطيع بأن نأكله. فنهاهم عوض عن ذلك قائلاً: كلنا سنموت، فلماذا نموت وقد أكلنا بعضنا، استغفروا واذكروا الله وصلوا إلى أن تموتوا، فلا يجوز ان ننتهك حُرمةَ الميت.
بعد القليل من الأيام توفي الجميع، وبقيت انا وعوض، فنظر عوض الي وقال: أحمد حاول ان تبقى في الظل قدر المستطاع، لا ترهق نفسك بتاتاً، وخذ هذه أخر تمرةٍ بقيت معي خبأتها لك، لم يتبقى الآن سوانا، وهناك قبرٌ واحد، الآن سأصنع من هذه المظلة صفيحة لتطفوا على الماء، وانت حافظ على طاقتك.
وهم بإنزال المظلة وصنعَ بالفعل صفيحة، فظننت بأنه سيدفنني وانا على قيد الحياة ويأخذ الصفيحة وينزل بها إلى البحر، فهي لا تحمل سوا شخصٍ واحد.
أنهى عوض من بناء هذا اللوح الخشبي، وكان يبدوا عليه الارهاق الشديد، فرفع يده بإشارةٍ لي بأن أحضر له، فهرعت له مسرعاً، قال لي: اسحبني وضعني في القبر.
بدأت بالبكاء وانا أحاول ردعه عن مراده، فأردفَ قائلاً: هذا اللوح سيحملك في البحر، علَ أحدهم يراك وينقذك، لكن لا تغادر الجزيرة قبل أن تدفنني.
تساقطت دموعي كهتان المطر، فقد ظننت فيه السوء بينما كان يستنفذ طاقته ليقومَ بالتضحيةِ من أجلي.يتبع..