بداخل كل شخصٍ فينا نزعة وطنية لوطنه الذي يعيش فيه، وبجانب تلك النزعة، حب اجتمع عليه جميع الشعوب العربية والإسلامية والإنسانية، حب من نوع أخر، لوطنٍ قد يكون لغيرك، او ربما تنحدر انت من اصوله، وهو حب الأرض المقدسية (فلسطين).
*عام (1947)
*قرية (القسطل) الفلسطينية.
*تقع بين بيت المقدس وتل أبيب.
*ممر التجارة القادمة من حيفا.
تذكروا دائماً أن لكل مثل حكاية ولكل قصيدة رواية.نعتبر أشهر ثلاث قبائل من أصول خليجية سكنت قرية القسطل، فنسكنها منذ عصر (صلاح الدين الأيوبي).
وبحكم موقعها المميز، كانت تعتبر خط الدفاع الأول، لمنع العصابات النازحة الطامعة بإحتلال فلسطين (إسرا.ئيل).اذا طلبتك أرضك للدفاع عنها، فليس بمقدورك التقاعص عن بذل الغالي والنفيس فداءً لها. وهذا تحديداً ما قام به رجال قريتنا الأشاوس، فبمجرد علمهم برغبة نزوح هذه العصابات إلى بيت المقدس، حتى قاموا بجمع الأموال والذهب من نساء القرية لشراء الأسلحة التي تلزمهم لحماية ارضنا، والدفاع عن مقدساتنا.
من بين الرجال الذين قدموا أرواحهم فداءً للوطن كان زوجي الملقب ب(السبع)، ذهبت لتلبية رغبتي الوطنية فحملت كل مصوغاتي الذهبية وبعتها وإشتريت بثمنها (بارودة) لزوجي. لا أخفي بأني كنت أتفاخر به بين النساء لبسالته وشجاعته التي يتحدث عنها أهل القرية جميعاً، فقد كان اسطورتي التي اتباهى بها أمام الملأ.في كل ليلةٍ كان يجتمع الشباب الأشاوس، ويخرجون لتلقي تلك العصابات حال دخولهم إلى القرية، وتدور بينهم معارك طاحنة. ليعودوا بعدها وهم يمتطون خيولهم، لكنهم لا يعودون قبل أن يحدثوا في صفوفهم العديد من الخسائر. فنهرع بدورنا إلى إستقبالهم ليأنسوا بنا، ونساعدهم اذا كان بينهم جرحى. ثم يبدأون بمديح (السبع) الذي يُبلي بالمعارك أفضل من الجميع، فيحدث بأفعاله جلبة في القرية تُشعرني بأنني زوجة الزعيم.
في أغلب الأوقات كان (السبع) يبقى وحده في الجبال بين الضباع والسباع والحيوانات المفترسة، كان يحمل في صدره قلباً أشد من الصوان، ألين من الماء، فبرغم صلابته لا انكر بأنه كان خيرَ زوج إختاره لي القدر، فكان يحمل لي حُباً تحسدني عليه جميع نساء القرية.
من بين جميع خيول القرية، كانت الفرس الخاصة ب(السبع)، هي أشهرهم، فمن ينظر لها يعرف بأنها له، فشهرتها من شهرته.
في أحد المعارك التي قامت دفاعاً عن قريتنا وبيت المقدس، عاد الفرسان في نهاية اليوم بعد انتصارهم، وكالعادة خرجنا لإستقبالهم بالورود والماء ليضمحل به ضمأهم.
كنت أحمل الورود التي ترافقني دائماً لأستقبل بها فارسي المبجل وألقي بها عليه، بدأت أبحث عنه في وجوه الرجال، لكنني لم أجده، ظننته قد عادَ إلى الجبال التي يذهب إليها دائماً، وقع بصري على ذلك الفارس الذي يمتطي تلك الفرس التي قام بتغطية وجهها وجزء كبير من جسدها. بدأ الشك يتسرب إلى كل جزءٍ في كياني، فمثل هذه الحركة الغريبة، لن يقوم بها أحد إلا اذا كان يخفي سراً لا يرغب بالبوح به في هذه اللحظة.
أمعنت النظر به، فتأكدت بأنه الفرس الخاص بالسبع، أيقنت آنذاك بأن مكروهاً قد أصاب قُرةَ عيني. حاولتُ جاهدةً نكران الأمر، لكنني ما زلت أمعن النظر بالفرس، حتى وقع نظري للمرة الثانية على (الخرجة) التي على ظهر الفرس، وقد ظهر منها طرف بارودة.
تعرفت عليها مباشرة، فانا من إشتريتها، وقام السبع بوضع قطعة قماشية من الثوب الخاص بي، فقال لي آنذاك : سأضعه على مقدمة البارودة حتى أتذكر بأني أدافع عن عرضي وشرفي.
هرعت وانا أكذب شكوكي إلى ذلك الفارس الذي يمتطيها وكشفت الغطاء عن الفرس، فتأكدت بأنها لزوجي السبع. سألته والعبرُ تخنقني:
_هذه الفرس والبارودة للسبع، ومن المستحيل أن يعطيهما لأحد إلا اذا ما أصابه مكروه. أرجوك أخبرني أين السبع؟؟
لتنزل إجابته على قلبي كالصاعقة، فقال :
_ الرجل إستشهد بعد أن قاتل بكل بساله، لكنهم إجتمعوا عليه لأنه كان أكثر من يحدث عمليات قتل في صفوفهم، وكما تعلمين فإن الكثرةُ تغلب الشجاعة. فقد كانت أخر غزوة حاكوها متعمدين ليقوموا بقتل السبع.جثوت على ركبتي وانا أطالع البارودة وهي مُطلة من الخرجة، وبدأتُ أنشُج بالبكاء والنحيب، بكيت حتى فرغ معين عيني، فما عادت دموعي تشفي غليلي الآن، بدأت اردد بهذه الكلمات: "طلت البارودة والسبع ما طل"
رددتها حتى بدأ كل من في المكان يشاركونني البكاء ويرددونها معي، فقدتك اليوم يا قرة عيني، كنت أنت وحدك إنتصاري، سأفتقد كل تفاصيلي معك يا حبيب القلب، فليجعل الله الجنة دارنا.
..تمت..
أصبحت هذه الكلمات مطلع لأشهر الأغاني الفلسطينية، والتي أصبحت اليوم من (الفلكلور الفلسطيني) الذي نسمعه دائماً في الأغاني القديمة.
تنويه:
القصة حقيقية بجميع أحداثها.
#حنان_جناجرة 🖤🐼