اذا ما دق الفقر على وتر حياتك وحولها الى جحيم، فأنا على ثقةٍ بأنكَ ستتعلق بحبال الأمل، حتى لو كنتَ على يقينٍ بأنها صعبة.في بداية الثمانينات في السودان، دقَ الفقر الفاحش ابوابَ قريتنا الصغيرة، كنت أعمل فيها برعي الأغنام إلى أن أصبحت الحياةُ حقاً لا تطاق، انام ولم يدخل الزاد إلى فمي، أحياناً انام وانا اربط على بطني بوشاحٍ ليخمدَ جوعي. سمعت من اهالي القرية بأن أحد مالكي القوارب يقوم برحلاتٍ بحرية متوجهة إلى السعودية بسعرٍ زهيد، فسيدخلون إلى الأراضي السعودية عن طريق التهريب، للعمل بأجورٍ عالية.
شعرت بأن الحياةَ قد فتحت لي ذراعيها لتحتضنني بين ثناياها وانا اودع الفقر، فعزمت على السفر رغم اعتراض أهلي على ذلك لاني كنتُ حينها لم اتجاوز ال(18) من عمري، قمت بتحضير أوراقي الرسمية جميعها ووضعتها في أكياس، خشيةً عليها من التبلل اذا ما هبت عاصفةٌ هوجاء.في اليوم المقرر للسفر ترجلت الى الميناء في (بوتسودان) ، وجود الحشود البشريةِ هناك كانَ سبباً جَلياً ليبعث الإطمئنان في قلبي، فلن اذهبَ بمفردي، وما زادَ الطمئنينةَ أيضاً، أن هناك بعض الرجال من قريتنا. بالحالات الطبيعية هذا القارب يحمل (40) راكباً فقط، لكن في أوقات التهريب كان يصعد على متنه قُرابةَ ال (90) شخصاً.
بدأت رحلتنا في البحر الأحمر، وتحركَ القارب يُمزق صفيحةَ المياه المحيطةَ بنا. صغر سني، شعوري بالوحدة رغم من هم حولي، خوفي من المجهول، كل هذه الأسباب كانت كفيلةً بجعل الخوف يتسرب الى ثنايا قلبي.
مضى اليوم الاول بسلام، لكن في فجر اليوم الثاني بدأت عاصفة هوجاء تلطم القارب ، وازدادت الأمواج إرتفاعاً، والقارب يموج فينا يميناً ويساراً، فهَمَّ الرجال بإنزال أشرعةِ القارب، محاولةً منهم ليحدوا من سيره الذي أصبحَ متعرجاً.
هدأت العاصفةُ شيئاً فشيئاً، لننامَ أخيراً بعد أن قام الرُبان بإطفاء المحرك، فقد كان يُحدث دوياً صاخباً. لشدة ازدحام القارب كنا ننام ونحن جالسون، أجسادٌ فوقَ أجساد، فالراحةُ ليست مهمةً اذا ما كان الاحتشاد البشري في القارب إلى هذا الحد.
إستيقظنا في اليوم الثالث لنجد أنفسنا ضائعينَ بين جنبات البحر الأحمر، وهناك على مقربةٍ منا، تطل جزيرةٌ بأرضها الجرداء الصحراوية القاحلة، بدأنا نضرب أخماساً بأسداس، فكيفَ لنا بمعرفة طريق العبور، او حتى طريق العودة.
إقترح علينا الربان بأن نترجل من القارب، ليهموا بتنظيفه ونرتاحَ هذه الليلة، ثم نُدبرَ مصبحين، وبالفعل هذا ما حدث، بعد ان اسدل الليل جُنحه، صعدنا لنبيتَ في القارب، فقال لنا الرُبان : حتى ينام الجميع ونحصل على جزءٍ من الراحة، فلينزل بعضنا وينام في الجزيرة.
نزلَ (16)راكباً وكنت انا من بينهم، فكنت اريد ان استلقيَ على الأرض، وخرج معي بعض الرجال ومن بينهم واحد يدعى عوض، وصلنا إلى الجزيرةِ سباحةً فلم نقدر على جعل القارب يقترب أكثر من الجزيرة، فهي لا تحتوي على ميناء.
أمواجٌ خفيفةٌ تتخبط ، ونسماتُ رياحٍ عليلةً ليلاً، بتنا من شدة التعب بلا سابق إنذار. اشرقت الشمس واستيقظنا، نظرنا نحو البحر لتكونَ هذه الفاجعة، فلا أثرَ للقارب، كانت الأمواج الخفيفة قد سحبته بعيداً عنا وتاهوا عنا، فلا سبيلَ لعودتهم لنا بتاتاً.يتبع..