تلبدت سماء المدينة بغيوم فصل الشتاء، حاملة نفحات من روائح التربة المبتلة إلى انفاس السيدة مطر، تلك المرأة الخمسينية اللتي طبع الزمن آثاره على ملامحها الناضجة...فمنذ دخلت معركة الحياة وجدت نفسها بزوبعة من المشاكل والتحديات اللتي جعلت منها صلبة كالصخر...جامدة بوجه الرياح العاتية...صامدة كالجبل ضد عواصف الثلج المميتة...
تأملت منزلها المتوسط والمتواضع...اللذي لطالما كان ملجأ طالبات الجامعة القريبة منها...تعرفت على فتيات كثيرات خلال تأجيرها غرفا مستقلة فردية لمعضمهن...لكن ثلاثة منهن، حفرن بقلبها وكيانها واعتبرتهن كبناتها وليس فقط كنزيلات...يحملن صفات مشتركة كثيرة...أبرزها اليتم...وقلوبهن كالبلور...
اعدت قهوتها المفضلة ثم جلست فوق كرسيها اللذي يقابل الشارع الخارجي...سحبت البوم الصور اللذي يحمل أكثر الذكريات المحببة لقلبها...ابتسمت عند رؤية ريم...اللتي لطالما كانت ناعمة ومدللة، وأكمل زوجها تدليلها...تخرجت منذ أربع سنوات وغادرت إلى بيت زوجها مباشرة، ولديها طفلة صغيرة كالوردة...
انتقلت بنظراتها إلى منال...قوية الشخصية...ذكية وصلبة...لا تذخر جهدا للتعلم والمثابرة، عقد قرانها مؤخرا، وتعمل بشركة كبيرة لصنع الأجهزة الإلكترونية...إنها بطريق الإستقرار...وستطمئن عليها قريبا...
أما الفتاة اليافعة ذات العشرين سنة الواقفة وسط الفتاتين...فهي ياسمينة...الرقيقة الهشة والفاتنة...والأكثر تعاسة أيضا...كانت تعيش بقرية مع جدها وأعمامها...وانتقلت للعيش بهذه المدينة كي تلتحق بدراستها الجامعية منذ عامين، وهي لاتزال تقيم بمنزلها هي ومنال، منذ رحيل ريم...كما لا تزال نائمة والعاشرة قاربت على الوصول...لكن لا بأس اليوم يوم عطلتها ولازالت تشعر بالإرهاق...
- ياسمينة...ألن تستيقضي؟ أم أنه سبات الكوالا؟
وقفت ياسمينة خلفها فقد علمت مطر أنها مستيقضة وهي تقترب منها بحذر قصد مفاجئتها، ناسية أن هذه المرأة بالذات، حادة اليقضة والذكاء، ولن تستطيع الإيقاع بها على حين غفلة...
- لقد كشفت!
- كما يحصل دائما!
ابتسمت لها ثم قبلت خدها...قربت الكرسي إليها وجلست عليه متنهدة بعمق...
- تأخرت بالنوم اليوم!
- لا بأس، لقد درست كثيرا بالأسبوع الماضي، ويجب ان ترتاحي قليلا علك تستعيدين نشاطك!
- ليس مسموحا لي بالراحة كما تعلمين، يجب علي العمل للخروج من سطوة اعمامي...لا اريد أن ادين لاحدهم بشيء رغم أنهم يصرفون علي من مال والدي رحمه الله...
- دعك من التفكير بهذا الآن...استريحي ولا تفكري بشيء غير الراحة!
ابتسمت لها بامتنان، ثم علت نظرة ماكرة تعابير وجهها الجميل، لتقول:
YOU ARE READING
قبضة من حديد
Romansaرواية بقلمي... تعالو نبحر معا بأحداثها... بقصص البطلات الثلاث...أقدارهن...مصائرهن...