الفصل الحادي عشر

2.8K 153 46
                                    

الكثير من أحداث الطفولة، أحيانا يراودنا شعور وكأنها تطايرت، وانمحقت تماما من الذاكرة، كأنما لم يكن لها وجود من الأصل، إلا أن هناك رغم ذلك بعض ومضات من الماضي، تأتي على البال بين الحين والآخر، منعشة الذاكرة لمواقف عدة حدثت آنذاك، وتدريجيا مع اعتصار رأسك، ترى أطيافا كثيرة تجول في ذهنك، بعضها مستحب تذكره، وآخر تود لو تفقد الذاكرة عند تخيل ملامحه، غاص فكر "عاصم" مكرها في ذلك الحدث، الذي ترك آثارا بالغة الوطأة على نفسه، وإلى الآن بصماته ما تزال عالقة في ذهنه، ومما لا شك فيه؛ أنه كان واحدا من الأسباب التي شوهت براءته، وعكرت صفاء روحه، كما دنست نقاءه، ناجما عنها تكوين شخصية غير مستقيمة، تنحرف انحرافا ملحوظا عن طريق الصواب، واجدة راحتها في ميلها إلى الموبقات، والأفعال المشينة.

ما تزال الهيئة الواهنة لذلك الرجل الجالس أرضا، والمكبل اليدين والقدمين، ووجه مليء بالخدوش والكدمات الحمراء، تأتي أمام بصره، والذي كان يعمل موظفا في أحد أفرع الشركات، التي كانت تابعة آنذاك لوالده وصديقيه، ارتجافة جسده كانت مرئية له، وواضح عليه تعرضه لتعنيف شديد وإعتداء بالضرب، من رجال والده بالتأكيد، كلماته ما زال يتردد صداها في أذنيه، عندما ازداد انتحابه وهو يستجدي والده بإذلال:

-أرجوك يا كمال بيه ارحمني، انا مراتي حامل، ابني لسه مشافش الدنيا، عشانه هو والنبي.

انفرج ثغر "كمال" إلى الجانب بسخرية، فقد كان غفرانه لفعلته أمرا مستحيلا، لما كان سيلحقه به من أذى، وضررا كبيرا في عمله بوجه عام، وحياته الشخصية بوجه خاص، إذا كان قد نجح في إيصال الملفات التي بحوذته، إلى أي من شريكيه، والتي تثبت تلاعبه في نسب المواد الفعالة للأدوية، التي يتم تصنيعها في مصانع شركتهم، حدجه بنظرات يتطاير منها الشرر، ودنا أكثر منه، باعثا بداخله المزيد من الوجل، وهو يدمدم في سخط:

-وانت ليه مفكرتش في ابني! وانت واخد الورق ده ورايح توصله ليحيا أو هشام، مانا كنت هتسجن وقتها وابني حياته هتضيع، مفكرتش فيه وقتها لييه!

ارتعدت فرائصه من هيئته الباعثة على الرهبة، وصوته الهادر الذي لبك سائر جسده، وألجم لسانه عن التفوه بعبارة مفهومة، وهو يحاول التبرير مرددا:

-أنا.. أنا مكنتش اعرف انه...

لم يسمح له بفرصة للدفاع عن نفسه، واختلاق أي عذر يجعله يرأف به، وصاح به مقاطعا كلماته المتلعثمة بعصبية شديدة:

-بلاش كدب، ومتحاولش تبرر، ده مش هيخليني اتراجع عن اللي هعمله فيك.

آنذاك حانت منه التفاته تجاه ابنه، الذي اعتاد على اصطحابه معه عند خروجه الأونة الأخيرة، محاولا جعله يعتاد على مثل تلك المواقف المشحونة، حتى يشتد عظمه منذ صغره، لكي يكون ذراعا أيمنا له بعدما يكبر، رآه ممسكا بالسلاح الذي قد تركه على أحد الكراسي، يتفقده بانبهار شديد، انشق ثغره بابتسامة لئيمة، فقد طرأت برأسه فكرة جهنمية، عاد ببصره نحو الآخر الذي لم يكف عن الإرتجاف، خوفا من بطشه، وراح يخبره بصوت آجش متشفي:

مشاعر مهشمة الجزء الثانى - لم يكن يوما عاصما (مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن