الانتحار ●

366 12 6
                                    

لقد مرت الأيام بسرعة كبيرة، و ها أنا ذا جالس على كرسيي أحتضر و أقرأ قصة حياتها التي دونت في هذه المذكرة. كلّما أتمناه هو أن أتذكر من هي صاحبة هذا الكتاب......

   لقد بدأ كل شيء في أوائل فصل الشتاء، حيث كان لا يزال الجو دافئا بعض الشيء، عندما التقيت بذلك الفتى آزاد الذي غير مجرى حياتي.
   آزاد فتى عمره 20 سنة، يدرس في جامعة مدينته. يعرف عن آزاد على أنه فتى يحب مساعدة الجميع كثيرا، و قد كان تلميذا مشهورا في الجامعة. يتميز هذا الفتى بسرعة بديهة كبيرة و ذكاء حاد، لكن عل الرغم من ذلك كانت نقاطه متوسطة و لم يكن ابدا من الأشخاص المتفوقين. في إحدى الأيام الربيعية الهادئة، أظن بأنه كان عائدا إلى منزله في حوالي الساعة السادسة بعد أن أنهى يوما حافلا من الدراسة، عاد فجأة بخطى مسرعة جدا إلى المدرسة، أظن أنه نسي شيئا ما هناك. عندما اجتاز الباب الرئيسي للجامعة، لاحظ فتاة ذات شعر اسود طويل جدا، تبكي وراء احدى القاعات، لقد كانت أنا. و بما إن آزاد شخص يحب المساعدة، لم يستطع أن يتجاهلني و يكمل طريقه .

أتمنى لو أنه لم يراني أو كان مكانه شخصا آخر غيره.

ثم سألني: "آ... آسف على التطفل لكن، لماذا تبكين هنا؟" أبيت إجابته و ظللت أنظر إلى الأسفل بينما أغطي وجهي بذراعي. ثم سألني مرة أخرى:" أظن انه ليس من حقي أن أسألك عن سبب بكائك، أنا آسف عن ذلك. لكن هل يمكن أن أساعدك في شيء ما، مثلا أن أتصل بأمك او بشخص من عائلتك كي يصطحبك إلى المنزل؟" سماع كلمة "أمي" وحدها جعلني ارتعش من الخوف ، لذلك أجبته :" لا أرجوك إياك و أن تخبر أمي بما رأيته الآن. " كان صوتي متقطعا بسبب البكاء، لكنني أدركت بأن آزاد لاحظ في صوتي شيئا آخر غير ذلك، لقد لاحظ خوفي و قلقي الشديدين و ذلك ما استنتجته من كلامه" لا .... لن أفعل ذلك بالطبع، فأنا لا أعرف امك حتى. لذلك اهدئي من فضلك( ثم أخذ قنينة ماء من محفظته و أعارني إياها ) خذ اشرب بعض الماء و اغسل وجهك. سوف اظل معك هنا الى أن تهدء و بعدها سآخذك الى المنزل. قد يبدو ذلك كثيرا بالنسبة لشخص لا تعرفينه لكن لا تخافِ، فأنا طالب في هذه الجامعة ايضا و لدي بطاقة الطالب سوف اريها...." _" شكرا جزيلا لك. لكنني لست خائفة منك ، فأنت الطالب آزاد من شعبة البيولوجيا" تفاجأ آزاد ثم قال لي:" هذا مفاجئ حقا، إذا يبدو بأنك تعرفينني. إذا كنت كذلك فهذا سيجعل الأمور أسهل. لكن كيف تعرفتِ علي؟ و من أنت ؟ " أجبته بعد أن شربت بعض الماء و توقفت عن البكاء:" أنت أيضا تعرفني، لكن يبدو أنك نسيت. أنا أماليا من شعبة الاقتصاد، لقد التقيت بك عندما كنت أقوم بجولة استطلاعية على نوادي المدرسة تحت طلب الاستاذ. لقد التقيت بك في نادي الرسم و قدمنا أنفسنا هناك." _"آه... هكذا إذا. أنا آسف جدا، فأنا التقي بالكثير من الأشخاص لذلك يصعب علي تذكرهم جميعا." كان من الواضح لي بأن آزاد أصيب بالإحراج لأنه نسي اسمي، لكن ذلك لم يزعجني فمن سيأبه بتذكر فتاة مظلمة مثلي.
  أجبته و أنا مبتسمة ابتسامة باردة كي أمحو حرجه  :" لا داعي للأسف، فهذا شيء عادي لشخص مشهور مثلك يلتقي بالعديد من الأشخاص كل يوم."
" إذا، هلا أخبرتني ما السبب الذي جعلك تبكين هكذا؟ إن لم تمانعي بالطبع." طأطأت رأسي و كنت أفكر في تلفيق كذبة قد يصدقها، لكنني عندما نظرت إلى وجهه البريء و نظارته الجادة في مساعدتي لم أستطع أن أنطق و لو بكلمة كاذبة. أتذكر أني شعرت بتغير ملامحي لحزن عميق قبل أن أبدأ كلامي" في الحقيقية... لقد حصلت على علامة سيئة في امتحانات منتصف السنة..... لكن ليس هذا ما جعلني حزينة، بل ما أحزنني بالفعل، هو .." ثم توقفت عن الكلام بعدما انفتحت نافذة القاعة بشكل عنيف من تلقاء نفسها مصدرة صوتا مرتفعا. شعرت بالقلق ما إذا كان يتجسس أحدهم علينا و يخبر أمي بذلك لكنه قال:" لا تقلق من سماع شخص آخر لمحادثتنا، فأنا متيقن بأن الجامعة فارغة. كما و لقد تعودنا على مثل هذه الحوادث التي صارت تحدث منذ سقوط ذلك النيزك قبل تسع سنوات." لقد تعجبت من شدة ذكائه و دقة ملاحظته، كان يتحدث كما لو أنه يقرأ أفكاري، و هذا ما جعلني أثق به أكثر. لذا أتممت كلامي و قد محيت فكرة الكذب من ذهني تماما." كما قلت سابقا، ما احزنني حقا، هو أنني صرت مصدر عار لعائلتي. جميع أقاربي يمتازون بحياة دراسية متفوقة. و أنا أيضا كنت كذلك، لكن بعد موت جدتي بأيام قليلة من سقوط النيزك، دخلت في حالة اكتئاب حاد. رغم ذلك كنت أضغط على نفسي و أدرس بكل ما أوتيت من قوة، لكن لم ينفع ذلك في شيء ( ثم بدأت دموعي تنهمر مجددا من تلقاء نفسها ) كيف سأستطيع مواجهة أمي و أبي بعد أن أصبحت مصدر عار لهما..... هذا مستحيل..... أتمنى لو أنني لم أولد.... أتمنى لو يتم سلب حياتي قبل أن اصل إلى المنزل.." كانت مشاعري تتحول إلى كلمات دون أي جهد مني في تغيريها أو حذف بعضها. فوقف آزاد أمامي و قال بصوت غاضب بعض الشيء:" ما الذي تقولينه؟ حياتك هي أثمن شيء تمتلكينه في العالم. ليس هنالك أي شيء يستحق أن تدفع حياتك ثمنا من أجله. و إن كان أبويك يعدانك مصدر عار لهما، فتخلي عنهما الى الأبد." لاحظت انزعاجه من كلامي و رغبته في إقناعي بتقدير نفسي كما ينبغي، لكنني لم أطق سماع صوته يصرخ في وجهي لذا أجبته بنبرة حادة " كيف لي أن أتخلى عنهما؟ و الى أين سأذهب على أية حال؟ الخطأ ليس خطأهما، فلقد أنفقا علي الكثير من الأموال كي أدرس جيدا. لكن في النهاية لم أحقق شيئا، انه خطئي أنا وحدي. لذلك يجب أن أموت، فلا دور بقي لي في هاته الحياة بعد أن أضعت جهد والدي." 
" آسف على ما قلته..... لقد كنت غاضبا، فأنا لا أتحمل الأهالي اللذين يعقدون آمالا كبيرة على أبنائهم. و لا أحب أن أرى شخصا يطيح من قيمته، بينما هو شيء مهم جدا فقط لأنه على قيد الحياة. " رأى آزاد انزعاجي لذا حاول أن يلطف الأجواء بكلمات رقيقة و صوت لطيف.
" حسنا لا عليك. لقد قلت الكثير من الأشياء غير الضرورية أيضا." شعرت بالندم في تلك اللحظة لأنني أخبرته بذلك، و عزمت على ألا أخبره بسري الآخر.
" سوف أذهب معك الى المنزل، و سأشرح لأبويك موقفك، وأحاول تهدأتهما. "
" ماذا؟... هذا مستحيل.. "
" لماذا؟"
" لأنهما يعلمان بأنه ليس لي أصدقاء، لذلك سيكون من الغريب ان آتي فجأة بشخص غريب يعرف كل شيء عني ."
" لا تقلقي بشأن ذلك، سأتظاهر بأنني لا أعلم شيئا مما أخبرتني به لكن سأوضح لأبويك بطريقة غير مباشرة خطورة ما يفعلانه." تفاجأت من إصراره على مساعدتي، و كي أتخلص منه قررت أخباره بسري الثاني، آملة أن يدرك مدى خطورة ما يحصل و قد يقحمه ذلك في مشاكل أكبر مما قد يستطيع تحمله. فقلت له ملمحة" حسنا، ارجو ان تنجح خطتك، و إلا ستزيد الطين بلا، لأن ما يحدث في منزلي أخطر و أعقد بكثير ."
" لا تقلق، دعي الأمر لي." عندما نطق بهذه الجملة، تأكدت بأنه من المستحيل أن أتخلص منه حتى و إن أخبرته بسري، لذلك طلبت منه أن يمهلني بعض الوقت لغسل وجهي من آثار البكاء ثم العودة بسرعة، فتكرته ورائي و أنا أعلم بأنني لن أراه بعد هذا اليوم إلى الأبد.        ظل آزاد ينتظرني، لكنني تأخرت بعض الشيء، أظن بأن هذا ما كان يجول بخاطره اثناء انتظاره لي" ما بالها، أظن أن غسل الوجه يأخذ وقتا أقل من هذا....... أيعقل أنها...؟ " ثم ركض بأقصى سرعته الى سطح البناية كما لو أنها آخر فرصة له في رؤيتي. و عندما فتح باب السطح، رأى مشهدا لم يأمل أن يراه أبدا" أماليا ، ارجوك لا تفعل ذلك. اهدء قليلا، أعلم جيدا بأنك تمرين من ظروف صعبة، لكن أعدك بأن أصلح الامور بطريقة ما."
" ليست هناك أية طريقة.... لقد حسمت أمري بالفعل.... لا أريد أن أكون السبب في أذية جميع من يحيط بي أكثر من هذا.... و لم يعد لدي سبب أعيش من أجله أيضا، لذلك سوف أنهي حياتي الآن، بخطوة صغيرة فقط خارج جدار البناية." قلت بصوت هادئ بعث حزنا شديدا في قلب آزاد فارتسمت على وجهه نظرة الشفقة. لكنه غيرها كي لا يجرحني و قال بصوت واثق:" سبب للعيش؟ ماذا لو أعطيتك سبابا للعيش؟ ماذا لو حللت مشاكلك مع أهلك؟ هل ستحبين الحياة عندها؟"
   " هذا مستحيل، لقد فات الأوان" لقد قلت في نفسي من يحسب نفسه هذا الفتى؟ هل يظن بأن مشاكلي بسيطة لدرجة أن غريبا مثله قادر على حلها؟
   لكنه لا يزيد سوى إصرارا و عنادا" اجل أستطيع. لقد حللت نفس المشكلة لصديق...." قاطعته قائلة" رغم ذلك، فحالتي مختلفة ثم..." ثم قاطعني قائلا:" سأعطيك سببا لتعيشي من أجله.....( ثم بدأ يتقدم نحوي بخطوات ثابتة الى ان وصل إلى حافَة المبنى و مد قدمه في الفراغ) أظن انك قلتِ بأنك لا تريدين أذية احد بعد الآن أليس كذلك؟ و ها أنا ذا أمامك، إذا لم تتنحي عن فكرة الانتحار، سوف أقفز، هنا و الآن." لم أفهم ما الذي يجري ، كانت ردة فعله تلك ابعد مما توقعت " لا يا الهي؟ ما الذي تقوله؟ هل انت مجنون؟ لماذا تجازف بحياتك من أجلي؟"
" أنا بدوري لا أدري لماذا.... لقد ساعدت الكثير من الأشخاص لكنني لم أخاطر بنفسي على هذا النحو من قبل. لم أفهم لماذا أشعر بأنه من واجبي أن أتعرض للخطر في سبيل حماية حياتك..... لذا فأنا جاد فيما أقوله! سوف أقفز من هذه البناية إن لم تتنحي جانبا... يجب أن تعيشي لكي لا أنتحر بعدك" تمنيت لو كان يمازحني . فكرت في أنه من المستحيل أن يضحي شخص غريب بحياته من أجلي ، لكن قدمه الممدودة في الفراغ كانت تفند جميع أفكاري و تثبت جديته حيال ما يقوله، حتى أن ابتسامته الخفيفة التي علت وجهه جعلتني أستسلم لكلامه، لكن لا زالت معالم الحيرة تطغى على ملامحه، لأنه لم يستطع فهم ما الذي دفعه إلى التقدم حتى هذا المدى. أربما كانت هذه ظاهرة أخرى من الظواهر الغريبة التي صارت تحدث بعد سقوط النيزك؟ أخذت يد آزاد و عدت به إلى السطح، ثم انهرت بالبكاء بعد أن تأكدت من تواجدنا على مسافة آمنة من الحافة.
" ما الذي دهاك..؟ لقد كنت على وشك السقوط فعلا. هل أنت مدرك لمدى خطورة ما كنت تفعله؟"
" بالطبع أنا مدرك. آآآآه... لقد كان ذلك مرعبا جدا. كيف استعطت التفكير بشيء غير عقلاني كهذا؟ لقد كان قلبي سيتوقف بمجرد الوقوف عند حافة السطح!!"
" لا تفعل ذلك مرة أخرى، أرجوك..." قلت بصوت خافت بالكاد يسمع. "
" إذا لم تريد رؤيتي أفعل شيئا كهذا مجددا، يجب عليك الحفاظ على حياتك." فقلت في نفسي " هل أعطاني سببا للعيش حقا؟ ما هذا السبب الأناني ؟ أن أبقى حية كي لا يؤذي نفسه؟ هل هذا الشخص أحمق أم ماذا؟ لكنه كان على وشك القفز للتو، لا بد من أنه جاد في كلامه." و عندما نظرت إلى وجهه شعرت بشعور غريب يدفعني إلى الرغبة في الحياة مهما كانت صعبة. أجبته بعد تفكير عميق بنبرة مبتهجة بعض الشيء: " سبب للعيش ..هاه؟ حسنا أعدك بألا أعيد ذلك مرة ثانية. ربما ليس من أجلك فقط، لكنني أظن بأنني أريد أن أعيش حياة أطول من ذلك." ثم ابتسم ابتسامة عريضة، فمنحتني ابتسامته و أشعة الشمس الحمراء دفئا و أملا في الحياة.

الذكريات المحرمة || The Forbidden Memories Où les histoires vivent. Découvrez maintenant