النبوءة ●

18 1 0
                                    

   كانت العاصفة الثلجية تزداد شدة مع مرور الوقت، و صرت بالكاد أستطيع التحرك بسبب الرياح التي تدفعني تارة يمينا و تارة شمالا. تمنيت لو أن مرجانة لا زالت حية، فهي لم تر الثلج من قبل و كانت تأمل على أن يأخذها أخاها إلى مكان مثلج بعد تخرجه، و للأسف لم تعش أمدا طويلا لتحقق هذه الأمنية البسيطة.
   مشيت لمدة من الزمن و انا أصارع البرد و الرياح،  حتى بدأت أحس بأطراف أناملي تتصلب، و عضلاتي تتشنج ، فخارت قدماي و لم تعدا قادرتان على التحرك قيد انملة و انتشر ألم فظيع في كل أنحاء جسدي و كأنني أتعرض للجلد. لكن رغم ذلك ظللت أكافح بكل ما أوتيت من قوة إلى أن وصلت بي درجة شديدة من الإرهاق فأغمي علي.
   فتحت عيناي، فوجدتني انتقلت من عراء بارد و عاصفة ثلجية إلى مكان دافئ يشبه الكهف. نظرت حولي فوجدت نارا موقدة بجانبي و عليها ابريق قديم لم تترك فيه مساحة إلا و تم نقشها. لقد علمت بأنه مملوء بالشاي لأن مرجانة أخبرتني ذات مرة بأن هذا الوعاء مخصص فقط لتحضير الشاي، و بأن تحضير القهوة أو الحليب أو أي نوع آخر من المشروبات بداخله يعتبر إهانة لذلك الإبريق و للشعب المغربي أيضا، كما أن أوراق النعناع التي تظهر من فوهته أكدت صحة كلامي. كان هنالك لحاف وضع على الطرف المقابل من الكهف إضافة للحاف الذي كنت أجلس عليه.  و ما أدهشني أكثر ، هو رغم ان هذا المكان ليس سوى كهفا صغيرا، إلا أن صاحبه لم يمتنع عن جعله مكانا رائعا مملوءا بالمزهريات و الصناديق الخشبية المزخرفة و الشموع المعطرة،  حتى أن اللحاف الذي انام عليه منفوش و ناعم، طرزت عليه معينات و مربعات أو ما يسمى بطرز " الغُرزة " كما أخبرتني مرجانة ذات مرة.
  و بعد لحظات سمعت باب الكهف تفتح،  ليدخل رجل طاعن في السن،  ذو لحية بيضاء مجعدة تصل إلى منتصف صدره،  يلبس جلبابا أبيضا من " الحنبل"  الصوفي ، و يضع " القُبَّ" فوق رأسه و سلهاما أسودا على كتفيه. ثم قال " لقد استفقت أخيرا يا بنيتي،  أنا آسف على الوضع المزري الذي وجدت عليه الكهف، فلقد باغثتني العاصفة الثلجية فلم أجد طريقة لصدها غير هذه الألواح الخشبية القديمة التي ثبتها بالكاد على المدخل."
عن أي حالة مزرية تتحدث،  إن هذا الكهف أشبه بغرفة في بلاط ملكي! " لا عليك أيها الجد، شكرا جزيلا لك على إنقاذي. "
" على الرحب و السعة يا بنيتي. " تقدم الي العجوز متكئا على عصاه،  ثم بدأ بصب الشاي في كأس زجاجي من البلار الأخضر المنقوش هو الآخر بلون ذهبي، ثم قال :" لقد وجدتك يا بنيتي منهارة وسط العاصفة الثلجية،  هل انقطعت بك السبل وسط الصحراء؟ و هل أنت وحيدة؟"  ذكرني كلام العجوز بالمجزرة التي دارت أمام عيني ، فبدأ جسدي بأكمله بالارتعاد.  أظن أن العجوز قد لاحظ ذلك فقال لي :" لا عليك يا بنيتي،  لا تجبري نفسك على الكلام. خذي الآن كأس الشاي هذا كي تشعر بالدفئ. لقد كان من المفترض أن يكون معدا بالأفسنتين نظرا لبرودة الطقس لكن هذه العاصفة أتت فجأة في عز الصيف لذا لم أكن أتوفر سوى على النعناع. "  ثم مددت يدي لأتناول منه الكأس، و إذا بالعجوز يفزعني بصرخة :" يا إلهي،  انت من الزوهريين! تبارك الرحمان"  فقلت له في استغراب :" ماذا تقصد بالزوهريين؟" ناولني الكأس ثم أتم كلامه:" الزوهريون هم أشخاص يتمتعون بالحظ الجيد و الحياة اليسيرة منذ الولادة.  لا أحد يدري كيف يتم اختيارهم أو لماذا لكن الله ينعم عليهم بحياة رغيدة إلى يوم مماتهم. و لمعرفة ما إذا كان الشخص زهريا أم لا، فإن هنالك بعض العلامات التي تظهر على أجسادهم كالخط المتصل في كفهم و بقعة بنية في بياض العين. " هكذا إذا، فلقد لاحظ الخط المتصل في كفي، ياله من عجوز حذر، فرغم كبر سنه استطاع ملاحظة شيء بسيط كهذا، لا بد من أن الطبيعة علمته الكثير.
ثم أكمل حديثه قائلا:" لكن الحكاية لا تنتهي هنا، فالزوهريون معرضون للخطر دائما لأنهم وجبة دسمة للمشعوذين و السحرة للقيام بأعمالهم القذرة، خاصة تحديد مواقع الكنوز باستعمال دمائهم."
   هذا مروع حقا،  لم أدري أبدا بأن هنالك خطر كهذا يتربص بي. 
" أيها الجد، لا أدري مدى صحة كلامك لأنني لست من هذه البلاد و لا أدري الكثير عن معتقداتكم، لكن كل ما أعرفه هو أنني لم أعش يوما جيدا منذ أن فتحت عيني على العالم ." قلت و أنا أحذق في الرغوة التي تعلو سطح الشاي أو كما يسمونها في المغرب " بالرَّزَة " .
احتسى العجوز رشفة من الشاي ثم قال:" اسمعيني يا بنيتي،  أؤكد لك بأنك لن تري اليوم الأبيض في حياتك ما دمت تفكرين بهذه الطريقة. لا يهم إن كنت زوهرية أو ابنة ملك فما دمت تفكرين بشكل سلبي لن تجلبي لنفسك سوى التعاسة و الأسى. "
    كان وقع كلام العجوز قاسيا علي لأنه كلام في محله، فمنذ أن عهدت نفسي و أنا لا أفكر في شيء سوى السوداوية، فحتى في اللحظات الجميلة التي كنت أقضيها مع والدي كنت أفكر بأنها ستنتهي بسرعة و تصير ذكريات مؤلمة في المستقبل تجلب معها طوفانا من مشاعر الحنين و الرغبة المستميتة في إعادة الزمن إلى الوراء و عيش تلك اللحظة مرة أخرى.
  عم صمت ثقيل لبضع دقائق،  ثم كسرته قائلة :" هل قلت لي بأن الزوهريين لديهم علامة بنية في أبيض العين؟"
" و هو كذلك "
" هل يمكن للزوهريين أن يحملوا علامتين في الآن ذاته؟"
" لا هذا مستحيل "
" و ماذا لو أخبرتك بأن لدي علامتين ؟"
ظهرت ملامح الدهشة و الانبهار على العجوز، لكنه بدى غير مصدق لكلامي " لدي بقعة بنية في الجهة السفلية من عيني اليمنى " ثم أريته إياها.
   توسعت أعين العجوز و اقترب مني قليلا كي يتأكد من البقعة ما إذا كانت حقيقية أم لا ثم قال:" يا إلهي إنها حقا بقعة الزوهريين." ثم أخذ يدي اليمنى بسرعة و بدأ بتصفحها بعناية :" لا أصدق ما أراه! اجتماع علاميتين تدلان عن الزوهريين؟ هل أنت المختارة ؟ "
كيف علم هذا العجوز عن كلام المختارة؟ " لست متأكدة لكن تم إخباري بكلاكم كهذا من قبل ."
" لا تخبريني بأن المرآة قد كسرت؟"
ثانية، يصدمني هذا الرجل بمعرفة اشياء من المفترض ألا يعرفها " و هو كذلك. لكن... كيف علمت بذلك؟"
" يا إلهي انها مصيبة عظمى،  ماذا سأفعل الآن ؟" قال العجوز متجها نحو الصناديق التي ملأت الكهف،  و بدأ يبحث داخلها بعجلة واحدا واحدا ثم أحضر معه كتابا.  إنه نفس الكتاب الذي أشارت اليه جدتي مسبقا، لكنني لم أخبره أي شيء عن ذلك.
    فتح العجوز الكتاب على قصة عنوانها " أمام باب الضفة الأخرى " ثم قال: " منذ قرنين من الزمن، كان هنالك ساحر يعيش في هذا الكهف، يتعامل مع الجن الأكثر خطورة في العالم.  و بسبب مكانته الرفيعة التي حازها بين الجن، قدموا له نبوءة قد سمعوها من ملائكة السماء و أخبروه بأن يحفظها سرا عن كل كائن بشري. لكن و لأن النبوءة كانت تحمل في طياتها تلميحا عن هلاك البشرية بعد حوالي مئتي سنة، ألف هذا الكتاب الذي جمع فيه جميع الأساطير القروية المعروفة، و دس بينها قصة النبوءة خلسة كي لا يعرف الجن بذلك. و منذ ذلك الحين و قصته تورث لشخص واحد كل جيل حتى وصلت بين يدي. ثم بدأ بقراءة القصة : "كان يا مكان في قديم الزمان، أرض بعيدة عن أعين الإنسان، أسوارها شامخة و عالية تغطي ما بداخلها من جنان. يحيط بها جبلان، و في كل جبل غابات و أعين ماء و وديان، كستها طبقات من المعدن السامي شديدة اللمعان. لا تقع هذه المدينة لا في الشمال و لا في الجنوب، و ليست في الشرق أو الغرب ، الطريق الوحيد للاستدلال عليها هي نجمة تضيء في أوائل الليل و تنطفئ بعد شروق الشمس. تطل الشمس على البلاد الطاهرة، بشعاعها الذي اخترق قلب الأرض كسهم كيوبيد الذي فشل في إيقاعها في الحب، متجها نحو الضفة الأخرى. في سماء الليل يظهر نجم الشمال الذي استدل به البحارة إلى ديارهم، لكنه سيكون كاذبا هذه المرة لأن الشرق غرب ، و الغرب شرق. سكنت هذه الأرض عائلات من أصول حكيمة، تميز أسلافها بالمعرفة و الذهاء و كان جميع سكانها يتميزون ببنية قوية . لكن يقال بأن عائلة واحدة فقط من هذه الأرض التي يرجع لها الفضل في الحفاظ على توازن عالمنا بطريقة ما ، و لم يعرف عنهم شيء غير هذه المقولة التي يرثونها جيلا بعد جيل: " .....عندما يجبروك على الموافقة يجب أن تثبت و ألا تخاف أبدا ثم قل : أيتها الأرض الشاسعة، أيتها الارواح المقدسة القادمة من السماء، أعيدي هذا الكيان من حيث أتى ليثبت كل بعالمه." لم يعلم أحد إلى يومنا هذا الكلمات التي تبتدأ بها الجملة أو ما الذي تعنيه ، لكنها تظل جملة تحمل رموزا و معاني لجميع من يسمعها حتى و إن لم يعرف سياقها" و هكذا تنتهي القصة، أو هذا ما ظننته، فالعجوز لم يتوقف بل أكمل القراءة. يبدو أن لديه جزءا مفقودا من الكتاب الذي كان بحوزتي " هذه الكلمات لا تأت بمقدفعولها  الا اذا نطقتها فتاة واحدة تنتمي الى هاته العائلة،  تحمل علامتين تدلان على أنها زوهرية.  إنها المختارة التي ستظهر لإنقاذ العالم بعد انكسار المرآة. " ثم توقف العجوز.
    إن الجزء اللخير الذي قرأه يفسر الكثير من الأشياء!
  نظر العجوز الي بنظرة ثاقبة ثم سألني:" كيف كسرت المرآة؟"
" لقد قذفتني أمي بها فانكسرت. "
"أمك؟ كنت سأقبل أي عذر آخر غير هذا، لأنني أدري بأن والدي المختارة يعلمان بتفاصيل القصة و بخطورة الأمر أكثر من أي شخص آخر."
" هذا صحيح، لكن أمي لم تكن بوعيها، فلقد تمت السيطرة على جسدها بالكامل من طرف المستحوذين لذلك فعلت ما فعلت."
"امم، يبدو كلامك معقولا الآن.... قد يكون الوضع أسوء مما ظننت.... حسنا بدءا من الآن، سيكون لك عمل كثير، لذلك ارتاحي لبعض الوقت و سأخبرك بما عليك فعله بعد ذلك."
"حسنا، أقدر لك مساعدتي. شكرا لك!... هل يمكنني أن أسألك سؤالا؟"
" بالطبع!"
" لماذا تبدو الليلة أطول من المعتاد ؟"
" إنها الليلة الخالدة يا بنيتي،  ليلة يكسوها الظلام الحالك و السوداوية. لن نرى ضوء الشمس بعد الآن حتى تنقذ الموقف. " ثم ذهب الرجل و بدت بعض علامات الحزن على وجهه.
استلقيت على اللحاف و أخذت رسالة مرجانة لأقرأها أخيرا.

الذكريات المحرمة || The Forbidden Memories Où les histoires vivent. Découvrez maintenant