العالم الموازي ●

57 3 0
                                    

   استيقظت في الصباح الباكر ، وذلك بسبب حلم غريب عن جدتي:" يبدو أنني اشتقت إلى جدتي كثيرا لدرجة أنني صرت أحلم بها! لكن الحلم كان واقعيا جدا، و كانت تحدثني فيه عن أشياء لم يسبق لي أن سمعت بها ( شعرت في تلك اللحظة بأنه علي تدوين كل ما حلمت به )  لا بد أن أدون و أبحث عنها، أشعر بأنها ستساعدني لفهم ما يجري." أحضرت ورقة و قلما، و بدأت أدون كل الأشياء التي أشارت إليها جدتي في الحلم : انعكاس العالم على المرايا، صوت الأساطير القروية، و عائلة دِيجور.
استغرقت ساعات طوال في بحثي، بينما حاول آزاد الاتصال بي عن طريق الرقم الذي أعطته إياه ادترة الجامعة، يبدو أنه كان قلقا علي بسبب تغيبي ذلك اليوم. لكنه لم يتلقى أي جواب
* نظرة خارجية *
   عاد آزاد إلى غرفة الاساتذة:" أستاذ، أريد رقم أماليا الخاص."
_" هذا مستحيل، فرقمها الخاص معلومة شخصية لا يمكن مشاركتها مع أي أحد."
_" لكن يا أستاذ، أماليا متغيبة عن المدرسة ليوم كامل، و لا أحد يجيب على رقم المنزل. ألا ترى بأن ذلك مريب"؟
_" لا عليك ، مثل هذه الأشياء تحدث دائما، في الأغلب يكون أفراد العائلة يتسمتعون بوقتهم معا فيغلقون الهواتف كي لا يزعجهم أحد." قال الأستاذ و هو يبدو غير مبال لغياب أماليا، مما أثار غضب آزاد"أحقا تحسب نفسك أستاذا و أنت غير قلق على تلميذ غائب لمدة يوم كامل؟ سوف أقدم شكاية إلى المدير بتهمة إهمالك لتلاميذك. " توتر الاستاذ و خاف من توبيخ مدير الجامعة الذي يعتز بالعدد القليل من النخبة اللذين استطاعوا اللحاق بجامعة مرموقة كهذه ذات القوانين الصارمة التي توجب الحضور  اليومي على كل الطلبة.  "حسنا حسنا أيها الفتى، سنهاتفها عن طريق رقمها الخاص لكن باستخدام هاتف الإدارة."
_ " حسنا أستاذ. شكرا"
ثم اتصلا بها، و عندما أجابت انتزع آزاد الهاتف من يد الاستاذ و بدأ يتكلم معها: " أهلا أماليا، هل كل شيء بخير؟ لماذا تغيبت اليوم؟ لماذا لم تردي على هاتف المنزل؟"
_" إهدء آزاد، كل شيء على مايارم، لقد حدثت بعض الأمور التي منعتني من الحضور، كما أن لدي كلاما يجب أن أخبرك به غدا، لذا لنلتق في المكتبة بعد انتهاء الدوام. وداعا"
_"  هل سترحلسن بهذه السرعة ؟ اون لا عليك!! حسنا وداعا. اعتن بنفسك."
_" اجل، شكرا." ثم أقفلت الخط.

     في اليوم التالي، التقيت بآزاد في المكتبة. فبادر بالكلام :" ما الذي حصل لعينك؟  لماذا تضعين ضمادة عليها؟ لا تقولي بأن أمك..."
_" أجل.... لقد غضبت كثيرا عندما رأتك معي، لذلك ألقت علي بصحن أصابني في عيني. على أية حال، لا تعر هذا اهتماما."
_" كيف لا أعير الاهتمام..." قاطعته محاولة تغيير مجرى الكلام " لدي شيء مهم يجب أن تعلم به"
_" ما هو ؟"
_" سوف أبدأ بالبحث حول هذه الظواهر التي تحدث منذ تسع سنوات. هل تود أن تشاركني في البحث؟"
_" أجل بالطبع."
_" لكن قد يعرضك ذلك للخطر. هل أنت متأكد...."
ثم قاطعني و قال:" بالطبع أنا متأكد، لا داعي لطرح الكثير من الأسئلة."
شعرت بنوع من الارتياح  لأن آزاد هو الشخص الوحيد الذي أثق به، سيكون من الرائع حقا أن يساعدني في بحثي هذا لكن كان لدي سؤال وجب علي طرحه:" لماذا تحب أن تضع نفسك في الخطر  في سبيل مساعدة الآخرين؟"
_" في الحقيقة، أظن بأن طبيعة الإنسان خيرة، لذلك يجب أن ينطلق مما تمليه عليه هذه الطبيعة، لأنها أصله و جوهره."
_" كلامك هذا ذكرني بالفيلسوف شيشرون."
ضحك آزاد و قال:"  حسنا، يمكنك القول بأنني تأثرت بتفكيره، فلقد قرأت الكثير من أعماله و وجدت بأن طريقة تفكيره تناسب نمط عيشي..... المهم، اخبريني الآن ما الذي حدث لك البارحة. " لولهلة ظننت أنني قد نجحت في تشويش تفكيره لكن يبدو بأنه لم يكن ليتوقف عن السؤال حتى يعلم ما جرى بعيني. حاولت شرح الأمر بتَرَيُّثٍ كي لا ينزعج و انتقلت مباشرة لعرض المعلومات التي جمعتها بإرشاد من جدتي التي حلمت بها :" بخصوص انعكاس العالم على المرايا، فقد كان أكثر الأشياء صعوبة للبحث ، لأن العبارة عامة جدا و غير محددة. لحسن الحظ، استطعت أن أجد بعض التفسيرات التي تحمل تقريبا نفس المعنى. في الحقيقة لم أستطع فهمها جيدا لشدة تعقيدها،  لكن سأخبرك بها على أية حال. يقال بأن هناك نظرية تسمى بنظرية تعدد الأكوان،  لقد ساهم في إثباتها العديد من العلماء. فرياضيا، تم إثبات صحتها 100%، و ذلك عن طريق دراسة الاحتمالات، فعندما تجد نفسك أمام العديد من الخيارات،  فنحن ندرس نسبة اتخاذك لقرار ما، أي أننا ضمنيا نعترف بأن جميع الخيارات محققة  ، لكننا لا نعلم أي واحد منها ستختار."
_" آه أجل أجل، ففي درس الاحتمالات الذي درسناه، كنا نعتبر بأن جميع الخيارات واردة، لكن بنسب مختلفة، فمثلا لو جلبنا قطة ووضعناها في صندوق به سم يتطلب تفكُّكَ مادة إشعاعية لمدة ساعة كاملة ليعطي مفعوله، بعد انقضاء ساعة، يكون احتمال موت القطة أو بقائها على قيد الحياة متساويان، لأنه من الممكن أن المادة الاشعاعية استغرقت وقتا أطول كي تتفتت بسبب عوامل الضغط و الحرارة. و من هنا بمجرد احتمال وجود نهايتين للقطة، فرياضيا الاحتمالين كليهما قد تحققا. و بما أن الرياضيات علم نظري، فأي نتيجة توصلنا إليها عن طريق المنطق صحيحة"
_" جيد. يبدو أن الشائعات حول سرعة بديهتك صادقة. لننتقل الآن على مستوى الفيزياء، و بالضبط فيزياء الكم.... الأمر أصعب بكثير من الرياضيات، و لم أستطع استيعابه كليا. على كل.... تخيل أنه لدينا دالة موجية، هذه الدالة تساعدنا على التنبإ بالمواضع التي من المحتمل أن يأخذها جسم ما، لكن بمجرد محاولة تحديد موضع الجسم بدقة، تنهار هذه الدالة، و تفقد طبيعتها الموجية، مما يعني أن الجسم لم يعد موجودا في ذلك العالم فقط، بل موجود في مكان آخر أيضا و في موقع مختلف ، لذلك تنهار الدالة الموجية، و هذا المكان الآخر ما له إلا أن يكون عالما موازيا.... هل فهمت قصدي؟"
بدى آزاد حائرا بعض الشيء، ثم قال و هو يحك رأسه:" انتظري لحظة لأستجمع أفكاري..... إذن انت تقولين بأنه أثناء دراسة حركة جسم ما، فهو من الممكن أن يتخذ أماكن عدة ؟
_"أجل"
_"لكن عندما نريد تحديد مكانه بدقة في لحظة زمنية محددة، تنهار الطبيعة الموجية للدالة و ذلك نظرا لتواجده بأماكن مختلفة في آن واحد بالنسبة لكل عالم موازي. أي أنه في كل مرة تتواجد أمامنا عدة احتمالات، تتشكل عوالم أخرى يتحقق في كل واحد منها احتمال ما. و بالتالي فهي جميعا واردة مثل ما تم إثباته في الرياضيات. لكن ألا يعني ذلك بأنهم غير متطابقين تماما، لأن كل عالم قد تحقق فيه احتمال؟
اندهشت من آزاد، فطاقته الاستيعابية الكبيرة سهلت علي عناء الشرح. و أجبته:" تماما، هذا ما أقصده و هذا الاختلاف يفسر بنظرية الفراشة، إذ أنه رغم صغر و ضعف جناح الفراشة، قد يسبب تحريكه إعصارا في مكان ما، و ذلك بتراكم الاحداث التي كان جناح الفراشة عاملا في تحريضها. لكنني لم أفهم جيدا كيف ربطت جدتي بين المرايا و العالم الموازي؟ فالمرايا تعكس الأشياء كما هي، لكن في العالم الموازي لعالمنا قد يكون هناك اختلاف طفيف كما قد تكون اختلافات كبيرا."
سادت لحظات من الصمت و نحن نحاول إيجاد العلاقة بين ما حصلنا عليه و بين كلام الجدة. ثم قال آزاد:" أظن أنني فهمت قصد جدتك.... لقد قلت بأن المرايا تعكس أليس كذلك؟ إذا كان في العالم الموازي يتحقق الاحتمال الثاني، أليس ذلك الاحتمال عكس الاحتمال الأول، و بذلك فقد أصبح صورة معكوسة عن العالم الذي نعيش به. كذلك المرايا، فهي لا تعرض الأشياء كما هي في الحقيقة، بل تعرض صورة معاكسة لها."
_" آزاد، أنت تبهرني بذكائك حقا! لا بد من أنك لا تدرس أبدا في المنزل، لذلك تحرز نقاطا متوسطة فقط"
_" ش..شكرا، لكن لست بذكائك، فبفضل شرحك المبسط استطعت الفهم بسرعة. لقد قمت بعمل رائع. بوركت مجهوداتك."
_" شكرا... تاليا لدينا صوت الأساطير القروية. لقد بحتث عن ذلك أيضا و وجدت بأن هنالك كتابا يحمل نفس الاسم قد جمعت فيه جميع الأساطير و الخرافات التي كانت متداولة في القرى النائية حول العالم. سوف آخذه من المكتبة و أقرأه كي أتعرف عما إذا كان فيه خيط ما."
_" إذا أنا أيضا سآخذه. و أخيرا لدينا عائلة الديجور ."
_" للأسف، لم أستطع أن أجد أي معلومة تتعلق بهذه العائلة على الإطلاق. لكن لن أقف هنا، سوف أعيد البحث مرة أخرى."
_" سوف أحاول البحث معك أيضا."
_" هذا كل شيء لهذا اليوم، يمكن أن نعود إلى المنزل الآن."
  أخذنا الكتاب، و خرجنا من المكتبة، و في طريق عودتنا سألني آزاد:" أليس هنالك مانع إن راسلتك عن طريق رقمك الخاص؟ مثلا عن معلومات ما، و كذلك الأطمئنان على حالك مع أمك."
_" أجل بالطبع لا مانع لدي. فنحن الآن صرنا أصدقاء. مع أنني أشعر بأن هنالك شيئا أكثر من الصداقة يربط بيننا، ربما مثل رابطة الإخوة ؟" لم أدر كيف امتلكت الجرأة لقول شيء محرج كهذا، لكن سرعان ما تلاشى ذلك الشعور عندما رأيت السرور على وجه آزاد " رائع! أنا سعيد لسماع ذلك، فالإحساس متبادل."
ثم افترقنا قبل الشارع الذي يأخذ إلى منزلي كي لا تراه أمي برفقتي مجددا، و أتذكر بأنني كنت متحمسة جدا كي أراسله ذلك المساء.

الذكريات المحرمة || The Forbidden Memories Où les histoires vivent. Découvrez maintenant