الوداع●

30 2 2
                                    

عدت أدراجي إلى المنزل و أنا خائبة الأمل. هل كنت أتوهم بأنني صرت من أهل القرية؟ هل كل ما قدموه لي لم يكن خالصا من القلب ؟
عندما فتحت الباب وجدت مرجانة هناك فتفاجأت لأني ظننت بأنها ما تزال في منزل سيليا ، ثم سألتني :" ما الذي أخبرك به الشيخ؟"
_" لقد أمرني بالرحيل الليلة من القرية "
_" لقد توقعت منه أن يطلب منك الرحيل لكن لماذا بهذه السرعة؟ لا بد من أنه قلق من تعرضك للأذى بسببنا."
_" ليس تماما، فوجودي سيعرضنا جميعا للأذى "
_" و كيف ذلك؟"
_" لقد أخبرني بأنكم ستقومون بطقس ما، أظنه ذلك الذي حدثتني عنه قبل قليل، و يجب ألا يحضره الغرباء كي يتم بنجاح."
بدت علامات الاندهاش على وجه مرجانة ثم ذهبت لتجلس على الكرسي بسبب الدوار الذي أصابها. لقد ظلت منصدمة لوقت طويل لكنني لم أستطع سؤالها عما يجري لها لأنني خفت من أن تمتنع عن إجابتي و تصرخ في وجهي بعد أن تم استثنائي من القرية. و للحظات طويلة ساد صمت لم يسمع خلاله إلا صوت الرياح العاتية و عواء الذئاب التي تتربص بالأرانب الصغيرة في الواحة المجاورة. و سرعان ما انتصبت مرجانة واقفة و اتجهت إلى الباب، ففتحتها بقوة و اتجهت نحو مجلس الشيوخ. عادة كنت سألحق بها و أطمئن على حالها لكنني الآن لم أذهب، فلقد بدأت أشعر بتلاشي خيط الصداقة الذي يربط بيننا.
و بعد مدة دامت لعشر دقائق تقريبا، عادت مرجانة و بيدها الحصان، ثم قالت بنبرة عميقة تنم عن حزن شديد :" لا أدري ما الذي يفكر فيه شيخ القرية. لا زال ثلاثة أشهر عن موعد الطقس لكنه يريد القيام به حالا. أنا متأكدة بأنه لن يكتمل ...على أي يجب عليك أن تذهبي الآن، هذا أفضل من أن تتعرضي لنفس مصيرنا المشؤوم. لقد أخبرني الشيخ بأنك ستعودين بعد أسبوع، لا أنصحك بذلك لأنك ربما سترين مشهدا سيئا جدا."
لم أدر كيف يجب علي أن أرد على كلامها. " هيا، سؤساعدك على وضع أمتعتك على الحصان. "
_" أنا لست ذاهبة من هنا حتى تخبريني لماذا تقومون بشيء مخالف لدينكم رغم أنكم تعون كامل الوعي بأن ذلك خاطئ؟"
ثم تنهدت و قالت :" لا أدري كيف يجب علي إجابتك لأنني مثلك، لا أدري لماذا، لقد وجدنا أجدادنا يقومون بهذه الطقوس المريعة و لم يتساءل أحد يوما كيف نتخلص من عقدنا مع الجن أو حاول الهروب من القرية. "
_" و هل أنت راضية عن ذلك؟ هل تريدين حقا عيش حياة صممها لك شخص منذ ألفي سنة؟ افتحي عينيك يا مرجانة أنت لست حيوانا لاتباع أوامر القائد الذي يوجه القطيع، أنت إنسان بعقل واع يستطيع بناء نمط الحياة الذي يريده. انظري إلى عيني يا مرجانة و لا تحذقي في الأرض و أنا أكلمك. استيقظي من سباتك! لقد خلقتي لتكوني الحاكمة و ليس العبدة، أنت سيدة عالمك و أفكارك، لا تقومي بشيء ترينه خاطئا فقط لأن الجميع يقيوم به. أنا أعلم بأنك تدركين إدراكا كاملا بأن ما تفعولنه خطأ لا يغتفر و مع ذلك لا زلت سائرة على خطى أجدادك . انت لست عصفورا قطعت أجنحته و وضع في القفص، بل أنت شخص بحوزته أقوى سلاح عرفته البشرية... إنه عقلك. لقد منحك أياه الخالق لذا عليك أن تحسني استخدامه ."
فأجابت و قطرات الدموع تهبط من عينيها:" أجل أنا أعلم هذا جيدا. لكن ما الذي يمكنني فعله؟ لقد ولدت في قرية نائية تنبذ كل شخص متفرد و تعزز قيم اللاوعي الجماعي. ما باليد حيلة. لقد سدت جميع الأبواب في وجهي و وجدت نفسي مضطرة للخضوع لأفكار المجتمع كما يفعل الجميع"
_" لقد كنت مثلك في السابق، كنت أجهد نفسي للحصول على المراتب الأولى في الدراسة كي لا أشكل الاستثناء الوحيد في العائلة. و كلما كنت أحصل على علامات سيئة كنت ألوم نفسي لدرجة تمنيت الموت مكان العيش و في هذا العالم الموحش و انتهيت بمحاولة فتل نفسي. إلى أن التقيت ذلك الفتى ، لقد علمني بأنه ليس من الضروري أن أكون ورقة نقدية طبعتها آلة المجتمع، فجمالي يكمن في اختلاف أفكاري. و كذلك تعلمت ذلك من كتابكم الذي تمجدونه بالكلام فقط و ليس بالفعل، لطالما وردت فيه قصص عن أقوام تم عقابهم لأنهم اتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم رغم معرفتهم بأن ذلك باطل، دينكم يمنحكم قواعد لتنظيم المجتمع و العيش بسلام و لا يفرض عليك الطريقة التي يجب أن تري بها الحياة. لقد استطعت الفهم أخيرا بأن المجتمع وعاء يوفر لك الحماية و بيئة للنمو و ليس قلما يكتب في ذهنك الأشبه بالصفحة البيضاء الأفكار التي يجب عليك تبنيها. تماما كالتربة التي توفر الغذاء للبذور فتنبت منها أنواع و أشكال مختلفة من النباتات."
_" إذن ما الذي يجب فعله إذا أردت الخروج من هذه الدوامة."
_" لنهرب معا من هنا و نذهب إلى المكان الذي يدرس به أخوك. صراحة لا أنوي البقاء معكما هناك لكن سأوصلك إليه فقط."
_" هل أنت متأكدة؟ تبدو فكرة خطيرة!"
_" كل شيء سيكون على ما يرام. فقط احزمي أمتعتك و هيا لنتطلق! ."
جمعت مرجانة رحالها و بالكاد استطعنا وضعها فوق الحصان في ظلمة الليل الداكن. ثم تقدمنا بخطوات بطيئة كي لا نصدر صوتا يوقظ أهل القرية. كنا نخطو و الجو ضباب، آملين أن نخرج بأمان من مستنقع الجهل الذي تغرق فيه هذه القرية. لكن سرعان ما تلاشى بصيص الأمي الصغير الذي كنا نحمل في قلوبنا عندما رأنا رجل من أهل القرية أثناء تفقده لسطح منزله المبني بالخشب. ثم نادى علينا و هو يصرخ بصوت مرتفع يتردد صداه على أسوار المنازل فيترك شعورا بالخوف و الرهبة.
شرعت و مرجانة في الجري لكن الرياح ما لبثت تدفعنا إلى الوراء و كأنها ترغب تخبرنا بالتخلي عن المستقبل المشرق الذي رسمناه خارج هذه الرقعة المشؤومة من الأرض و نستسلم للواقع المؤكد. لكن عزيمتي كان أقوى من أن يتم كسرها بهذه السرعة و تعاهدت على نفسي بأن أقاتل حتى آخر رمق.
و اشتدت العاصفة فثنيت رأسي إلى الأسفل لمجابهة الرياح و إذا بي ألمح ظلالا طويلة و مخيفة تستضيء بالمشاعل و تحيط بنا محاولة محاصرتنا. نظرت إلى وجه مرجانة فشعرت بالخوف الدفين الذي كان يجري في عروقها عندما تمت محاصرتنت، و كانت يداها ترتجفان، فخرت قواها و سقطت على ركبيتها و بدأت بالبكاء" أماليا، لقد انتهينا. لم تنجح خطتنا في الهرب ."
_" لا تقولي ذلك، لا زال الوقت مبكرا على هذا الكلام."
_" إنها النهاية."
و فجأة بدأ ظل رجل بدين يلوح وراء الحشود المتجمعة حولنا. إنه شيخ القرية " يمكنني أن أفهم لماذا أماليا ذاهبة، لكن بالنسبة لمرجانة..."
_" لقد كانت تريد أن ترافقني بعض الشيء لتودعني قبل ذهابي."
_" لا تصدقوها، ها هي ذي ملابس مرجانة فوق الحصان. لقد كانت تريد الهروب معها." قال رجل و هو يفتش في الأمتعة
_" لا ليس كذلك، هذا ثوب أعطتني إياه هدية."
_" اوه عجبا!! يبدو أنها أعطتك جميع أثوابها، و حتى حذاءها و مشطها."
فتكلم شيخ القبيلة:" هلا شرحت موقفك يا مرجانة."
لم ترد مرجانة عليه حالا إذ أخذت بعض الوقت لاتفكر في إجابتها:" لقد كنت أنوي الذهاب من القرية."
_" أستطيع فهم رغبتك في الذهاب و استكشاف العالم الخارجي، لكن أظن بأنك تعلمين بأن على جميع أعل القرية المشاركة في الطقس الذي سيكون غدا، حتى أن أبعد الأشخاص قد تم إرسال الحمام لإخبارهم بالحضور غدا مهما كلف الثمن. أتريدين الإفلات من واجيك هذا؟"
_" ليس الأمر و كأنني أريد الهروب من واجبي ... ذلك لأنني لم أعتبره واجبا قط. هذا الطقس الغبي الذي تقومون به رغم أنكم تعلمون بأنه شيء ممنوع في ديننا. حتى العقل لا يستطيع تقبل جميع المراسم الدموية و الوحشية التي تقومون بها. أنتم جماعة من الحمقى و أنا لم أعد أتحمل وجودي بينكم."
_: يا رجال، امسكوا مرجانة و أحضروها إلى هنا. أما أنت يا أماليا فاذهبي و لا تعودي مجددا ."
ثم حضنت مرجاني بين دراعي و رحت أصرخ :" لن أسمح لكم بأخذها... أرجوكم اتركوها أنا السبب في ذلك."
_" أماليا... شكرا لك لأنك فتحت عيني على الحقيقة." و كانت هذه آخر كلمات سمعتها من فم مرجانة بعد أن سلها الرجال مني و اسطحبوها إلى وسط القرية.        حاولت أن اتبع موكبهم الذي تجمع حول مرجانة و تخليصها منهم لكنهم ضربوني بحجر على رأسي حتى فقدت الوعي. و منذ ذلك الحين لم أدر ما الذي حصل، أو كم من الوقت مضى على تلك الحادثة. و عندنا استيقظت وجدت نفسي مستلقية فوق الحصان وسط بحر من الرمال السوداء كالمرمر. أقدر بأنني نمت لمدة ثلاث ساعات حسب تطور سرعة الرياح.

الذكريات المحرمة || The Forbidden Memories Où les histoires vivent. Découvrez maintenant