حقيقة العالم الموازي ●

18 2 0
                                    

بدأ كامل جسدي بالارتعاد من شدة الخوف، فأحس المخلوق البشع بذلك و إذا به يزيل يده عني ثم وقف أمامي. انحنى بهدوء و قال:" أنا آسف على الذعر الذي أصبتك به أيتها المختارة، يبدو أن الهيئة التي تشكلت عليها لم تكن جميلة بما فيه الكفاية كي لا أخيفك." عم صمت ثقيل لبضع ثوان ثم رفع رأسه. لا استطيع أن اصف وجهه بالبشاعة أكثر مما هو غريب. كان فمه عاديا بشفتان دقيقتان، أنفه طويل و حاد، لكن مكان عينيه توجد قرون طويلة انحنت في جزئها العلوي، و في منتصف جبهته عين صفراء مشقوقة بالطول. بشرته شاحبة حتى كادت ان تصير شفافة، و يداه الطويلتان يكسيهما ريش اسود ." إن الخريطة التي ترينها أمامك تقود الى سجن قارا، و ما هو في الحقيقة إلا متاهة اذا ما عرفت طريقة اجتيازها تصلين الى مدينة الصفر". لم أكن قادرة على استيعاب كلام المخلوق الذي تحدث معي. " لكن قبل ذهابك اليه، يجب ان تتحدثي مع احد أكبر قادتنا، انه يوجد في قعر الفوهة" . ثم حملني و فرد اجنحته متجها الى هياهب ظلمات الفوهة منتصف قاعةةالعبور.
حملني المخلوق الغريب ثم قفز نحو قعر الفوهة، و حالما وضعت قدماي على الأرض، ظهر ظل على هيئة انسان يخرج من الجدار"اهلا بالمختارة... يشرفني أن التقي بك!".
"من أنت ؟"
" انا آصِف، وزير الجن " .
"الجن؟"
" جن، مخلوق فضائي، وحوش، غيلان، ارواح... و غيرها من الأسامي التي اطلقتموها علينا، جميعهم تشير الينا. لكن الإسم الرسمي الذي نستعلمه هو الجن. " كان هناك نوع من الغرور في نبرة صوته.
" لماذا تريد التحدث معي ؟"
" نظرا لمرتبتي، و رغم انها مرتفعة قليلا، لا يحق لي اخبارك بالكثير، لكن أمرت بأن أخبرك بشيء من الحقيقة ."
" أمرت؟ و من أمرك بذلك ؟"
" حاكم مدينة الصفر."
" اذن، فهي موجودة فعلا؟" قلت و الدهشة تعلو ملامحي
" بالطع، و هي ستكون وجهتك التالية."
" إذن أخبرني بجزء الحقيقة الذي أمرك ان تنقله لي!"
" الكلام سيكون عن المستحوذين... او الانعكاسات قبل أن يصيروا كذلك. انهم ليسوا بمخلوقات طبيعية، بل هم نتيجة لتجربة فاشلة حاول فيها بعض علماء الجن خلق محاكاة لعالم البشر."
ماذا؟ هل للجن علماء أيضا؟
" ذلك أدى الى خلق عالم مواز لعالمكم لا يتواجد فيه شيء غير نسخة منكم غير قادرة على فعل شيء سوى مراقبتكم و استقبال مشاعركم التي تلوذ الى اللاوعي. يمكنك تعريف العالم الموازي على أنه امتداد للاوعي البشري، او الشخصية التي يخفيها الانسان بقناعه، مقنعا نفسه أن القناع الذي يرتديه هو حقيقته و أن انفعالاته الداخلية و مشاعره التي يكبتها ما هي إلا حالات شاذة لردود فعله الحقيقة. فيكون مصير هذه الشخصية الذي نبدها الشخص الدفن في مقبرة النسيان، و يوما بعد يوم تصير جزءا من اللاوعي. كما تعلمين اللاوعي يشمل الوعي أيضا، فإذا كان الوعي غرفة فاللاوعي هو المنزل بأكمله، لكن أتدرين أين تذهب الشخصية المنبوذة؟... كانت في البداية تذهب إلى ابعد غرفة موجودة من الوعي، و لكنها كانت تزور غرفة الوعي بين فينة و أخرى إذا ما استدعتها الضرورة، و مثالا عن ذلك القلق الناتج عن الصدمة، و الذي يُحيى من جديد إذا ما عاش الشخص تجربة مشابهة للتجربة التي جعلته يدخل في أزمة القلق لأول مرة. لكن الأمر قد تغير بعد إنشاء العالم الموازي، إذ بدل أن تُنقل الشخصية المحمولة الى غرفة ما من غرف المنزل، صارت تنقل إلى الحمام و بعدها تُسحب البالوعة و ينتهي بها المطاف في المجاري او ما تسمونه انتم بالعالم الموازي، فيتم امتصاصها من قبل انعكاساتكم، و هذا يعني بأن الشخصية المنبوذة لن ترى ضوء الوعي مجددا على الإطلاق... مبدئيا كانت هذه التجربة الفاشلة حلا لأي خلل نفسي ناتج عن اضطراب عصبي... لكن أين تكمن المشكلة؟ المشكلة تكمن فيكم ايها البشر. طبيعتكم الجشعة، و رغباتكم التي تزداد مع كل طلوع فجر جديد، و مشاعر الحقد و الكراهية التي تكنونها لبعضكم البعض ، كانت تُكبت كل يوم بكميات هائلة و تُرسل الى انعكاساتكم، مما جعلهم غير قادرين على احتمال كل ذلك الضغط و رغبتهم في السيطرة على جسدكم لعيش حياة افضل. "
" إذن تريد أن تلقي اللوم علينا ها؟"
" ليس تماما، لكن لو كانت قلوبكم أطهر بقليل مما هي عليه الآن، لما كان قد حدث كل هذا. لكن حتى لو لم نصنع العالم الموازي، كانت ستظل نقطة السواد راسخة في قلوبكم لا محالة، مؤدية بكم فيما بعد الى النزاعات بينكم. أي أن الأمر سيان بالنسبة لكم، سواء أكان هنالك عالم مواز أم لا، فقد اخترتم المصير الأكثر بشاعة و سوادا من بين جميع المصائر التي أتيحت لكم . "
لم أجد شيئا أرد به على آصف، لأن كل كلمة نطق بها كانت تحمل معنى عميقا لامسني أنا بالأخص بعدما رأيت فظاعة الانعكاس الذي صنعت. كم من شخص تمنيت أن أعيش حياته، و كم من مشاعر الدونية التي أحسست بها... تخيل الكم الهائلة من الطاقة السلبية التي كانت تتلقاها مني انعكاسي كل يوم، فقط لتنظر الي و أنا أزيف الابتسامات عن ظهر قلبي، رامية بكل مشاعري السيئة و رائي بدلا من المحاولة في علاج مصدرها، و الذي هو القلب. لا عجب في أنها نادتنا بجماعة المنافقين.
" حسنا حسنا، لا تظهري ملامح الانزعاج هذا، فأنا لم آتي الى هنا لمحاسبتك او معاقبتك. كانت لدي مهمة و قد أتممتها، و الآن اذهب الى سجن قارا الذي سيدلك عليه هذا الخادم على الخريطة . عندما تصلين اليه ستجدين كلمات منقوشة على حجر في المدخل، أنا متأكد بأنك لم تري هذه اللغة من قبل لكنك ستستطيعين قراءتها لأنك المختارة. و بذلك ستستدعين خادم المدخل ليدلك على خطوتك القادمة. وداعا." ثم اختفى في الجدار في لمح البصر كالغبار غير تارك وراءه أي أثر.
حملني خادم الجن ذاك و أخذني الى حيث الخريطة مجددا، ثم أشار عليها بأصبعه عن مكان سجن قارا. كان من المستحيل علي أخذ الخريطة معي أو حفظها كلها، لذا أحضرت ورقة و قلم حبر و حاولت رسمها بالتدقيق، و أظن أنني وُفِّقت في ذلك. بعدها أكلت من بعض الزاد الذي قدمه لي الرجل العجوز و توجهت لأنام استعدادا للانطلاق في رحلتي. حملت رسالة مرجانة و قرأتها مرارا و تكارار و الحنين يشق قلبي شوقا لرؤيتها مرة ثانية، بينما دموعي تسري كشلال متدفق. و في الأخير حضنت الرسالة الى صدري و غطت في النوم.

الذكريات المحرمة || The Forbidden Memories Où les histoires vivent. Découvrez maintenant