أمام باب الضفة الأخرى●

49 6 10
                                    

وصلت إلى المنزل و آزاد على ظهري و بالكاد استطعت التقاط أنفاسي، ثم حمله أبويه بسرعة دون سؤال إلى غرفته فذهبت وراءهم، ثم سألتني أمه:" كيف وجدته؟ و ما الذي حدث له؟:
_" في الحقيقة.... لقد وجدت آزاد يحاول الانتحار شنقا في الكوخ الذي ماتت فيه أخته." لم أكن أتوقع من الأبوين تقبل حقيقة أن آزاد قد فقد نصف روحه لذا اضطررت للكذب عليهما، كما أن بوابة الضوء تركت آثار على رقبته مما جعل الأبوين يصدقاني.
اتصل الأب بالطبيب ثم طرق باب المنزل بعد عشر دقائق، لكنه لم يفهم حالة آزاد و وصفها على أنها غيبوبة تامة.
  و بعد أن غادر الطبيب، استدعتني أم آزاد إلى غرفة المعيشة لموضوع طارئ، ثم استهلت حديثها :" اسمعيني يا ابنتي، ما سأخبرك به الآن قد يكون صادما لك ، لكنها الحقيقة و أملك كل الأدلة لأثبت لك صحة كلامي"
_" أظن أنني أعلم ما تودين إخباري به... آزاد أخي أليس كذلك؟:
   استغربت عندما سمعت كلامي:" كيف استطعتي معرفة ذلك؟"
_" لقد كتب لي أبي رسالة في لحظاته الأخيرة، لم يذكر التفاصيل لكنه أخبرني بأن آزاد أخي."
_" هكذا إذن... لقد سمعت بموت أباك و اعتقال أمك، لذا فكرت في إخبارك بالحقيقة لعل ذلك يخفف عنك ألمك. لقد كنت أنوي إحضارك إلى منزلي منذ أن اقترحعلي آزاد ذلك، و قد منحته الموافقة لأنني أعرفك و أعرف والديك."
_" هذا لطف منك.... هل بإمكانك إخباري كيف آلت الأمور إلى هذا المجرى؟"
_" قبل ذلك يجب أن أعرف عن نفسي، اسمي سيليستيا و زوجي سيلاس. " ثم توقفت لبرهة و أكملت"منذ أن تزوجت بسيلاس ، كنا دائما نرغب في الحصول على أطفال، لكننا لم نرزق بهم. كنا نزور الطبيب لمدة تسع سنوات، لكن لم ينفع أي علاج و كنا على وشك أن نفترق لأن عائلة زوجي أصرت على أنني السبب في هذا و أن عليه تزوج امرأة أخرى كي يحصل على أولاد. لكن في إحدى الأيام، قررنا أن نزور الطبيب لآخر مرة قبل أن نفترق ، و لسوء الحظ لم تكن هناك أي بشارة بالخير .... اعترتنا مشاعر الحزن و الخيبة ثم قررنا الذهاب إلى المحكة كي نعلن عن طلاقنا ، لكن عند باب المستشفى وجدنا زوجين و معهما امرأة عجوز من أصول مجهولة اتيا حديثا إلى المدينة. كان لهما توأمان. كانت حالة ابنتها مزرية بينما كانت حالة الابن جيدة. أراد الزوجان إنقاذ بانتهما لكن الطبيب رفض إجراء الفحوصات اللازمة  بما أنهما لا يملكان مالا و لا أي وثيقة تأكد على أنهما يتمتعان بتغطية صحية. ثم تقدمت نحو أمك و سألتها:" ما الذي يجري معك يا أختاه؟" فأخبرتني بأنهم قادمون من قرية بعيدة جدا، و أن ابنتها كانت مريضة لكن حالتها قد ساءت، لذا اضطروا للوقوف هنا و أخذها للمشفى. و أنا من شدة بشاعتي، استغللت وضعها و اقترحت عليهما اقتراحا:" ما رأيك أن أتكلف بمصاريف ابنتك مقابل أن آخذ ابنك ؟" استغرب الزوجان في البداية لكن بعد تشاور دام لنصف ساعة وجدا بأنه لا خيار أمامهما غير الموافقة و مع ذلك كانت تبدو الجدة غير راضية عن ذلك و رافضة للاقتراح ( توقفت سيليستيا لوهلة و قالت) أشعر بالاشمئزاز من تصرفي ذاك كلما تذكرته، لقد استغللت حالة الزوجين كي آخذ ابنهما، لقد اعمتني غريزة الأمومة..... و بعد أن دفعت تكاليف العلاج اتضح بأن الفتاة تعاني من مرض في قلبها، لذا اضطر الطبيب لإجراء عملية استئصال لجزء من قلب توأمها و منحه للفتاة لتستطيع إكمال حياتها...." في تلك اللحظة تبادرت إلى ذهني ذكريات من الماضي عندما كان أبوي يمنعانني من القيام بالأعمال الشاقة بسبب ضعف قلبي .
قلت في نفسي:: هكذا إذا، يبدو أن آزاد كان السبب في عيشي منذ البداية... و أنا الآن مكتوفة اليدين غير قادرة على مساعدته لاستعادة روحه."
_" ثم اقترحت على أبويك أن أعطيهما منزلا قريبا منا كي يستطيعوا رؤية آزاد دائما... في البداية كانت أمك تريد أن تخبركما الحقيقة في سن العاشرة، لكن قبل ذلك بقليل عارضت عن إخباركما بالحقيقة بحجة أن ذلك سيسبب لكما اضطرابات نفسية ، و بطريقة ما أقنعت اباكي كذلك، و نحن وافقنا بالطبع لأنكما ولديهما في نهاية المطاف و هما الأعلم بمصلحتكما. "
فكرت مع نفسي:" قبل قليل من سن العاشرة، بالطبع كانت تلك فكرة المستحوذه. لكن لماذا لم تكن تريد مني الالتقاءبآزاد."
   ثم خاطبت السيدة سيليستيا :" شكرا لك سيدة سيليستيا على إخباري للحقيقة و على اعتنائك بأخي كل هذه المدة، أنا أقدر لك حسن صنيعك حقا....هل يمكنني أن أصعد إلى غرفة آزاد ؟"
_" أجل بالطبع ، اذهبي متى أردت لا داعي لسؤالي. اسمعيني يا ابنتي جيدا قبل أن تصعدي، العيش لوحدك ليس أمرا سهلا، كما أنني سأخبر آزاد عن الحقيقة أيضا بمجرد استيقاظه، لذا... ما رأيك في العيش معنا من الآن و صاعدا. أنا متأكدة بأن القدر قد جمعكما في هذه اللحظة بالذات كي يخفف عنك آزاد الحمل الذي يثقل كاهلك"
_" شكرا لك يا عمة على كلامك الجميل هذا... كل ما أوده الآن هو عودة آزاد سالما إلينا ، حينئذ ستعود المياه إلى مجاريها."
تحركت بخطوات ثقيلة نحو غرفة آزاد و أنا أعلم كل العلم بأن الكلمات التي تفوهت بها لم يكن من شأنها سوى إثلاج صدر السيدة التعيسة التي كانت تجلس أمامي رغم بعدها الكبير عن الحقيقة. و مع كل خطوة كانت الأفكار و التساؤلات تنهمر علي واحدة تلو الأخرى، لكن الفكرة الواضحة الوحيدة التي خالجت ذهني هي استعادة كامل روح أخي و إصلاح الخلل بين العالمين.
اقتربت من باب غرفة آزاد و فتحتها على مهل، كان قلبي يخفق بشدة لأنني لم أستطع رؤية الشخص الذي علمت للتو بأنه أخي فاقدا لنصف روحه و مستلقيا على السرير كجثة هامدة. لكنني استجمعت قوتي و اقتربت من سريره ببطئ ثم دنوت نحو و أمسكت يده و وضعتها على صدري ، فشعرت بالحنان و الدفئ يتدفقان إلي و يذيبان الثلج الذي يحيط بقلبي و يذب البرودة في جميع أنحاء جسدي:" هل سمعت ذلك؟ نحن إخوة.... أنا لست في حلم أليس كذلك؟ أنا سعيدة لدرجة أني لم أستطع تصديق ما سمعت.... لكنني منزعجة من نفسي لأنني لم أستطع الوصول إليك في الوقت المناسب! أتمنى أن تسامحني على ذلك. لكن لا تخف، سوف أعيد إليك روحك مهما حصل! أحبك كثيرا يا أخي......أتمنى لو أنك قادر على سماعي كلماتي " أغلقت عيناي ثم وضعة رأسي على صدر آزاد محاولة الاستماع إلى نبضات قلبه :" نبضات قلبك تشعرني بالراحة ... فهي تذكرني بأنك لا زالت حيا، و تمنحني القوة و الأمل اللازمين لأعيش و أحقق هدفي." ثم رفعت رأسي ثانية و حملت الكتاب بين يدي :" أظن أنني وجدت القصة التي كانت تشير إليها جدتي، سوف أرويها لك الآن:
كان يا مكان في قديم الزمان، أرض بعيدة عن أعين الإنسان، أسوارها شامخة و عالية تغطي ما بداخلها من جنان. يحيط بها جبلان، و في كل جبل غابات و أعين ماء و وديان، كستها طبقات من المعدن السامي شديدة اللمعان. لا تقع هذه المدينة لا في الشمال و لا في الجنوب، و ليست في الشرق أو الغرب ، الطريق الوحيد للاستدلال عليها هي نجمة تضيء في أوائل الليل و تنطفئ بعد شروق الشمس. تطل الشمس على البلاد الطاهرة، بشعاعها الذي اخترق قلب الأرض كسهم كيوبيد الذي فشل في إيقاعها في الحب، متجها نحو الضفة الأخرى. في سماء الليل يظهر نجم الشمال الذي استدل به البحارة إلى ديارهم، لكنه سيكون كاذبا هذه المرة لأن الشرق غرب ، و الغرب شرق. سكنت هذه الأرض عائلات من أصول حكيمة، تميز أسلافها بالمعرفة و الذهاء و كان جميع سكانها يتميزون ببنية قوية . لكن يقال بأن عائلة واحدة فقط من هذه الأرض التي يرجع لها الفضل في الحفاظ على توازن عالمنا بطريقة ما ، و لم يعرف عنهم شيء غير هذه المقولة التي يرثونها جيلا بعد جيل: " .....عندما يجبروك على الموافقة يجب أن تثبت و ألا تخاف أبدا ثم قل : أيتها الأرض الشاسعة، أيتها الارواح المقدسة القادمة من السماء، أعيدي هذا الكيان إلى حيث أتى ليثبت كل بعالمه." لم يعلم أحد إلى يومنا هذا الكلمات التي تبتدأ بها الجملة أو ما الذي تعنيه ، لكنها تظل جملة تحمل رموزا و معاني لجميع من يسمعها حتى و إن لم يعرف سياقها." و هكذا تنتهي القصة ." تنهدت تنهيدة كبيرة بسبب الإعياء الذي يخدر جسدي ثم قلت:" أظن أن جدتي تريد مني البحث عن الأرض التي جئنا منها كي أعيد توازن العالم. أشعر بأنه لا زال أمامي الكثير لأقوم به.... " وضعت رأسي على صدر آزاد ثانية كي أشعر بنبضات قلبه التي كانت ملاذي الوحيد من الفوضى التي تحيط بي،  لأجد نفسي فجأة في مكان اشبه بمرايا تعكس زرقة السماء فوقي. 
_" أماليا.... أماليا"
_" هل هناك أحد يناديني؟  "
_" التفت إلى يسارك يا أختي."
_" مستحيل إنه صوت آزاد."
ثم التفت إلى يساري ليظهر أمامي آزاد، كانت سعادتي غامرة ، ثم ذهب راكضة نحوه و عانقته و الدموع تفيض من عيني:" آزاد.... أخي.... لا أصدق ما تراه عيني. "
_" بل صدقي، فأنا آزاد أخوك، بشحمه و لحمه ، أو ربما بروحه فقط،" ثم ابتسم
_" لكن كيف عرفت بأننا إخوة ؟"
_" لقد التقيت بالجدة في العالم الموازي  و أخبرنتي بكامل القصة.  "
_" هل حقا التقيت بالجدة؟"
_" أجل."
_"يال حظك.. كم أشتاق إليها....."
_"كما أستطيع سماع ما يجول بجوار جسدي أيضا لأنني لا زلت متصلا به."
_" إذن لا بد من أنك سمعت قصة أمام باب الضفة الأخرى."
_" أجل! و سمعت أيضا وعدك بإعادة نصف روحي ."
  شعرت بقليل من الخجل عندما قال ذلك.
_" أجل! أنا أعدك ..."  وضع آزاد يده على فمي لمنعي من إكمال حديثي :" أنا لا أنتظر منك إعادة روحي أو حتى التوازن للعالمين، كل ما أريده هو أن تعيشي حياة عادية بعيدا عن كل هذه المشاكل، لذا لقد أحضرتك إلى هنا كي أخبرك بأن تحزمي أمتعتك و تهربي إلى أبعد مكان ."
_" أتطلب مني التخلي عنك و الهرب ، هذا آخر شيء قد أفكر به ."
_" إذا كان آخر شيء تفكرين به، الآن سيصبح أول شيء ... استخدمي عقلك يا أماليا، من المستحيل أن ترجعي روحي إلى جسدي... "
_" هناك أرض يوجد فيها أناس خبيرون بهاته الأشياء، لقد قرأت ذلك في إحدى الكتب القديمة..."
_" أعلم عنها و أعلم كذلك أنه من المستحيل لأحد أن يصل إليها ."
_" إذا أتريدني أن أهرب وحدي؟ لكن إلى أين سأهرب على أي حال، فالعالم قد اختل بأسره، فأينما ذهبت سأجد نفس الظواهر تتكرر هنا و هناك."
_" إذا ما رأيك بأن تبقي معي هنا ؟"
_" ماذا ؟"
_" أجل فهذا المكان أشبه بالفراغ، و هو مكان يفصل بين البوابتين اللتين تربطان العالمين ببعضهما. لا نحتاج هنا إلى أكل أو شرب أو أي شيء آخر لأن أرواحنا فقط من تسكن هنا. "
_" لا! لا! لن أرض الاستسلام بعد أن وصل إلى هذا الحد. "
شد آزاد كتفي بقوة كبيرة ثم صرخ في وجهي:" سوف تظلين هنا شئت أم أبيت، لأنني أعرف ما سيحصل لك إذا ما ذهبت إلى تلك الأرض ."
_" ما ....الذي ....سيحصل إذا ذهبت ؟"
طأطأ آزاد رأسه و قال بصوت خافت :" آسف على صراخي في وجهك.... في الحقيقة لا يعيش الإنسان وحده في تلك البلاد بل الجن كذلك . "
_" ماذا تعني بالجن؟ لم أسمع عن هاته المخلوقات من قبل . "
_" إنها مخلوقات مصنوعة من النار، تملك ذكاء حادا و خبرة كبيرة، كما أنهم قادرين على التسلل بيننا متنكرين في هيئة بشرية للسيطرة علينا . انهم موجودون في تلك الأرض بكثرة لأنها تتمتع بقوة روحانية كبيرة تعد مصدرا لغذائهم. هذا ما أخبرتني به الجدة . و لقد حثتني على منعك للذهاب إلى هناك"
_" كيف ذلك و هي من كان يرشدني؟"
-" لقد كانت تريد منك معرفة الحقيقة فقط، و ليس دفعك لإعادة التوازن."
_" أعلم بأنك تخاف علي يا أخي، و جدتي كذلك...لكنني لن أقف مكتوفة اليدين مهما حصل، لذا سوف أذهب . أعدك بأن أتوخى الحذر . "
_" أليس هنالك طريقة لمنعك ؟"
_" لا" ثم ابتسمت
_" هااه حسنا، لن يمكنني إيقافك مهما فعلت من دون جسد ..... سأساعدك عندما أشعر بأن هنالك خطرا يحدق بك، فبما أن جزءا من قلبي مزروع بداخلك أستطيع الشعور بأحاسيسك القوية. "
_" ثق بي يا أخي، كل شيء سيكون على ما يرام. "
_" أتمنى ذلك من أعماق قلبي .... و الآن سؤودعك فإن بقيت هنا مدة أطول ستتلاشى الرابطة بين روحك و جسدك .... وداعا."
_"  وداعا."
  قبل آزاد جبيني و عانقني بقوة نحو صدره و كأنها آخر مرة سنلتقي فيها ثم قال " شكرا لك يا أختي، أنا أيضا أحبك كثيرا."  و فجأة وجدت نفسي في الغرفة ثانية.

ملاحظة الكاتبة :" السلام عليكم جميعا. أتكلم معكم بصفتي صديقة و ليس كاتبة. شكرا لكم على القراءة. أتمنى أن تنال القصة إعجابكم و أكون عند حسن ظنكم. إذا كانت لديكم أية أفكار أو ملاحظات شاركوها معي في التعليقات فهي بمثابة جسر للتواصل بيننا "

الذكريات المحرمة || The Forbidden Memories Où les histoires vivent. Découvrez maintenant