اقتراب الفاجعة ●

31 3 0
                                    

استيقظت في صباح اليوم التالي بسبب جلبة وسط ساحة القرية. لم تكن مرجانة في المنزل لذا ذهبت للبحث عنها بين الحشود المكتظة هناك. كانت الأصوات مختلطة و لم أستطع سماع سوى بعض الكلمات كجاء الغراب و صوت الشؤم، لكن ذلك لم يكن كافيا لأفهم سبب هلع الجميع.
بعد دقائق من البحث استطعت إيجاد مرجانة أخيرا، فسألتها: " ما الذي يجري هنا؟ لما الكل مذعور "
فأجابت و يداها ترتجفان:" لقد هلكنا يا أماليا... سوف نموت لا محالة"
_" ما الذي تقصدينه؟ أرجوك وضحي كلامك!"
_" لقد حلق غراب أسود فوق قريتنا هذا الصباح قبل طلوع الشمس، و الأكثر من ذلك ظل ينعق و يحلق بشكل دائري فوقنا لمدة طويلة."
_" و ماذا في ذلك؟"
_" إن الغربان نذير شؤم.... لا تجتمع الغربان إلا على الجثث و الأماكن التي توجد فيها حروب و مجازر. لذا لا بد من أنها اشتمت رائحة طعامها في قريتنا فأتت لتنتظر حلول الكارثة بنا جميعا و التغذي على أحشائنا."
الخوف الذي شهدته في أعين مرجانة كان لا يوصف، لقد كان أسودا أكثر من سواد الفحم. لقد كانت عيناها تخلوان من أي بصيص أمل ممكن. لم أدري ما الذي علي فعله؟ و هل ما إذا كان يجب علي تصديق خرافات كهذه.
سحبت مرجانة من يدها ثم اسطحبتها لتجلس تحت شجرة نخيل كي ترتاح قليلا و جلبت لها الماء . " مرجانة ... هدئي من روعك من فضلك. كل شيء سيكون على ما يرام، أنا متأكدة من أن ذلك غراب عادي اشتم رائحة طعام هنا فأتى بحثا عنه."
بدأت مرجانة بالبكاء بشدة و أجابتني بصوت متموج:" هل هناك غراب عادي يحوم فوق قرية نائية كقريتنا لدقائق قبل بزوغ الشمس.... لا مجال بأن ذلك الغراب عادي. أنا متأكدة بأنه صيصيبنا مثل ما أصيب به أجدادنا، أو ربما أسوء."
_" ما الذي أصيب به أجدادكم؟"
_ " قبل زمن بعيد جدا، كان أجدادنا يعيشون وسط تلك الواحة القريبة بسلام. لكن في يوم من الأيام، أتت تلك العائلة و بَنَت منزلا فخما هناك، و منذ ذلك الحين صرنا نتعرض لحوادث غريبة كاختطاف الأطفال الرضع ، موت الرجال بسبب إغراء امرأة لهم جنب النهر و تلبس الجن بالنساء. كانت القرية في فوضى عارمة و بدأ عدد السكان يتناقص. لم تحل مشكلتنا إلا بعد قدوم عبيد من السودان هاربين من أسيادهم في المدينة، فأخبرونا بأن كل ما يحدث بسبب تلك العائلة التي انتقلت مؤخرا، و التي كانت تحاول التواصل مع الجن و جعلهم خدما لها، و الطريقة الوحيدة للنجاة هلي الابتعاد عن الواحة و القيام بطقس غناوة المحكم كي نحمي قريتنا من الجن. و منذ ذلك الحين صارت طقس غناوة يعلم بشكل سنوي لحماية قريتنا "
كانت قصة مرجانة أشبه بالخيال، ثم فكرت في أن هؤلاء الجن قد يكونون أخطر من المستحوذين. و فجأة أتى فتى صغير راكضا نحونا:" اسمعاني أيتها الأختان، لقد قرر شيخ القبيلة بحضر التجول في القرية بضعة أيام إلى أن يعقِد مجلسا مع كبار القرية و إيجاد حل لهذه المشكلة. سيتم تقديم الطعام بالمجان في السوق، لذا من فضلكما خذا نصيبكما و اذهبا إلى المنزل. "
_" حسنا أيها الصغير، شكرا لإبلاغنا بالخبر."
اتجهت مع مرجانة صوب السوق و أخذنا حصتنا، ثم عدنا إلى المنزل. و مرت سبعة أيام و نحن محجوزون كفئران صغيرة تختبئ في جحرها، و قد بدأ مخزوننا من الطعام ينفذ و كذلك الحطب. فجأة سمعت صوت جدال بالخارج " ماذا؟ كيف يمكن لشخص ما أن يتواجد بالخارج في وقت كهذا؟" ثم أطللت من النافذة لأرى حشدا من خمسة نساء ثم سألتهن:" ماذا هناك؟" فأجابتني إحداهن :" إن سيليا تريد الذهاب لجمع الحطب رغم كل ما يحدث. كما أنها متعبة فقد أنجبت منذ بضعة أيام فقط. "
قالت سيليا:" لا عليكن يا نساء، أنا من المخترارات اللواتي يذهبن لجمع الحطب لذا فلا خوف علي."
_" و ماذا عن ابنك؟ ألا تخافين بأن تختطفه التابعة منك؟ "
ثم تدخلت:" لماذا لا تتركينه معي ريثما تجمعين الحطب ."
_" هذا غير ممكن يا أختاه، فالتابعة تستغل غياب الأم عن ابنها لتأكله."
_" التابعة؟"
_" أجل، إنها امرأة من الجن تستهدف الأطفال حديثي الولادة و تأكلهم، و ترك الرضيع دون أمه هي أثمن فرصة للتابعة كي تختطفه."
_" هكذا إذن..."
_" اسمعن، سأذهب الآن لجمع الحطب و سأعود قبل العصر. سأبقي ابني محمولا على ظهري لذا لن يصاب بأذى. أرجوكن لا تخبرن كبير الشيوخ و إلا وبخني . فكرن جيدا، نحن على وشك التعرض إلى محنة لا نعرف نوعها، كما أن مجلس الشيوخ لم يتوصلوا إلى حل بعد و لا ندري إلى متى سنظل محتمين في منازلنا، لذا سنكون في أمس الحاجة للحطب من أجل الطهي و تدفئة المنازل. "
كانت المنازل دافئة كفاية بالنسبة لي لكن يبدوا أنهم لا يستطيعون تحمل البرد و لو قليلا .
أقنعت سيليا نساء القرية بكلامها، لذا تركوها تذهب لجمع الحطب و وعدوها بعدم إخبار شيخ القرية.
أذنت صلاة العصر، فلم تأت سيليا، ثم أذنت صلاة المغرب و بعدها العشاء، لكنها لا زالت غائبة عن المنزل. و بينما أنا جالسة قرب النافذة أتأمل سماء الليل الجميلة، اجتمعت نساء القرية من جديد و في يد كل واحدة منهن قنديل ذو إنارة خافة كي لا يكشف أمرهن .ثم قالت إحداهن:" لقد تأخرت سيليا، ألم تعدنا بالعودة قبل العصر؟"
_" أنا خائفة جدا، لم يكن علينا تركها تذهب ."
_" لا بد من أن مكروها قد أصابها، يجب أن نخبر شيخ القرية."
_" هل أنت جادة؟ سوف يوبخنا بشدة. و قد يعاقبنا أشد العقاب."
_" لكن لا بد من إخباره كي يرسل الرجال للبحث عنها."
_" يا إلهي، لو اصطحبها زوجها معه إلى المدينة لما تعرضنا لموقف كهذا."
و في ظل هذا الجدال، بدأ ظل امرأة يلوح في الأفق متوجها نحو حشد النساء ." انظرن، إن شخصا ما قادم. هل هي سيليا؟" ثم التفتن جميعا نحو الظل الذي كانت خطواته غريبة و أجابت إحداهن:" نعم إنها سيليا، أنا متأكدة. لكن لماذا تبدوا ملابسها حمراء تحت ضوء القمر، ألم تكن ترتدي ثوبا أبيضا؟"
_" لا تلق بالا لهذا، هيا لنسرع إليها."
تقدمت النساء بخطوات مسرعة نحو الظل الذي سقط على الأرض في لحظات معدودة. و عندما وصلن كانت تلك سيليا بالفعل، لكن ثوبها الأبيض ملطخ بالدم من رأسها إلى أخمص قدميها. كانت فاقدة للوعي فحاولت النساء إيقاظها، و عندما شعرتُ بشيء غريب خرجت من المنزل مسرعة و التحقت بهن. و فجأة بدأت سيليا بالصراخ و هي تقول :" لقد أخذت التابعة ابني.... لقد أكلته فوق ظهري .... أعيدوا إلي ابني... يجب أن أدفئه خلال العاصفة الثلجية" و الدموع تفيض كشلالات من أعينها مع كل حرف تنطق به، فهبت رياح باردة على غير العادة زرعت شرارة من الرهبة في قلوبنا.
أيقظ صراخ سيليا أهل القرية بأكملها فخرجوا جميعا من منازلهم يحملون قناديل و شموعا متجهين نحو مصدر الصراخ. كانت في حالة من الهستيريا التي لم يستطع أحد التحكم بها إلى أن جاءت حكيمة القرية التي تهتم بالتطبيب و الأعشاب الطبية و جعلتها تشرب جرعة من عقار منوم.
تعاونت النساء على حملها إلى منزلها فلحق بهن شيخ القبيلة و بدأ بقراءة نصوص دينية أخبرتني مرجانة بأن اسمها آيات القرآن ، و ذلك لطرد الأرواح الشريرة و الخوف و تهدأت النفس. و قد استطعت ملاحظة تأثير هذه الكلمات على أهل القرية بل و علي كذلك فدخلت السكينة على قلوبنا خاصة و صوت الشيخ الرزين و الهادئ.
بعد لحظات استيقظت سيليا، كان الجميع سعيدا لأنها عادت إلى رشدها. و بينما كانت مستلقية على الأرض الطينية بجانب المدفئة التي تبعث الحرارة في الغرفة، و رائحة الدم المنبعثة من ثوبها سألها الشيخ و عيناه لا تفارقان الأرض :" ما الذي حدث لك يا ابنتي؟ و ما الذي جعلك تذهبين إلى الغابة؟" ثم بدأت دموع سيليا تنهمر من جديد ، لكنها استجمعت قواها و بدأت بسرد قصتها ، و أنا كلي آذان صاغية محاولة تجاهل صوت الرياح الليلية التي كانت تحرك الشبابيك الخشبية المهترئة " لقد لاحظت بأن الحطب قد نفذ من القرية، لذا قررت الذهاب و جمع بعض منه كي نتدفء به. كنت أنوي العودة قبل العصر، و لقد ظللت أجمع الحطب لمدة طويلة جدا، لكن في كل مرة كنت أرى فيها الشمس لم يكن مكانها يتغير أبدا.... فشعرت بالريبة لذا حاولت العودة، و عندما أوشكت على الخروج من الغابة صار فجأة النهار ليلا. لم أستطع استيعاب ما الذي يحصل، و أثناء محاولتي الفرار من الغابة ظهرت أمامي التابعة.... لقد كان شعرها أبيضا كالفضة، طويلا يصل إلى أخمص أخمص قدميها، وجهها أسمر قاتم ، عيناها صفراوتين كأعين قط تشع تحت ضوء القمر و فمها كبير ملطخ بالدم تملأه أسنان حادة ..... لا أستطيع التذكر جيدا لكن أظن بأنها كانت ترتدي ملابس بيضاء واسعة جدا كانت هي الأخرى ملطخة بالدم هنا و هناك. ثم بدأت بالركض نحوي فغيرت اتجاهي و بدأت أنا كذلك أركض نحو قلب الغابة، و لسوء حظي تعثرت في غصن شجرة بسبب الظلام الدامس. و ما إن حاولت النهوض لأبدأ بالركض مجددا إلى أن وجدتها فوق رأسي تماما، و قد ربطت رجلي بخصل من شعرها ثم قالت :" كنت أود أن أحتفظ بهذا الفتى كمؤونة للعاصفة الثلجية القادمة، لكنه هزيل جدا ..." "
تساءل جميع الحاضرين :" عاصفة ثلجية في الصحراء؟"
_" نعم هذا ما قالته، ثم .... ( بدأت بالبكاء و التحدث بصوت متقطع و متموج جعل قلبي يتحطم من شدة شفقتي عليها فامتلأت عيناي بالدموع) بدأت بأكل ابني و هو فوق ظهري ، كنت أرجوها أن تأكلني مكانه، لكنها أخبرتني بأنها لا تحب طعم العجائز و ظلت تلتهم ابني بشراهة إلى أن لطخت ثوبي بأكمله بدمه. " و مباشرة بعد انتهائها من كلامها أصيبت بالنوبة الهيستيرية مجددا، ثم اضطروا لإعطائها العقار كي تنام و ترتاح بعض الشيء.
استند شيخ القبيلة و قال بصوت حازم:" فليتم استدعاء جميع شيوخ القبيلة و الحكيمات حالا كي نخرج بحل لهذه المهزلة الآن. " ثم انصرف من الغرفة تاركا بابها مفتوحا لتتسلل منه همسات الرياح الباردة التي تزداد عتوا مع ازدياد حلاكة الليل.

الذكريات المحرمة || The Forbidden Memories Où les histoires vivent. Découvrez maintenant