الاعتراف●

37 2 0
                                    

   * زاوية نظر ساجي *
وصلت المخفر، ثم أخبرني المحامي الخاص  بأن زوجتي ترغب في التحدث معي على انفراد في أمر طارئ، لذا التقيت بها في غرفة منعزلة ثم قالت :" أنا لا أنتظر منك أن تسامحني،  لأنني لم أكن مخطئة فيما فعلته."
_" و في ماذا سيفيدك هذا الكلام؟ جميع الأدلة ضدك، لذا يمكنك العيش لبقية حياتك دون ندم في السجن. لقد انصدمت حقا، لو كنت أعلم أنك كذلك لما كنت تزوجتك ."
_" هذه هي الحياة،  فأحياننا تسعدنا و أحيانا تحزننا، و ما لنا إلا أن تقبلها بحلوها و مرها."
_" أظن أنني أتيت لأنك ستخبرينني بشيء مهم، و ليس لإعطائي دروسا في الحياة."
_" أجل، سأتكلم دون مقدمات.... عكس ما أخبرتك به، فآزاد لا يعلم شيئا عن العالم الموازي و عن عائلتنا، كما و أنه لا يعلم بحقيقة ريمان. لقد خدعتك طوال هذه المدة و ما كان لك إلا أن تأخذ مقعدا ضمن المتفرجين لمسرحيتي."
_" ما الذي تقولينه!؟"
_" مثلما سمعت أذناك،  لقد كان اتفاقنا هو إبعاد آزاد عن ريمان لأنه يعلم الحقيقة كاملة و يريد التضحية بها لعودة الأمور إلى سابق عهدها، لذا كنا نمنعها من القيام بأي علاقة مع الآخرين خوفا من أن تقودها إلى آزاد أليس كذلك؟"
_" أجل...."
" لكن ما هذه إلا كذبة حكتها ببراعة و جعلتك تصدقها. السبب الحقيقي الذي دفعني إلى إبعاد ريمان عن آزاد هو أنني من المستحوذين."
  كان وقع كلمات زوجتي ثقيلا جدا على قلبي" إذن أنت لست زوجتي الحقيقية؟ أنت انعكاس شهد. كيف استطعت الاستحواذ على جسدها؟ ذلك صعب جدا!"
_" إنه صعب لكن ليس مستحيل ( ابتسمت ثم اتمت) لقد كنت أفعل كل ذلك لأحافظ على وجودي، و لحسن حظي أنت شخص غبي صدقتني بسرعة و لم أجد أي مشاكل أو عقبات. ربما هذه نهاية غير جيدة بالنسبة لشخص استطاع أن يتحرر من العالم الموازي أخيرا، لكن يظل السجن أهون علي بكثير من ذلك العالم البائس!"
وضعت يدي فوق رأسي ثم اسندتهما إلى الطاولة محاولا أن أستوعب ما يجري حولي  "لقد استطعت خداعي أيتها الماكرة طوال هذه المدة، لا أصدق أنني كنت غبيا إلى هذه الدرجة ..... لكن لماذا تخبرينني بالحقيقة الآن؟"
_" أليس هذا واضحا؟ أنت تعرف مهمة الانعكاس: إخبار الموتى بالحقيقة و إرشادهم إلى الضفة الأخرى، و من واجبي  إخبارك رغم أنني لست انعكاسك. لكن من يهتم، فأنت صرت من الأموات بالفعل ." ثم أخرجت مسدسا كانت تخبئه في الجيب الداخلي لمعطفها و سددت على  قلبي مباشرة. بدأت شهد تضحك بصوت عال تعبيرا عن فرحها بنجاح خطتها التي شرعت بتنفيذها لمدة طويلة ثم تخلصها مني.... ألقي القبض عليها في الحال و أسرع المحامي نحوي ليحملني من الأرض بعد أن اتصل بالاسعاف. صارت الارضية ملطخة بدمي من كل الجوانب ، و انعكس ضوء شمس العشية القادم من النافذة عليه ليرسم لوحة قرمزية بعثت في نفسي شعورين متناقضين للسلام و الرهبة في آن واحد . لم أهتم بالألم الذي كان يمزق قلبي بقدر ما حزنت على ابنتي التي سأتركها ورائي في هذا العالم الموحش بدون حول أو قوة، لطالما كنت أخشى حدوث هذا المشهد و ها أنا ذا أعيشه. حاولت التقاط آخر أنفاسي لأنطق كلماتي الأخيرة:" اسمعني أيها المحامي.... لا سأخاطبك كصديق الطفولة. اسمعني يا فينسينت ، أعط هذه الورقة لابنتي مهما كلف الأمر، و مرر لها كل أملاكي و ثروتي.... أرجوك لا تخبرها عن موتي إلا بعد خروجها من المشفى ، فدماغها في حالة غير مستقرة. اعتني بها من أجلي، فلا أحد بجانبها الآن..."
_" لا تقل ذلك...ساجي.... لا تدع ابنتك وحيدة.... انت من عليه الاعتناء بها... لا تحاول التهرب من مهمتك."
  أضحكتني كلمات فينسينت، كيف لي أن أتهرب من مهمتي كأب و خاصة لابنة رائعة كأماليا؟ كان لدي الكثير من الأشياء التي أردت أن أخبرها بها لكن الوقت قد داهمني ففضلت أن أستغل لحظاتي الأخيرة في نقل ثروتي لها  كي لا تواجه أي مشاكل بعد موتي .
*وجهة نظر خارجية *
حضن فينسينت ساجي لآخر مرة و بدأت دموعه تنهمر بعد ان حاول بشدة حبسها.
    في هذه الأثناء، كانت أماليا تقرأ قصص الكتاب الذي أخذته من المكتبة. لكنها شعرت بالضجر  فاشتاقت لأبيها و شعرت بالقلق بشأن آزاد. لم تكن المسكينة تعلم بأن أباها قد فارق الحياة. و ظلت تنتظر عودته على أحر من الجمر. لكن الشخص المنتظر لم يأتي، و غاب عنها لمدة يومين كاملين دون سماع كلمة واحدة عنه. سألت الممرضة فأخبرتها بأنها لا تعلم شيئا، اتصلت به فلم يجبها و كذلك الحال بالنسبة لآزاد.  قلقت أماليا كثيرا، و في ظل كل هذه الفوضى العارمة لم تجد شخصا يهدئها و يخبرها بأن كل شيء سيصبح على مايرام ... بأن المستقبل مشرق و ما هي إلا مسألة وقت. لم تشعر بوحدة كهذه من قبل   
   ظلت أماليا سارحة في أفكارها الليلة كلها، و لم تستطع إغلاق جفنتيها من التوتر، و زادت الليالي الباردة لفصل الشتاء من حاجتها إلى شخص يدفئ قلبها.
   في الصباح التالي، أتى فينسينت لأخذها من المشفى، و قد كان أول يوم تثلج فيه تلك السنة. كانت ملامح الحزن واضحة جدا على محيى فينسينت، لم يستطع أن يخبرها بشيء ، و لم تستطع أماليا أيضا أن تحدثه . فكل ما كان يدور بخاطرها في تلك اللحظة هو سبب قدوم صديق والدها القديم لإخراجها من المشفى بدل والدها. و مباشرة بعد أن تخطيا باب المشفى قال لها:" أماليا، اسمعيني جيدا و أرجو أن تتمالك نفسك. في الحقيقة لقد أوصاني والدك بإعداد بعض الأوراق و تقديمها لك بعد خروجك من المشفى... ها هي، خذيها رجاء ."
_" لماذا.... أوصاك بذلك و لم يحضرها بنفسه؟"
أزاح فينسينت نظره عن الفتاة المنكوبة بجانبه، ثم قال و المرارة تملأ نبرة صوته:" لأن... والدك قد... فارق الحياة"
_" كاذب.... هذا مستحيل... أخبرني بأنك تكذب( ثم سقطت أماليا على الأرض و بدأت الدموع تتساقط كحبيبات الثلج المتناثرة هنا و هناك) أبي... لماذا فعلت هذا؟ لماذا ذهبت و تركتني؟...... كيف لي أن أعيش الآن من دونك؟ لماذا الحياة تكرهني كثيرا؟ لماذا هذا العالم غير عادل؟ أتمنى لو أنني انتحرت عندما سنحت لي الفرصة ذاك اليوم...."
_" أرجوك تمالك نفسك يا أماليا( ثم ساعدها على النهوض من الأرض ) هيا لنذهب إلى سيارتي، سوف نذهب لزيارة قبر والدك ."

*زاوية نظر أماليا*

   بدت الدنيا لوهلة ككابوس مرعب يستعصي علي الخروج منه مهما حاولت و لم يكن بيدي حيلة غير البكاء طوال الطريق،  و عندما وصلناإلى المقبرة،  انتكست بجانب قبر والدي و بكيت أنهارا من الدموع.  كان الجو باردا و كانت تثلج بغزارة،  لكنني لم أشعر بقسوة الجو لأن حزني العميق كان أكثر برودة على قلبي من أي شيء آخر. في تلك اللحظة بالذات فقدت إحساسي بالزمن و بالعالم من حولي،  واستغرقت ساعات طوال أبكي بجوار قبر والدي دون أن تعب، و ما كان للعم فينسينت إلا أن يحمل مظلته السوداء و يقيني من الثلج المتساقط. أنا متأكدة بأنه كان يعلم بأنه حتى و إن لم يضع الملظة فوقي فلن أشعر ببرودة الثلج أبدا ، رغم ذلك لم يستطع البقاء مكتوف اليدين، و  الاكتفاء بمشاهدتي و أنا أذبل كزهرة لم تستطع مقاومة قساوة فصل الشتاء.
    نهضت أخيرا من على قبر والدي ثم قلت:" آسفة جدا يا عم، لقد أتعبك و أنت تحمل المظلة فوقي."
_" هذا أقل شيء يمكنني فعله. هيا لنذهب إلى منزلك الآن. يجب عليك أخذ قسط من الراحة."
ثم نظرت إليه بنظرة اندهاش فسألني :" هناك خطب ما؟" ثم ابتسمت ابتسامة حزينة " لا، لاشيء. لقد ذكرتني بأبي فقط. لقد كان دائما يخاف على صحتي و يحثني على أخذ قدر كاف من الراحة." ثم توجهنا إلى السيارة و عدنا إلى المنزل.
   نزلت من السيارة ثم اتجهت نحو باب المنزل، لكنه العم إلياس لم يستطع أن يتركني هكذا و يذهب لذا سألني:" هل تريدين شيئا؟ ما رأيك أن أجلب ابنتي كي تؤنسك ؟ إنها بنفس عمرك."
_" لا داعي لذلك. شكرا جزيلا لك. لقد قمت بالكثير بالفعل."
_" لا تقولي ذلك، فهذا واجبي.  إن كنت تريدين شيئا اتصلي بي دون تردد، رقم هاتفي موجود بين المستندات. أرجو أن تتمالك نفسك و ألا تقومي بشيء متهور، فالكثير ممن يمرون بمثل هذه الظروف يفكرون بإنهاء حياتهم.  لا تموت الآن، فالحياة ما زالت طويلة أمامك."
_" لا تقلق يا عم، لقد مررت بنفس التجربة من قبل مرارا و تكرارا لكنني ظللت صامدة.  لقد وعدت شخصا ما بألا أنتحر، لذا لا تقلق."
_" حسنا يا ابنتي،  أتمنى لك اجتياز هذه المحنة بسرعة." ثم شغل محرك السيارة و رحل .

   دخلت المنزل، فوجدته فارغا و قاتما. ثم بدأت أتذكر الأيام الخوالي عندما كنت أعود إليه و أجد أمي تعد العشاء،  ثم أذهب إلى غرفتي لتغيير ملابسي، ثم نتناول العشاء و تبدأ أمي في البحث عن سبب لتصب غضبها علي، و كل التمثيليات التي كنا نقوم بها أمام أبي. بالعودة إلى الماضي، لم تكن حياتي جميلة قط، لقد عشت تحت ضغط الدراسة و نكران الذات، و كانت أمي تضربني كل يوم تقريبا ، كان أبي يتغيب عن المنزل كثيرا. لكن بما أنني وحدي الآن، أتمنى لو بقيت الأمور على طبيعتها،  فكل تلك المعاناة لا تضاهي الشعور بالوحدة.... آه ! أتمنى لو يرجع الزمن إلى الوراء قليلا فقط، كنت سأستطيع تغيير مجرى حياتي.... لكن لا مفر مما أمر به الآن"

جلست على الأرض و اتكأت على الحائط، لأنغمس في حداد أثقل كاهلي.

الذكريات المحرمة || The Forbidden Memories Où les histoires vivent. Découvrez maintenant