خرج جميع من كان في منزل سيليا إلا أنا و مرجانة و ذلك للاعتناء بها. أعددنا لها الطعام و حاولنا مواساتها قليلا، ثم غنيت لها أغنية هادئة كي تساعدها على النوم.
أطفأنا المشاعل ذات الإنارة القوية و جلست مع مرجانة قرابة المدفئة الموقدة ثم بادرت بالكلام:" أ لا تجدين بأن الجو قد صار باردا فجأة؟" لقد كانت ملاحظتها في محلها مع أنني ظننت بأن ذلك بديهي بما أنه فصل الشتاء، لكن بنبرتها التي تشوبها الريبة جعلتني أشعر بالقلق فسألتها: " ما الذي ترمين إليه؟"
_" لم يسبق لقريتنا أن عرفت هبوب رياح كهذه، تزداد قوتها بشكل متواز مع شدة برودتها. كما أن الأيام التي سبقتها كانت أشد حرارة من الليلة، أليس من المفترض أن ترتفع حرارة الجو لا حدوث العكس ؟ خاصة و أن فصل الشتاء قد أوشك على الانتهاء."
لم أكن أعلم بما يجب علي أن أجيبها ، فأنا لم أقضي في هذه القرية سوى قرابة السنة و لازلت غير مدركة طبيعة مناخها.
ساد صمت ثقيل لفترة من الزمن فلم تنطق واحدة منا و لو بكلمة. ثم نهضت لأُطِل من النافذة لأجد الجو قد أصبح باردا لدرجة أن استنشاقه كان يؤلم أنفي و يجعل حنجرتي تلتهب، و أوراق النخيل تتمايل بشراسة تحت ضوء القمر الذي بدأ يتلبد وراء الغيوم. ثم التفت إلى مرجانة لكنها تحدث أولا:" أماليا .... انا الان اعيش في دوامة من الحزن و العياء القاتلين، لم أعد استطيع التفكير بشكل سليم بسبب الضوضاء العارمة في رأسي، تعبت من ضغط الحياة و من خوفي من القادم..... أنا خائفة جدا... لدي إحساس قوي بأن لنا عن قريب نهاية لا تحمد عقباها . "
_" مرجانة هل أنت بخير ؟"
_" لا لست كذلك،لست كذلك أبدا.... أصغ إلي جيدا ، أنت لست من أهل هذه القرية، و ليس من مسؤوليتك حمايتها أو البقاء معنا أثناء تعرضنا للمحنة. لقد ارتكبنا خطأ ما و الآن آن الأوان لنكفر عن ذنبنا. لذا أطلب منك أن تجمعي رحالك و تذهبي من القرية في أقرب وقت قبل حلول الفاجعة."
لم أنطق بكلمة بعد ما قالته مرجانة، هل طلبت مني للتو مغادرة القرية؟ كيف استطاعت قول ذلك. " ما هذا الهراء يا مرجانة؟ لقد قضيت قرابة سنة في هذه القرية و تعلمت لغتكم و تقاليدكم، لقد أصبحت منكم بالفعل."
ثم صرخت في وجهي :" لا... أنت لست كذلك، أنت لا تعلمين عنا شيئا"
" بل أنا كذلك... أعلم بأنكم تغطون شعركم و تلبسون ملابس فضفاضة حشمة من الرجال، أعلم بأنكم تصلون خمس مرات في اليوم، أعلم بأنكم تستضيفون الغرباء و تمنحونهم الطعام، أعلم بأنكم تحبون التعاون في جميع المهام، أعلم بأن الرجال يقدرون المرأة و لا يتجرؤون حتى على لمسها، أعلم ..... "
ثم قاطعت كلامي:" هذا يثبت على أنك لا تعلمين شيئا، نحن لسنا ملائكة كما نبدوا. نحن منافقون نعبد الهنا بوجه و نعصيه بوجه آخر. لا نستحق أن ينظر إلينا بطريقة رائعة هكذا( ثم بدأت بالبكاء) أرجوك يا أماليا لا تجعليني أكرر كلامي، ارحلي عن هذه القرية المشؤومة و عيشي حياة رغدة في مكان آخر."
_" ما الذي تعنينه بأنكم تعصونه بوجه آخر." ظلت مرجانة صامتة بعض الشيء ثم قالت و هي مترددة: " الحقيقة يا أماليا هي أننا نتعامل مع الجن، نقدم لهم التضحيات كي لا يسببوا لنا الأذى و يحمونا. و الآن بما أنك علمت بحقيقتنا أرجوك ارحلي من هنا!"
" لن أذهب من هنا و لو على جثتي ."
" لماذا تريدين الموت إلى هذه الدرجة."
" لن أكون سعيدة إذا ما كنت الناجية الوحيدة من القرية. سوف نتدبر أمرنا و نخرج جميعا من هذه المحنة بسلام ( ثم تقدمت قليلا نحوها) مرجانة، أنا أريد أن أصبح واحدة منكم ألا يمكنني ذلك؟"
" ما الذي تقصدينه؟"
" ما أقصده هو.... لقد أحببت دينكم لذا أريد أن أعتنقه"
_" هل تريدين أن تصبحي مسلمة؟ أنا سعيدة من أجلك لكن، يمكن لأي مسلم آخر أن يرشدك إلى طريقة فعل ذلك."
_" لا.. أنا أريدك أنت أن تعلميني، فأنت كنت صديقتي و أختي خلال هذه المدة. اعتنيت بي دون كلل و رحبت بي في منزلك رغم أنني غريبة، لذا أنت الوحيدة التي تستحق أن تنال مكافئة هذا العمل"
_" الدال على الخير كفاعله."
" مرجانة أرجوك اسمعيني..."
" لا، لن أسمع شيئا. عليك أن تذهبي، هذا هو الشيء الوحيد الذي أدركه الآن."
و في خضم هذه المشاحنة بدأت الباب تُطرق فذهبت لفتحها، ثم سألني شاب في أواخر العشرينيات من عمره:" هل أنت الآنسة أماليا؟"
_" أجل، هل من خطب ما؟"
_" لقد استدعاك شيخ القبيلة إلى المجلس"
ماذا؟ أنا؟ لماذا تتم دعوتي لمجلس موقر كمجلس الشيوخ؟
_" آه.. حسنا سوف آت الآن. أرجوك أرشدني إليه"
_" هيا اتبعيني."
التفت نحو مرجانة فرأيت معالم الدهشة و الحيرة تعتري وجهها، فأومأت برأسي كي أطمئنها بأنني سأعود و أغلقت الباب ورائي.
أخذت الرياح الثوب الذي كنت أغطي به شعري، فأعارني الفتى ثوبه الذي كان يضعه فوق كتفيه و عيناه لا تفارقان الأرض ثم أخبرني:" لا تقلقي أيتها الآنسة، سيكون كل شيء على ما يرام ."
لقد كانت كلماته بسيطة لكنها بعثت بالراحة في قلبي و ساعدتني على استجماع رابطة جأشي.
وصلنا مجلس الشيوخ و تمت استضافتي بحفاوة كالعادة، لكن سرعان ما عمت الجدية في الأجواء و بادر شيخ القرية بالحديث:" يا بنيتي لا بد من أنك تعلمين بشأن الغراب و نذير الشؤم؟"
_" أجل."
_" و لحماية أنفسنا، سوف نقوم بطقس غناوة ( ثم توقف قليلا و كأنه سيندم اذا ما أخبرني بمعلومات أكثر) لكنه ليس طقسا عاديا ، إذ يستدعى فيه الجن لحمايتنا من الكارثة، و من شروط هذا الطقس ألا يحضر فيه الغرباء ."
ثم تذكرت كلام مرجانة عن تعاملهم مع الجن" لكن يا سيدي أنتم مسلمون، فلماذا تقومون بأفعال تخالف ما جاء في دينكم ؟"
_" معك حق فيما قلته، لكن أجدادنا قد عقدوا صفقة مع الجن تنص بالقيام بهذا الطقس مرة كل سنة نقدم فيه التضحيات و القرابين لهم مقابل ألا يؤذونا ، و نحن الأحفاد نحمل على عاتقنا الذنب الي اقترفه أجدادنا. إن توقفنا عن القيام بتلك الطقوس سيعتبره الجن خرقا للعقدة و يقومون بقتلنا، لذلك نحاول التعبد قدر الإمكان خلال السنة كي يغفر لنا إثم هذا الذنب الذي نقترقه."
_" و هل يجب أن تمشوا على خطى أجدادكم رغم وعيكم بأن فعلكم هذا خاطئ؟"
" اسمعيني يا ابنتي، لقد أخبرتك بهذا تمهيدا للمعلومة القادمة التي تخصك، و ليس للنقاش حول طقوسنا و تقاليدنا." قال الشيخ بنبرة تنم عن الازعاج .
" أنا آسفة على التطفل... فأنا بعد كل شيء أظل غريبة عن هذه القرية و لا يحق لي التدخل في شؤونكم."
_" لا عليك يا بنيتي... على أي ، سبب استدعائي لك هو إخبارك بأنه يجب عليك مغادرة القرية هذه الليلة، وذلك لحمايتنا و حمايتك أيضا."
_"لماذا بهذه السرعة؟ ألا أستطيع مساعدتكم؟"
_" لا، بل وجودك سيخرب الطقوس و سنموت جميعا هنا. يمكنك العودة بعد أسبوع ، ففي ذلك الحين سنكون قد انتهينا من جميع المراسم. "
لم يكن لي خيار آخر سوى الموافقة على مغادرة القرية، فإن كان وجودي سيؤدي إلى فشل طقوسهم و موتهم جميعا، فأنا لا أريد حمل عبء ثقيل كهذا إلى الأبد .
_" حسنا كما تريد ."
_" نتأسف على هذا الإزعاج يا ابنتي، و شكرا لك على تفهمك لموقفنا. سوف نقدم لك حصانا كي يساعدك في رحلتك."
VOUS LISEZ
الذكريات المحرمة || The Forbidden Memories
Fantasyمن كان يظن يوما أن ظاهرة طبيعية كسقوط النيازك ستؤدي إلى حدوث ظواهر غير طبيعية في عالمنا؟ صرخات من الجحيم، أموات ينادون الأحياء، مخلوقات غريبة تحاول الاستحواذ على الأجسام .... كل هذا و أكثر يعيشه بطلا قصتنا أماليا و آزاد في محاولة منهما لاكتشاف الس...