«30»

1.4K 33 6
                                    

"أماه، اشتقتُ، أولم تشتاقي؟ عُدِي وضميني لحضنك الحاني، الفراق يقتلني! أماه، ارحميني! حتى بأحلامي لِمَ لا تزوريني؟ بوسعي استضافتك إن كنتِ تجهلين، اشتقتُ إليكِ لِمَ لا ترجعين؟"

وضع كفه الصغير على كفها وهو ينظر لها والدموع متحجرة بعينيه ثم صعد وجاورها الفراش وطبع قبلة على جبينها ثم وضع رأسه على صدرها وأخذ يبكي دون صوت دخلت أخته "رقية" من بعده فعضت على شفتها محاوِلةً التماسك اقتربت وجلست على كرسي مقابل لسرير والدتها النائمة منذ أشهر ولم تتمالك نفسها وانفجرت بالبكاء على الفراش هي الأخرى.
فتحت عينيها بوهن ورفعت يدها عن صدرها فأنزلتها على رأس "رقية" التي رفعت رأسها ونظرت لها متعجبةً ثم قالت بلهفة وترجي:
-ماما عشان خاطري خليكِ صاحية.. افتحي عينكِ
رمشت عدة مرات فركضت "رقية" للأسفل وهي تصرخ مناديةً جدتها بينما "عدي" حدّق بوالدته دون أن ينبث ببنت شفة حتى أنه توقف عن البكاء والحركة كأنه تمثال أغمضت عينيها من جديد فهتف سريعًا وعاود البكاء:
-ماما..
انكمشت ملامحها بانزعاج ليس من صوته بل من الضوء ففتحت عينيها من جديد وأخذت ترمش بأهدابها الطويلة عدة مرات حتى اعتادت الضوء فنظرت له وابتسمت فألقى بنفسه بحضنها تزامنًا مع قدوم جدته.
لفرط سعادتها كانت مشتتة لذا حادثت إحدى الطبيبات من المشفى لفحصها وبعد بعض الوقت مرّ على الجميع وكأنه سنوات عديدة وعلى أحدهم كالقرون ولم يكن سوى "آسر" الذي وصل منذ قليل وظل يحدق بها ويكاد يجزم بأنه يعتقد أنه يحلم كانت الطبيبة قد أنهت فحصها ثم هتفت بابتسامة عذبة:
-الحمد لله على سلامتها، مؤشراتها الحيوية تمام بس لازم تيجي المستشفى في أقرب وقت عشان تعمل فحص شامل
أومأت لها "ميادة" وبعد أن اطمأنوا عليها وقضوا معها بعض الوقت ذهبوا وتركوها لترتاح فنقلها "آسر" لغرفتهما وبقي ملازمًا إياها غير مصدقٍ أنها استيقظت وكذلك "عدي" الذي حرك شفاهه قائلًا دون صوت:
-تعرف حد اسمه فهد الجبالي
-فهد!
هتف "آسر" بعدم تصديق وابتسامة رُسمت على شفتيه فور ذِكر اسم صديقه بينما "أسيل" نظرت لابنها باستغراب وقالت:
-حبيبي أنتَ ليه بتتكلم من غير صوت
انهت كلماتها ونظرت لزوجها الذي طبع قبلة على رأس "عدي" وقال بنبرة حزينة:
-بعد الحادث حصلت له صدمة نفسية وفقد النطق بس في تحسن بدأ يتكلم ولو بسيط
نظر له بفضول يُشع من عينيه البريئتين فضحك والده وقال:
-صاحبي
فجأة وجدوا أحدهم يقتحم الغرفة ومن سواها "رقية" التي ارتمت بحضن والدتها وحاولت ألا تبكي قدر المستطاع فظلت والدتها تربت على شعرها حتى غفت وكذلك "عدي".
___________

منذ أن عادوا وهم صامتون فقط "فهد" يحدق بأخته وابن أخيه بدون تعبير، "جاسم" يجلس ويضع رأسه بين يديه، بينما "آية" توزع نظرات حائرة على الجميع وهي تعانق "ضحى" التي تبكي وتمسك يدها التي ترتجف، كادت تُجن ماذا حدث ليكون حالهم هكذا "حمزة" الذي كانت حالته مذرية بدايةً من شعره المبعثر مرورًا بالكدمات على وجهه وذراعه نهايةً بثيابه الممزقة حمحمت وقالت:
-إيه اللي حصل حد يرد عليا
نظر لها "فهد" نظرة لم تفهم كنهها ثم نظر "لحمزة" وقال أمرًا إياه:
-روح اغسل وشك وغيّر هدومك
أومأ له وهرب سريعًا فتوجهت أنظار "فهد" لأخيه "جاسم" وقال:
-روح أنتَ ولو في أي شيء كلمني والمرة الجاية إن شاء الله هكون معاك
أومأ له وذهب هو الآخر أعاد التحديق بأخته التي أخفت وجهها بصدر "آية" ودموعها في تزايد، بعد القليل من الصمت تحدث قائلًا بهدوء:
-آية بعد إذنك اطلعي برا
تشبثت "ضحى" بملابسها وهمست برجاء واستعطاف:
-عشان خاطري لا
نظرت لزوجها بتساؤل فتنهد للمرة التي لا يعلم عددها ثم قال لأخته من بين أسنانه:
-كم مرة حمزة قال لك تبعدي عنهم
همست بخجل من عِنادها:
-كتير
-أخرهم كانت امتى؟
-امبارح
صرخ بها غاضبًا:
-ومبعدتيش ليه عاجبك اللي حصل!
-أنا آسفة
-بعد إيه!
صاح بغضب بعد أن دفع كوب الماء فتهشم وبقت الشظايا متناثرة على الأرض، فهتفت "آية" محاولةً تهدئته:
-فهد، براحة مش كده
أشاح بوجهه عنهما وأخذ يطرق بيده على الطاولة بينما "ضحى" قصّت على "آية" ما حدث فربتت على رأسها وطبعت قبلة على جبينها وقالت:
-الحمد لله إنك كويسة
قال "فهد" بعدما هدأ قليلًا:
-تعالي
نظرت له قليلًا ثم اتجهت إليه بتردد تود أن تنشق الأرض وتبتلعها الآن فيتنهي كل شيء جلست على الأريكة التي يجلس عليها وتركت بينهما مسافة اقترب جاذبًا إياها لحضنه وقال:
-لازم تفهمي إننا خايفين عليكِ وطالما حمزة أصر على بعدك عن سما يبقى عارف إنها بنت مش كويسة وأنا متأكد إن مفيش بينك وبين اللي اسمه هاني ده حاجة
بس عايز افهم هو بيكلمك ليه
محت دموعها واطمئنت بحضنه صمتت قليلًا تستجمع الكلمات وقالت وشفاهها ترتجف موشكةً على البكاء:
-هو صاحب سما وبيجي يتلزق ولما قلت لحمزة قال أبعد عنهم حسيته بيتحكم فيا مكنتش أعرف إنهم مش كويسين بجد
ربت على ظهرها بحنان وهدوء وكأن سحابة السكينة أمطرت على فؤاده عكس عاصفة الغضب التي تملكته منذ قليل، قال موضحًا بهدوء:
-يا حبيبتي محدش عايز يتحكم فيكِ حمزة خايف عليكِ بجد وأكيد مش هيقول كده من غير ما يكون عنده دافع
هزت رأسها موافِقةً له فابتعد عنها وامسك يدها متابعًا:
-أنتِ مش بس أختي يا ضحى أنتِ بنتي وأغلى عندي مما تتصوري لا صحابك ولا أي حد في الدنيا هيحبك قد ما بحبك ومحدش هيخاف عليكِ زي ما بخاف عليكِ
أومأت موافقةً إياه الرأي وأردفت:
-عندك حق
ابتسم قائلًا:
-خلاص يبقى أي شيء يحصل معاكِ تحكي لي على طول متخافيش مني ولا تترددي وتقولي مش هفهمك، خليكِ عارفة إني دايمًا هنا ودايمًا معاكِ
___________

خطايا الظل✓حيث تعيش القصص. اكتشف الآن