{ماسة}
ما زالت الحرارة تحرق صدري.. أكثر من حرق حرارة الشمس لرأسي وأنا أجلس أمام بيتنا وأرسم في التراب بالغصن الرفيع.. ومع تردّد أحداث المدرسة في رأسي تزداد حرارة صدري المختنق.. "جنها ولد".. "ممنوع الأولاد يلعبون ويانه".. اشتدّت قبضتي على الغصن كما اشتدّ ضغطي على أسناني.. كم أبغضهن.. من يظننّ أنفسهن؟.. وماذا لو كنتُ أشبه الأولاد؟.. هل يحقّ لهنّ منعي من اللعب لسببٍ تافه كهذا؟.. لكن لا يهمني تصرفهن الوقح بقدر قهري على تخلّي سما عني.. كيف لها أن تنظمّ إليهن وتتركني وحيدة؟.. لهذا السبب أكره اللعب مع الفتيات.. لا يمكن الوثوق بأحداهن.. أكملتُ رسمة الولد على التراب وحرّرتُ نفساً حارّاً.. ليتني ولدتُ صبياً..
سمعتُ خطوات وأصوات فرفعتُ نظري دون أن أرفع رأسي.. لمحتُ ابن جارنا سامر يسير مع ولد غريب ليس من سكان المنطقة.. سامر آخر من أرغب برؤيته.. فهو لا يقلّ خباثةً عن الفتيات.. حتى أخي رائد لا يطيقه رغم أنهما في الصف نفسه في المدرسة.. أنزلتُ عينَي وتجاهلته.. لكني سمعتُ كلماته حين اقتربا مني:
ـ وهاي أوكح بنية بالمنطقة، محد يجرعها.
نهضتُ سريعاً وحدقتُ به وأنا أشدّ قبضتي على العصا:
ـ هاي عليمن؟
توقف وأجاب بابتسامة بغيضة:
ـ اكو غيرج بهالمواصفات بمنطقتنة.
كان تأكيده كافياً لأن أندفع نحوه وأضربه بالعصا على رأسه، فصاح وأمسك برأسه مصدوماً.. لكن الردّ لم يأتي منه.. بل من صاحبه الذي كان أضخم منه ودفعني بعنفٍ حتى أسقطني أرضاً.. امتعضتُ من ألم حوضي.. لكني نهضتُ سريعاً ودفعته بكل قوتي.. إلا أنه لم يسقط.. وكأن قوتي لم تؤثر به أبداً.. فاجأني سامر بركلة على ساقي فصرختُ بعلو صوتي للألم الذي تفجّر فيها.. ما هي إلا ثوانٍ وإذا برائد يخرج من بيتنا حافي القدمين ويهجم على سامر دون أن يسأل عن التفاصيل حتى.. حين رأيتُ الغريب يهجم على رائد مساعداً سامر اندفعتُ نحوه لأزيحه عن أخي وبدأتُ أجرّ قميصه ولو لا طوله لجررته من شعره.. على أصوات الصراخ خرج نائل ويونس وشقيق سامر الأكبر.. لكن بدل أن يوقفوا الشجار شاركوا فيه وصارت الركلات والضربات تتوجه في كل الاتجاهات.. لم يوقف الشجار الكبير إلا خروج أهالي المنطقة واضطرارهم لتفكيكنا عن بعضنا..
{رائد}
راقبتُ وجوههم أثناء جلوسنا في البستان خلف بيوتنا.. لقد مرّ يوم على الشجار الكبير لكن الآثار ما زالت واضحة على وجهَي نائل ويونس.. شفاه نائل ازدادت ورماً وعليها آثار دماء يابسة.. أما يونس فلقد تحوّلت كدماته الحمراء على عظمة وجنته إلى ارجوانية.. العجيب أن صاحبة المشكلة خرجت منها سالمة ونحن الثلاثة من تضرّر.. نظرتُ إليها بنصف عين.. كانت تجلس بجانب يونس وتخلع الأعشاب من الأرض بملل.. تنهدتُ وأنا أخفض رأسي وأداعب العشب بيدي.. فشعرتُ بأداة حادة في الأرض.. رفعتها وإذا بها مسمار طويل صدئ.. حرّكته بين أصابعي وأنا أتأمله.. ثم اقتربتُ من جذع شجرة التوت الأبيض وبدأتُ أنقش عليه بالمسمار.. لم يكن الأمر سهلاً كما خيّل لي.. لكنني تمكنتُ بعد عناءٍ من نقش الكلمات المطلوبة.. "فرقة الدعم الخاصة".. فمهما كان الموقف ومهما كانت خطورته.. أنا على يقينٍ بأننا سنقدم الدعم لبعضنا ونحمي بعضنا بأرواحنا.. حرّكتُ المسمار جانباً وبدأتُ أنقش إسمي.. وحين انتهيت ناولت المسمار لنائل وطلبتُ منه أن ينقش اسمه.. أخذ المسمار مني وتأمل نقوشي قبل أن يثبت المسمار تحت إسمي ويخطّ اسمه.. أعاد المسمار إليّ فناولته إلى يونس لينقش اسمه هو الآخر.. لكن سرعان ما اعترضت ماسة التي كانت تراقب عملية النقش: