السادس عشَر

949 144 167
                                    

سحائبُ الدخانِ تطمسُ ما يحيطُه من وجوهٍ مترقبةٍ وعيونٍ متفحصة، تخنقُ مجالَ رؤيتِه وتحرقُ أنفاسَه، بالكادِ قد سمحوا له بالدخولِ بعدما تحققوا من هويَّتِه، وبالكادِ يكبحُ هو اختلاجَ ملامِحِه ورغبتَهُ الخانقةَ في السُّعالِ بسببِ عبقِ أعقاب السجائرِ، كان قد تخلَّصَ أخيرًا من هذه الأجواء الضبابيةِ الثقيلة، انتشلَ نفسه بصعوبةٍ من بينِ شراراتِ الدخانِ وصليلِ الكؤوسِ المتضاربة، ألآن يعودُ وإن لم يتعافَ بالكاملِ بعدُ؟ وإن لم يكد يألف الأنفاسَ النظيفةَ والحياةَ السوِيَّة المستقيمة؟ يودُّ لو بإمكانه أن يستديرَ اللّحظةَ.. ويفرَّ إلى أبعدِ نقطةٍ ممكنة.

لم يُبدِ توتَّرَه قدرَ ما استطاع، أعادَ نفسَه للهيئةِ التي تجنِّبُه التورُّطَ عادةً، جمَّدَ ملامحَه سادلًا جفنَيه قليلًا وجامعًا كفَّيه خلفَ ظهره يعتصرهما معًا، بينما يرسمُ وجهُه معالمَ البرودِ التي تتلطخُ بشيءٍ من استخفاف، محاولًا أن يبثَّ في نفسه وفي الجَمعِ أمامَه رسالةَ أنه ليسَ الفريسةَ التي سرَت إلى وكرِ الصيَّادِ بقدَمَيها.

«كنتُ أعلمُ أنكَ ستغيِّرُ رأيكَ يا عزيزي براي! أنا أعرفُ أن أصدقائي يفضلونَ أن يبقوا في حيِّزِ أصدقائي!»
إنه الوغدُ المقززُ ناثان يقفزُ مقتربًا منه بحماسٍ حتى لَيترُك بينَ وجهَيهما مسافةً لا تتعدى شبرًا، لطالما تساءل برايلين عن مُبرِّرِ حُبِّه الغريب للاقترابِ من محدِّثِه بهذا الشكلِ البغيض، حاولَ أن يُبقيَ على الملامحِ الجامدةِ كي لا يتبيَّن الآخرُ أنه قد انكمشَ ملتصقًا بالبابِ أكثرَ ليبتعدَ عنه، وقال: «لم أعرف قطُّ أننا كنَّا أصدقاءً يا سيد هالاند، تلكَ كانت تسمّى علاقةَ عمل، أنتَ كنتَ زبونًا شبهَ دائمٍ في الحانةِ التي كنتُ أعملُ فيها، وتبعًا لكَوني قد استقلتُ بالفعلِ فأستطيعُ أن أخبركَ صادقًا أنه لم يعد بيننا أيُّ علاقةٍ تُذكر، ما الذي تريدُه منّي الآن؟»

لعنَ لسانَه حينَ نطقَ بصيغةِ التوقير التي اعتادَ أن يناديَه بها، هكذا سيستشعرُ الآخرُ فوقيَّتَه عليه ويتمادىٰ أكثر، وقد كانَ فعلًا، إذ اقتربَ ناثان من أذنه ببطءِ حيةً بينما ينفضُ طرفَ سيجاره على مقربةٍ منه، فسحبَ برايلين قدمه سريعًا خشيةَ أن تمسَّه الشراراتُ المتطايرة، فيما يسمعُ همسَ ناثان: «يا عزيزي براي! أنت تعلمُ أنني لا أحبُّ هذا الأسلوبَ الذي يوحي بالفظاظة، لا تجعلني أشعرُ أن مرافَقتَكَ لذاكَ الطاووسِ في نفسِ الغرفةِ قد نقلت لكَ عدوىٰ وقاحتِه!»

انكمشَ برايلين محاولًا الإفلاتَ قليلًا من حصارِ الآخر، وخشيَ أن يُفتَضحَ توترُه فابتسرَ ابتسامةً جانبيةً وغمغم: «وقاحتِه؟ إدريس هذا هو الشخصُ الذي كانَ على والدِك أن يستعينَ به كي يربيَكَ حينَ لم يستطع هوَ فعلَها وحدَه.»

تنهدَ داخليًا حين ابتعدَ عنه ناثان قليلًا ملتفتًا لأصدقائه الذين ضجّت الغرفةُ بضحكاتِهم على حينِ غرة، لطالما تركَ الصخبُ في نفسِه انزعاجًا ممزوجًا بقدرٍ من الريبة، الضحكاتُ كالصرخات، كلها ضجيجٌ بلا معنىٰ بالنسبةِ له.

جانِح | BAD BOYحيث تعيش القصص. اكتشف الآن