إنها المرةُ التاسعةُ التي يشزرُ فيها الساعةَ جانبيًّا في ذاتِ الدقيقة، الوقتُ يمضي على روحِه كشاحنةٍ مُثقِلةٍ تتأهبُ للتعطُّل، لا يستطيعُ إلا أن يرجعَ باصرَيه الراجفَين نحوَ الخزانةِ القابعةِ أسفلَ طاولةِ الاستقبال التي يقفُ خلفَها، ثم يزدردَ ريقَه مناظرًا الرجلَ الثَمِلَ أمامَه بشيءٍ من توجس، جميعُ من بقوا في الحانةِ صاروا نيامًا بفعلِ السُّكرِ بحلولِ هذا الوقت المبكِّرِ من الفجر، إلا ذاكَ السيدَ الذي لم يكتفِ بعدُ من تسميمِ جسدِه بالكحول.
«ما بكَ أيها الفتىٰ؟ تبدو شاحبًا!»
ترنحت كلماتُ السكير الكهل بينما يعيدُ الكأس نحوَه مطالبًا بالمزيد، سعلَ برايلين حاملًا الزجاجةَ يسكبُ ما فيها في الكأسِ حتى باتت دهاقًا، قبل أن يهمهم محاولًا ضبطَ مخارِجِ حروفِه: «بعضُ الـ.. اختناق.. الهواءُ شحيحُ هنا.»
أتبعَ كلماتِه المتحشرجة بأن شدَّ ياقةَ قميصه الرسمي الناصع دونَ أن يجترئَ علىٰ حلِّ الزرِّ الذي يخنقُ شريانَ رقبتِه، ثم أنزلَ كفَّه ليجذبَ طرفَ الصُّدرة السوداء عديمة الأكمام، غيرَ متوقعٍ القهقهاتِ المتكلفةَ التي خرجت بها حنجرةُ مقابلِه فقطعت السكونَ المستحدث على المكان، لطالما كانَ وقتُ ما قبلَ الشروقِ هو أكثرَ الأوقاتِ راحةً له هنا، أحلىٰ الأمَرَّيْن، على الأقلِّ تخلو الحانة من الضجيجِ إلا شخيرَ السكارىٰ الغاطِّينَ في نومهم، ولكنه أفضلُ من الأحاديثِ الداعرةِ والقتالاتِ المرعبة.«أتعلمُ ما أكثرُ ما يميِّزُ هذا المكانَ يا برايلين؟»
كان يعلمُ أنه قد اكتسبَ مهارةَ فكِّ شفراتِ العباراتِ الثقيلةِ التي تذرفُها ألسنُ عملاء المكان، بطءُ استيعابِه الآنَ لا يعني إلا أن تشتُّتَه قد بلغَ أقصاه فعلًا، ألقىٰ نظرةً أخرىٰ على عقاربِ الساعةِ يتوسلُها لتتزحزحَ وتعلنَ السادسةَ صباحًا، ثم همهم بينما يستخدمُ المنشفةَ في مسحِ اللاشيء عن طاولةِ التحضير: «مكبٌ للقمامة البشرية، لن تجدَ ما هوَ أكثرُ تميُّزًا.»رغم ردِّه الخشن فقد قهقه السكير برعونةٍ مقززة، لم يكلِّف برايلين نفسَه رفعَ عينيه عن المنشفةِ بعدما انتهت الضحكاتُ، ليسمعَ صاحبَها: «هذه نقطة، ولكنها ليست ما يميِّزُ ديونيس، ما يُميِّزُ ديونيس حقًا هو وجودك أنتَ فيها.»
توقفت يدُه لحظةً ما إن اخترقت عقلَه الكلمات، ثم عادَ للمسحِ من جديدٍ رامشًا وقد زادت حشرجةُ صوتِه: «لن آخذَ هذا على محملِ الإطراء، يبدو أن هذا النوعَ قد باتَ ثقيلًا عليكَ قليلًا.»
اعتدلَ الرجلُ في جلستِه مُدوِّرًا الكأسَ بين أصابعِه، ركَّزَ ناظرَيه عليه غيرَ مُتَّخذٍ ما قيلَ على محملِ الإهانة، واستطردَ شارِحًا: «أنتَ تعملُ هنا مُذ تعرفتُ على المكان تقريبًا، الوجهُ الوحيدُ الذي لم يتبدل منذُ خمسِ سنواتٍ إن استثنَينا الوغدَ ميغين، رغمَ ذلك لا تشبهُ هذا المكان، تصرفاتُكَ ونظراتُك وكلماتُك وحتى طريقتُكَ في تأدِيةِ عملك، صغيرُ السِّنِّ جدًّا حتى لتكادُ تكونُ محضَ غِر، تبدو كل يومٍ لكأنكَ دخلتَ هذا المكانَ للتوِّ وما تزالُ تتعرَّفُه، يكتسبُ وجهك درجةَ الشحوبِ نفسَها حينَ تنشبُ الشجاراتُ المعتادة، تتدخلُ لتحلَّ الأمرَ بملامحِ مَن يتمنّى لو في استطاعتِه أن يفرَّ هاربًا، تسقي كلَّ من هَبَّ ودبَّ ولا تمسُّ الخمر، وتعاملُ الجميعَ بتوجسٍ لا يليقُ أبدًا بساقٍ متمرِّس، هذا لا يعني أنكَ لستَ مُجيدًا لعملِك، أنا فقط أعني أن عليكَ أن تنضجَ قليلًا.»
أنت تقرأ
جانِح | BAD BOY
Short Storyإلى الجانِحِ الذي أفسدَ حياتي وحياتَه: لستَ الشخصَ الأخيرَ في هذا العالمِ يا برايلين، لقد توقفتَ أخيرًا عن نصبِ الفِخاخِ في أيامي واعتزلتَ شنَّ حربِ النظراتِ بينَ مآقينا، ولكم يقلقُني هذا يا برايلين، لم أعتد منكَ البقاءَ هادئًا لساعتَين كاملتَين. ...