سيارةُ أجرةٍ تشبهُ علبةَ سردينٍ من صفيح، لا تكفُّ عن الاهتزازِ والارتجاجِ وكأن شيئًا فيها يأبىٰ السير ويقاتلُه آخرُ كي يطويَ الطريق، برايلين يذوي بين ذراعَيه نازفَ الرأس والذراع، بالكادِ غطّى شيئًا من الجرحِ بعدما شقَّ شالَه القطني حين ألقى به القدرُ في هذه السيارة العطبة، كانَ هلِعًا للحدِّ الذي منعه من التفكير السليم، ما إن دلفَ المقهى حتى وجد برايلين يرتجفُ نازفًا وأمه تتهمه بالسرقة، حين ذاك لم يستطع إلا أن أحاطَ بالفتى فارًّا وكأنه قد أجرمَ فعلًا، التحقَ بالمصعدِ وهرب من المركز كاملًا خلال دقيقتين، ثم أوقف أول سيارةٍ ليصرخ بلا تفكيرٍ بعنوان الأكاديمية.
شدَّ على قبضتِه أكثرَ ما إن أفلتت من برايلين أنّةٌ تزامنًا مع ارتجاجِ السيارة من جديد، حاولَ أن يتماسكَ قليلًا علَّ سائقَ السيارةِ لا يلحظُ توتُّرَه، إلا أن الفتىٰ لم يساعده حينَ همسَ له بصوتٍ يكادُ لخفوتِه أن يتلاشىٰ: «الصداعُ والغثيان سيقتلانني، أرجوكَ أن تجعلَه يتوقف.»شعرَ أن غثيانَه الخاصَّ يتفاقمُ حينَ استشعرَ سائلًا دافئًا ينسلُّ من الرأسِ المرتكن على كتفه ليغرقَ رقعةً ضيقةً من قميصه ببطء، ازدردَ ريقًا ورفعَ ناظرَين حائرَين نحوَ الشباكِ بينما يستمعُ لصوتِ السائق: «يبدو صديقُك متعبًا أيها الشاب.»
لم يستجب إلا بشزرةٍ سريعةٍ حائرة، ثم عادت عيناه تبحثُ عن ملاذٍ بين المحالِّ والبناياتِ المتراصة في الشارع، التقطَت عيناهُ شيئًا مختلفًا أخيرًا، لم يكن إلا بابًا خشبيًا منقوشًا بطابعٍ خاصٍ جدًا، سرعانَ ما هتفَ بالسائق بُعَيدَ رؤيته: «أريدُ أن أنزلَ هنا!»
نقّدَه مالَه وساندَ برايلين ليرجعا بعضَ الخطواتِ جهةَ الباب العتيق الواقعِ أسفل بنايةٍ شاهقة، كانَ باديَ التميُّزِ بطابعِه الغريب ومقبضِه النحاسي الذي امتدت نحوه يدُ إدريس ليفتحَه، بينما يهمسُ لبرايلين: «اخلع نعلَيك، نحنُ بأمانٍ الآن.»
مسجدًا كان، بسيطَ الطرازِ على اتساعِه، كثيرَ الأعمدة والسواري، أحمرَ السجادِ الناعم عربيَّ الزخارف التي تمثلت أكثرُها بآياتٍ قرآنيةٍ منقوشةٍ على الجدرانِ بخطٍ كوفيٍ أنيق، له نافذةٌ زجاجيةٌ ينسلُّ منها نورُ الشمس، وقناديلُ منقوشاتٌ ومتوزعاتٍ تصنعُ نورًا هادئًا روحانيًّا.
كانَ الوقتُ مبكرًا على صلاة الظهر، لم يكن ثمة حضورٌ إلا شيخٌ جليلٌ عندَ أحدِ السواري يقرأُ القرآن، ألقىٰ عليه إدريسُ السلامَ، ولم يمضِ وقتٌ طويلٍ حتى غسلَ برايلين بقايا دمائه عنه في دورةِ المياه، ثم تربَّعَ في إحدىٰ الزوايا البعيدة بينما يحاولُ إدريس أن يعدِّلَ ربطةَ الوشاح حولَ رأسِه كي يقلِّلَ النزف، علم بعدَ فحصٍ أن الجِراح سطحيّة بما لا يستدعي الأطباء، ولكنها ما تزالُ تحتاجُ ضماداتٍ ومطهِّرًا.
أنت تقرأ
جانِح | BAD BOY
Short Storyإلى الجانِحِ الذي أفسدَ حياتي وحياتَه: لستَ الشخصَ الأخيرَ في هذا العالمِ يا برايلين، لقد توقفتَ أخيرًا عن نصبِ الفِخاخِ في أيامي واعتزلتَ شنَّ حربِ النظراتِ بينَ مآقينا، ولكم يقلقُني هذا يا برايلين، لم أعتد منكَ البقاءَ هادئًا لساعتَين كاملتَين. ...