السادس والعشرون

979 139 175
                                    

اليومُ الحادي والثمانون منذُ بَدءِ استهلال المشروع:

كان صُبحًا مُشمِسًا بشكلٍ لا يلائمُ أواخرَ نوڤمبر، أنارَ شعاعُ الشمسِ طُرقاتِ الأكاديميةِ وانسلَّ عبرَ زجاجِ النوافذِ الضخمة ليلقيَ على الأرضيةِ ظلالًا مُتوهجةً ويُبرِزَ جمالَ الموجودات، متركِّزًا عندَ بابِ عيادة الطبيبِ أبراهام، حيثُ كان برايلين يحظىٰ بضمادةٍ جديدةٍ تحيطُ معصمَه الأيسرَ بعدما جرحَ نفسه بسكينِ الطعام، وينصتُ إلى النقاشِ الحادِّ الجاري دونَ تدخُّل.

«ولكنك لن تستطيعَ إنكارَ أن الدينَ دائمًا ما يبدو وكأنه يقفُ عائقًا وعاجزًا أمامَ العلم!»
زفرَ برايلين حينَ أعادَ أبراهام النقاشَ إلى أوَجِّه بالجملةِ السالفة، فيما ربَّعَ إدريس ساقَيه في جلسته فوقَ سرير العيادة مستطردًا: «هذا حقيقيٌ جدًا، بالنسبةِ لأيِّ إنسانٍ سطحيٍ عقيم الفكر فالدينُ والعلمُ عدوّان أزليان، في الواقع الدينُ والعلم يتكاملان، العلمُ هوَ ما سيوصِلُكَ بالمعادلاتِ إلى أن انشطار ذرة من اليورانيوم ينتج طاقة هائلة، ولكنه سيبقىٰ محايدًا سواءٌ استخدمنا هذه المعادلاتِ في إنتاج طاقة نووية تعمِّر الأرض، أو في إنتاج قنبلة نووية تدِكُّها! هنا يأتي دورُ الدين، هوَ مَا يقوِّمُ العقلَ البشريَّ ويخبرُه عن الطريقة المُثلىٰ لاستخدامِ علمِه، لا تضادَّ في هذا.»

أنهىٰ أبراهام لفَّ الضمادِ تزامنًا مع سكوتِ إدريس، فألقىٰ عليه نظرةً سريعةً وأبقى على النزال: «هذا كلامٌ خطائبِيٌّ لا ينفعُ إلا على الورق، لا تخبرني أنّكَ لا تعلمُ ما فعله رجالُ الدينِ بالعلماءِ في العصورِ الوسطىٰ، لا أحدَ لم يسمع عن محاكم التفتيش وسجنِ العلماء واتهامهم بالزندقة والهرطقة، ومحارق الكتب التي ذهبت فيها علومٌ عظيمة!»

لم يكن برايلين قد سمعَ عن شيءٍ من هذا، ولكنه فضَّلَ ألا يعترضَ مجرىٰ الحديث، مكتفيًا بمراقبةِ إدريس بينما يردُّ بثقةٍ هادئًا: «بالطبعِ لن أنكرَ هذا، لم يكن الدينُ ضِدًّا للعلمِ إلا في عصورِ الظلام، حصل صراع بين العلم المادي والدين واختارَ رجال الدين الوقوفَ في وجه العلمِ لتضاربه مع تفسيراتهم لنصوصٍ مقدَّسةٍ مُحرَّفةٌ جُلُّها. بالرجوعِ إلى الحضارة الإسلامية فالأمرُ يختلفُ كليًّا، لقد أعلى القرآن من منزلة العقل ورفعَ مكانةَ العلماء، وجعلَ أكثرَ الناس إيمانًا وخشيةً هم أكثرهم علمًا وعقلًا، وخاطب الناس في أكثر من موضع بصيغة ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾، ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ﴾، ﴿أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ﴾. هذا عوضًا عن السُّنة النبويةِ المملوءةِ بالحثِّ على العلم والتعلم، فطلبُ العلمِ فرضٌ دينيٌ بالنسبةِ للمسلم في كل زمانٍ ومكان، وأيًّا كان نوعُ هذا العلم طالما كانَ علمًا ينفع.»

تحركَ أبراهام ببطءٍ يعقِّمُ أدواتِه وقد ارتجفت على شفتَيه ابتسامةٌ عارضة، سرعان ما أردف: «إذًا أنتَ ترىٰ أن جوهر مشكلةِ عصورِ الظلامِ كانت في تحريفِ النصوص الدينية؟»

جانِح | BAD BOYحيث تعيش القصص. اكتشف الآن