الثلاثون

929 128 205
                                    


كانَ صُبحًا بارِدًا كثيرَ الغَيم؛ يبدو كما لو كانَ يشيِّعُ الخريفَ بنظرةٍ جنائزيةٍ بعدما نصَّبَ ديسمبر الشتاءَ حكَمًا جديدًا، أدركتُ ذلكَ مُذ فتحتُ عينيَّ فسارعتُ بإخراسِ الرياحِ التي انهالت من زجاج الشرفة المفتوح وأخرجتُ معطفًا ثقيلًا لي وآخرَ لبرايلين، قبلَ أن أواجِهَ الماءَ الجليدي الذي انسابَ من الصنبورِ فأُدرِكَ أن مسخِّنَ الماءِ مُعطَّل، وأتساءلَ بفتورٍ إن كانَ عليَّ أن أصلحُه هو الآخر.

لم يصحُ برايلين مع صوتِ الأذان هذه المرة، هِرِّي هذا يزدادُ كسلًا بمرورِ الأيام، مع ذلك لا أستطيعُ إلا أن أكونَ مسرورًا لأنه يحظىٰ بنومٍ عميقٍ جزئيًا رغمَ ما يفرِضُه الانسحابُ وكلُّ ما واجهناهُ مؤخرًا، لأجلِ ذلكَ تحركتُ بسلاسةِ مَن لا يتعاملُ مع أيَّ مشكلاتٍ، راسمًا لليومِ خطةً مزدحمةً تضمنت مكالمةً طويلةً انفراديةً مع والدي، رتبتُ حديثي وانتقيتُ الكلمات التي لن تجرحَ أسرارَ برايلين وستشفعُ له أمامَ أبي بذات الوقت؛ مدِّعيًا أمامَ نفسي أنني أملكُ القدرة على إقناعه إن تحلَّيتُ بما أتحلىٰ به عادةً من هدوءٍ وحُجّة صارمة. ثم أقمتُ الصلاةَ ودعوتُ أن لا يكونَ الطريقُ وعِرًا جدًا.

لا أستطيعُ أن أُبالِغَ فأقولَ أن الشطرَ الأول من اليومِ كانَ يلمِّحُ، ولو بشكلٍ طفيف، لما سيكونُ عليه شطرُه الثاني، مضت الأمورُ بشيءٍ من السلاسةِ في إيقاظ برايلين وتناول الفطور وإحصاءِ الدروسِ وحتى في حصة التاريخ التي لا أطيقُ مُعلِّمَها، بحلولِ الوقتِ الذي ارتديتُ فيه معطفَ المعملِ الأبيضَ بينما أتبادل التحية مع السيدِ كايدِن وأستمعُ لإجابةِ برايلين -المليئةِ بالابتكار- بشأنِ السؤال الذي طرحتُه عليه كنوعٍ من الاختبار المفاجئ، كنتُ أملكُ المخزون الكافيَ من اليقين أن اليومَ لن يحيدَ عن خطتي إنشًا، ومجددًا.. تنهارُ ثقتي من علوِّ شاهقٍ فأجدُ نفسي بين الأنقاض.

اجتلستُ كرسيّي خلفَ طاولتنا وقد أُتخِمتُ بتُرَّهاتِه فنبستُ أخيرًا: «كفىٰ إبداعًا يا برايلين، الهيدروكلوريك المخفف لن يذيبَ النحاس الأصفر إلا جز...»
هبَّ ملتقطًا الإجابة من فورِه: «سيذيبُه جزئيًا!»
لم أعترض: «نعم، والذوبانُ الجزئي سيدعمُ التمييزَ بين النحاس و...»
«هذا ما قلتُه للتوّ!»
«كفَّ عن مقاطعتي كي لا أصفقكَ بالمِخبار! أنا لستُ أخرقًا! بالكادِ غيّرتَ إجابتَك!»

لم أكد أتمُّ هتفتي إلا وقد تناهىٰ إلينا صوتُ إغلاق سماعة الهاتف الأرضي الخاص بالمعمل، ويتلوه صوتُ السيد كايدِن: «الهدوءَ أيها الفتَيانِ الثرثاران! يحتاجونَكَ في شئون الطلبةِ يا برايلين!»
«إدريس مَن رفعَ صوتَه أولًا!»
«لا يحتاجونَكَ لهذا السبب بالتأكيد أيها الأحمق، لا تنسَ تركَ معطف المعمل على المشجب.»

تنهدَ برايلين خالعًا المعطف وهامًّا بالذهاب لتنفيذِ ما أُمِرَ به، لولا أن قبضتُ ساعدَه الأيسرَ هامسًا بحنقٍ مكبوت: «ما جديدُ إنجازاتِكَ الآن؟ لمَ يطلبونَك؟»
رفعَ كتفَيه بنظرةِ البريء الجاهل: «أنتَ تعرفُ أنني لم أفعل شيئًا!»
مع إجابته مسَّدتُ جانبَ جبهتي مراجعًا قائمةَ إنجازاتي الخاصة، ثم ما لبثتُ أن خلعتُ المعطف كالممسوس: «ولهذا بالضبطِ لن أسمحَ بأيِّ مفاجآت اليوم.»

جانِح | BAD BOYحيث تعيش القصص. اكتشف الآن