الرابعُ والثلاثون

944 129 192
                                    


اليومُ الحادي والتسعون منذُ بَدءِ استهلالِ المشروع:

ليسَ عَصِيًّا عليهِ توقُّعُ ما سيكونُ عليه طقسُ الأيامِ المُقبِلة، نظرًا لغيماتِ السماءِ وعويلِ الرياحِ وتقلُّباتِ مزاجِ صاحبِه التي لا تنتهي، الزمهريرُ يكادُ يخترقُ عظامَه رغمَ المعطفِ الثقيلِ المحيطِ به، ويجبرُه على تجميعِ أناملِه المُحمرَّةِ أمامَ شفتَيه كي يبُثَّها بعضَ دفءِ أنفاسِه، كانا بالكادِ قد أنهيا جلسةَ التفقُّدِ اليوميّةَ وخرجا من عندِ باركر، بالتأكيدِ لم يكُن من اليسيرِ عليه أن يوافقَ على تغليفِ ثقتِه بشريطٍ لامعٍ وتقديمها لـشخصٍ لا يُدعىٰ إدريس تاج، ولكنّه وبعدَ جلسةِ عصفٍ ذهني مع رفيقه اكتشفَ أنهما لا يملكان سبيلًا سوىٰ هذا ليمضيا فيه، ولأجلِ ذلكَ اتخذا قرارَ المجازفةِ الحذِرة، سينفِّذانِ ما يريدُ باركر ولكنهما سيحاولانِ قدْرَ الإمكانِ أن لا يأتمناهُ على أيَّ أدلَّةٍ ملموسة، خطوةٌ فارغةٌ طبعًا لأنّ لا أسهلَ بالنسبةِ له من الإطاحة بهما الآنَ إن ابتغىٰ هذا، ولكنه أخذٌ بالأسبابِ فحسب كما يقولُ إدريس.

ما يزعجُه الآنَ أن صالح لا يُجيبُ اتصالاتِ ابنِه منذُ أربعةِ أيام، اكتشفا مؤخرًا أنه لم يبلِغ كاملَ عائلةِ تاج عمّا عرف لأنّ جميعهم بلا استثناءٍ ما يزالون يسألون عن برايلين ويتعاملون معه بعفويَّتِهم المعهودةِ، وحينَ سألَهم إدريس بشيءٍ من الحَذَر عن أحوال صالح قالوا أنه يتواصلُ معهم بالشكلِ الطبيعيِّ المُعتاد، وكي لا يثيرَ قلقَ أو ريبةَ أحدهم قررَ أن لا يخبرَهم أنّه لا يجيبُ على اتصالاتِه فيضطرَّ لشرحِ ما جرىٰ بينهم أو حتىٰ لتلفيقِ كذبةٍ ما، واستمرَّ في محاولاتِه المنفردةِ للتواصل معه بكلِّ طريقةٍ ممكنة.

«إنها تُثلِج!»
همسَ برايلين بصوتٍ مسموعٍ حين حطَّت ندفةٌ ناصعةٌ ضئيلةٌ فوقَ مُقدِّمةِ حذائه وذابت فوريًّا، ثم بسطَ كفَّه كي يلتقطَ بعضَ ما يسقطُ حينَ ارتفعت عينا إدريس عن هاتفه إلى السماءِ التي بدأت ببعثرةِ ندفاتِها الناعماتِ، ولاحت على شفتَيه ابتسامةٌ صغيرة.

«دعنا نعُد إلى الغرفة قبلَ أن تبرُدَ من جديد.»
«كلا! أنا علىٰ ما يرام! سنبقىٰ قليلًا، أريدُ أن أرىٰ.»
رفعَ إدريسُ حاجبَيه هامًّا بالاعتراضِ لولا أن تابع الآخرُ مستعطفًا بابتسامةٍ صغيرةٍ بينما يطيلُ حروفَه: «رجاءً يا إدريس، قليلًا فقط.»

تنهدَ إدريسُ مُدحرِجًا عينيه في محجرَيه، ثم ألقىٰ نظرةً أخرىٰ على السماءِ مغمغمًا: «عمّا قليلٍ سيأتي أحدُ المشرفينَ لطردِنا بعيدًا على كل حال.»
تبسَّمَ إدريس حينَ حُفِرَت غمّازتا برايلين بضحكةٍ صاخِبة مَرِحةٍ بينما يبسطُ ذراعَيه كي يلتقطَ النَُدَف البارِدة ويهرولُ لاهيًا كصبيٍ مشاغب، كانت الثلوجُ قد بدأت تتراكمُ في زوايا الحديقة وازدادَ صفيرُ الرياح، ما جعلَ إدريس يمدُّ يدَه ملتقطًا الفتىٰ المبتهجَ ليُسكِنَه على أحدِ المقاعدِ ويرفعَ قلنسوةَ معطفِه، مُهمهمًا: «تريَّث قليلًا، لن أشفِقَ عليكَ أن أصابتكَ الحُمّىٰ أو بدأتَ بالسُّعال، عليكَ أن تتحملَ عواقِبَ قراراتِك الهوجاء.»

جانِح | BAD BOYحيث تعيش القصص. اكتشف الآن