المقدمه

7.7K 120 3
                                    


كانت تظن الأمر هين ... و هكذا أصرت عليه قبل أن تخرج .... مقاومة نظرة السخرية الغامضة التي رمقها بها .... كم تكره نظراته .... لكلِ نظرةٍ معنى ... و كل معنى اسوأ من الآخر .....
تبغض روحه التي ورثتها قسرا ....لتحمل بين زوايا كيانها قسوة مختبئة في مكانٍ سحيق .... نجحت حتى الآن في اخفائها عن البشر ممن عرفوها ......
أغمضت عينيها تستعيد برود نفسها ... و رباطة جأشها ..... أخبرته بثقةٍ زائدة انهما ليسا في وضعِ الإختيار ....
فخرجت دون ردٍ منه لا تلوي على شيء سوى نجاح مسعاها .....
, لكن الإنتظار أشعل بها مشاعر القلق ... الرهبة ... الحرج من وضعٍ بغيض كريه و مؤذٍ لكبريائها الهش ...
على الرغم مما تمر به من حاجةٍ و عوز ... الا أن أشد ما تكرهه هو الطلب ....
لكنها وصلت للمرحلة الأخيرة ... و حين يحتاج الإنسان فإنه يتنازل و يقف موقفها الآن .....
فركت أصابعها بتوتر ... ثم استطالت بعنقها كي تنظر الى قدميها في حذاءٍ متهالك .... لماذا زاد تهالكه الآن أضعافا ؟؟ ....
كان طبيعيا في بيتهما .... لكنه هنا يبدو كشيءٍ عشوائي لا اسم له ..... في ظلِ فخامة ذلك المكتب و المبنى الراقي كان الحذاء يبدو كفضيحة .... و هي نفسها بتنورتها الهفهافة قليلا و التي تصل لأسفل ركبتيها بقليل ... و كنزتها البسيطة النبيذية اللون ..... بدت غير ملائمة للمكان ولا للأريكة الجلدية البيضاء الأنيقة التي تجلس عليها ...
حتى أنها خشت أتكون تنورتها الخفيفة قد التقطت اتربة او غيرها من مقاعد " الترام " الذي جاءت به الى هنا ....
فتتسخ الأريكة الناصعة من جلوسها عليها ....
تنهدت بتوتر ... الن ينتهي الإنتظار ؟؟ ..... إنها توشك على التخاذل و المغادرة ....
.................................................. .................................................. ........................
( من قلتِ ؟؟ .......... )
صدر الصوت الرجولي العميق هادئا , الا أنه كان يحمل بين طياته دهشة لم يستطع اخفائها .. وهو يتطلع الى مساعدته الأنيقة الواقفة أمام مكتبه ...
فأعادت بصوتٍ ناعم الا أنه يحمل بعضا من حيرةٍ و دهشة
( وعد العمري ......... )
أرجع ظهره للخلف مستندا الى مقعده وهو ينظر اليها مفكرا بابتسامةٍ قاسيةٍ قليلا
( هل هو مجرد تشابه أسماء ربما ؟؟ ...... )
أجابت مساعدته وهي تعدل من نظارتها الأنيقة المذهبة فوق عينيها
( لم تذكر سوى الاسم ..... و لم أستفض معها في الحوار , لكن هيئتها ........ )
سكتت عن المتابعة بقصد .... فرفع حاجبيه ليقول بهدوء
( ماذا عن هيئتها ؟؟ ......... )
هزت كتفها لتقول بحيرة
( ربما هو مجرد تشابه أسماء ..... لأن هيئتها رغم أنها مرتبة .. لكنها متواضعة للغاية خاصة بالنسبة للمكان المحيط بها هنا ....... )
ارتفعت احدى زاويتي فمه قليلا في ابتسامةٍ اكثر قسوة .... وهو يقول شاردا بعد فترة
(ربما هو ليس مجرد تشابه أسماء رغم كل شيء ....... )
ثم انتبه اليها مبتسما بغموض وقال
( دعيها تدخل ...... لكن ليس الآن .... ما ان أطلب منكِ ..... )
أومأت برأسها ثم خرجت بهدوء .... بينما تراجع هو اكثر رافعا كلتا كفيه امام وجهه مشبكا أصابعه .. مبتسما دون تعبير معين ... ليهمس أخيرا
( كم هو زمن دوار .... يركض خلفنا ما أن نعف عن البحث خلفه )
.................................................. .................................................. ..........................
لا تعلم كم بقيت ..و كم انتظرت.. السكرتيرة تخرج و تدخل عدة مرات دون أن ترأف بحالها أو حتى أن تلقي اليها نظرة ....
زمت وعد شفتيها و زمت معهما كرامتها المهدورة .... لا بد أن تلك هي أحدى أوامره .... المزيد من القليل من الذل قبل أن يبدأ الذل الحقيقي بمقابلتها ....
ان كانت واثقة من شيء واحد ... فهي واثقة من أنه سيقابلها , ليس عطفا أو إحسانا إنما رغبة في التمتع بإنكسارها أمامه .....
لم تره من قبل و لم يرها ..... الا أنهما كانا على معرفة ببعضهما منذ مولدها تقريبا .... إنها رابطة الدم التي لا مفر منها .....
أخيرا و بعد دهرٍ مرير زادها انكسارا .... أومأت اليها الفتاة الأنيقة مشيرة الى باب المكتب ... سامحة لها بأن تدخل بلغة الإشارة ... تشيعها بنظرات ذات مغزى ما بين شفقة و استعلاء في وقت واحد ....
الا أن وعد كانت قد أخذت نفسا عميقا و أغفلت عمدا عن تلك النظرات المهبطة للعزيمة .... و طرقت الباب طرقة واحدة بهدوء .... لتفتح الباب و تدخل .... لتواجه مصيرها !! .....
للوهلة الأولى ..... وقفت مسمرة بشعور غريب ..... اهو شعور القرابة ؟.... أم هو شعور الإنجذاب الى ذلك الكائن الوسيم الكائن خلف المكتب الأبنوسي الأسود الفخم ؟؟ .....
لم يميزها بنظرةٍ واحدة و كأنه لم يشعر بدخولها .... بل ظل ناظرا الى أوراقه عن قصد و تصميم لا يخدع طفل صغير ....
عادت وعد لتزم شفتيها ..... المزيد من الثقل و التمتع السادي بوقوفها أمامه .....
لكن انشغاله الوهمي منحها الفرصة في الإقتراب ببطء فوق السجادة التركية الفخمة التي أخفت و امتصت صوت خطواتها الرقيقة فوقها .....
و قد أخذت فرصتها في تأمله ..... ما تلك الهيبة و الرقي ؟!! ..... بالرغم من انه ليس من ممن وُلِدو و في فمهم معلقة من ذهب و هي تعلم ..فنشأته لم تكن أفضل حالا من نشأتها على حد علمها ... ووالدها هو السبب ..
الا أن مظهره الآن لا يوحي بتلك الصعوبات القديمة ... هذا إن جاز إطلاق اسم صعوبات على ما فعله والدها الحبيب .......
انتبهت الى أنها لا تزال واقفة الى الآن أمامه دون أن يمنحها نظرة عطف واحدة .....
لكنها لن تمنحه نشوة الإنتصار في أن تتململ .. فيطردها خارجا ... لذا تشبثت أصابع كفيها ببعضهم و هي تقف بأدب تنتظر ...... "سيف الدين فؤاد رضوان " .... ابن عمتها ...
رفع رأسه أخيرا ... ببطء .... ليرمقها بتمهل ..... من أطراف قدميها في حذائها المتهالك الذي أطال النظر اليه قليلا لأكثر من ثلاث ثوان .....
امتقع وجهها و هي تفكر " لماذا لم تستعر حذاء جديد من جارتها ... فمقاسهما واحد , هل أخذتها الكرامة في هذا الوقت الحرج .... و ها هي تمنحه الفرصة في النفور الساخر الصامت من مظهر حذائها .... "
مرت عيناه ببطء صعودا على ساقيها الناعمتين ... حتى تنورتها الملونة الهفهافة الرقيقة .... لتكملا رحلتهما الى الكنزة النبيذية التي تحتضن قوامها المتناسق .... ثم وجه في نفس التناسق ذو شعرٍ ناعم أسود مجموع خلف رأسها بترتيب .....
الى أن وصلت عيناه الى عينيها ......
حينها لا تعلم تحديدا ماذا حدث .... تكاد تجزم أنه تسمر في مكانه للحظة , ... رابط غريب سرى منه اليها حين التقت أعينهما .....
لكنها بالتأكيد تتوهم , فهاهو يجلس مكانه في نفس صمته و عنجهيته دون أن يرمش له جفن .... فما سبب ذلك الشعور الذي انتابها للتو .... أو ..... أو ربما يكون ذلك هو شعورها هي ؟؟؟ ......
حين تحرك أخيرا و استبشرت بقرب زوال فترة الصمت و الفحص المهينة ... كان قد أرجع ظهره الى ظهر مقعده ...... ليرمقها بنظرةٍ أخيرة ... قبل أن ينطق بصوتٍ هادى عميق عمق البحر لم تسمع مثله من قبل
( وعد العمري .......... )
اومأت برأسها بحذر دون أن تعلم حقيقة أن كان نطقه لإسمها مجرد تأكيد التعارف .... أم هو سؤال عن هويتها بالفعل .... لذا اختارت الإجابة عن السؤال ....
ظلت هدف نظراته الممعنة بين ملامح متجمدة ... و على الرغم من تجمد ملامحه الا أنها كادت تستشعر كرهه بوضوح و عيناه .... قساوتهما كادت أن تجمدها ..... و كم ودت لو تستدير و تفر من هذا المكان الخانق بفخامته ... و من نظراته !! .....
قال أخيرا بصوتٍ لا تعبير له أو أي نوع من الترحيب
( بماذا يمكنني أن أساعدك يا .....وعد ......... )
ابتلعت ريقها بصعوبة ... لم تكن مستعدة للسؤال هكذا مباشرة دون مقدمات .... لقد حضرت صيغة المقدمات في بالها مرارا قبل أن تأتي الى هنا .... لكن السؤال المباشر دون حتى أن يحاول أن يتعرف الى ابنة خاله التي ربما يراها للمرة الأولى .... و بهذا الجمود .... جمدها بالمثل في مكانها .....
لذا فتحت شفتيها مرة بعد مرة تحاول الوصول الى الطريقة المثلى في بدء الحوار المضني ... الى أن نجحت في أن تنطق أخيرا بين سعال حرج خفيف
( لقد أتيت ..... لأن .... والدي ..... )
سكتت قليلا و هي تحاول أن تتذكر سبب قدومها الى هنا .... و أثناء ذلك بادر هو بهدوء
( ماذا به والدك ؟؟ ..... أعتقد أننا قد سلمناه كل مستحقاته مع مكافأة مناسبة ...... )
البغيض .... البغيض ..... كم هو بغيض سميك الجلد كخرتيت بري ..... مهما كان الماضي الا أنه يتكلم عن خاله ........ الا يمتلك ذرة من احترام .....
حين وصل تفكيرها الى تلك النقطة بدت و كأنها تهزأ من نفسها مطلقة نكتة وقحة .... أي أحترام من المفترض أن يكنه و لمن ؟!!! .... والدها ؟!!! .....
هزت رأسها قليلا لتجلي تفكيرها المشحون قبل أن تأخذ نفسا عميقا ... لتقول بعده بتعثر خافت
( نعم .... بالفعل , ... لكن .... المكافأة لن تنفعنا لفترة طويلة و نحن ظروفنا ........ )
صمتت و هي تشعر بالحنق ... لتنهر نفسها
" تراجعي للخلف .... لا داعي لذكر الظروف و التفاصيل و التسول منه ... طلب بسيط يفي بالغرض "
لذا شدت ذقنها و هي تتكلم بهدوء أكثر ثباتا
( الوظيفة هي كل ما نحتاجه ......... )
ساد صمت طويل .. قاتل لها ..... قبل أن تتجرأ على رفع وجهها اليه , لتصطدم بعينينه المحدقتين بها بجمودٍ زاد حدة .... فارتجفت أطرافها بشدة .... ماذا تفعل الآن غير ذلك ؟؟ ....
لذا قالت بصوتٍ أكثر خفوتا ...
( من فضلك أعد والدي الى وظيفته .......... )
و لم تجد المزيد لتضيفه ..... الرحمة يا رب ....
قال أخيرا بلا اي تعبير
( والدك يسيء الى مظهر شركتنا العام يا وعد ..... في هيئته و تصرفاته ... و تعامله مع الجميع , .... الفاظه النابية و تسلطه بغير منصب او مكانة تؤهله لذلك ...... )
تجمدت الكلمات على شفتيها .... و انهارت كل آمالها في أن يستعيدا دخلهما الثابت منذ شهور طويلة ....
بينما تابع بصوت أكثر تصلبا
( هذا دون ذكر بعض الإختلاسات التي تغاضينا عنها عدة مرات ..... )
نظرت اليه بقسوة و استنكار و لم تملك نفسها وهي تهتف بحدة
( أي اختلاسات !! ..... أنتم لا تعملون في مصرف , كما أنه بعيد تماما عن أي شؤون مالية ..... أم أنك تطلق لفظ اختلاسات على بعض أكياس الشاي و عدة رزمات من الأوراق !!! .... )
لم يرد لفترة وهو يرفع احدى حاجبيه .... مطيلا النظر اليها بنظرةٍ خنقت باقي الكلمات في صدرها , الى أن نطق أخيرا بصوت أرسل الجليد الى أطرافها
( كان يجب أن أعلم تماما أن تربية عبد الحميد العمري لن تثمر عن أكثر من ذلك ...... )
قست عيناها , لكنها لم تتمكن من أن تحيد بهما عن عينيه ...و هي تتسمر مكانها بشعور من النفور و الكره تجاهه و لمحة داخلية من الشعور بالخزي و الإمتهان ....
تابع سيف بهدوء مهين
( حين يكون هذا الإختلاس داخل حدود مملكتي .... فإن القلم الرصاص يتساوى عندي مع الألوف من الجنيهات .... يا .....وعد .......)
ها هو ينطق اسمها مجددا بنكهة غريبة و كأنه يتذوقه قبل أن ينطقه .....
ظلت حرب النظرات بينهما طويلا الى ان استسلمت و اطرقت برأسها .... تود لو تبتلعها الأرض بهوانها و ذل احتياجها .....
لكنها و كمحاولةٍ أخيرة .... همست بلا أمل
( ارجوك ....... أعد الينا تلك الوظيفة , نحن في أشد الإحتياج لها .... فقط امنحه فرصة أخيرة ....)
لم تستطع أن ترفع نظراتها اليه .... و هي تفكر أي أملٍ لديها و الأمر أكبر منها و من سنوات عمرها .....
الماضي المرير الذي لم تعايش منه الا القليل بينما سمعت حوله الكثير ... كان هو ما يجعله يجلس الآن منتشيا بوقوفها أمامه صاغرة .... تماما كما هي متأكدة من انتشاؤه بعمل والدها لديه كمجرد ساعٍ بلا وظيفة حقيقية لا لشيء سوى ليراه أمامه كل يوم .... كي لا ينسى .... و على ما يبدو أنه قد اكتفى من اللعبة الآن و قرر التخلي عن وجود والدها الذي يسبب الكوارث و النفور من حوله ......
أفاقت من ضياع أفكارها على صوته مستفهما
( أعيد اليكما الوظيفة ؟!!! ..... لا أذكر أنني قد وظفتك ....... )
همست بلا حياة دون أن ترفع وجهها اليه
( كلانا اعتمد على دخل تلك الوظيفة ..... لقد أحيتنا من جديد بعد أن عشنا أيام ...... )
لم تستطع أن تكمل بعد أن عادت لتختنق بكلماتها من جديد .... و لم تره و هو يدقق النظر بها ... بكل جزءٍ منها ... بكل ما يحيط بها ..... محاولا الوصول الي عينيها التي سمرتاه حين طالعهما للمرة الأولى .....
الى أن قال أخيرا بصوتٍ غير مقروء التعابير
( و لماذا تعتمد شابة مثلك على دخل رجل عجوز ...... الا تعملين ؟؟ )
شبكت يديها بتوتر و هي محنية الرأس و هي تنطق بإيجاز
( أعمل .......... )
ساد الصمت قليلا .... قبل أن يقول ساخرا
( هلا تعطفت بذكر وظيفتك السرية ........ )
زمت شفتيها و هي تنعته ببعض من شتائم والدها المعتادة .... الا أنها نطقت بخزي في النهاية
( بائعة ...... في محل أدوات صحية )
سكت قليلا قبل أن يسألها بهدوء
( هل أنتِ جامعية ؟؟ .......... )
أومأت برأسها دون أن ترد ..... لكنه قال متابعا بهدوء
( يالهذا الزمن !! ....... الذي لا يسمح للجامعيين في نهاية المطاف سوى بمخالطة المراحيض و الأحواض ... )
رفعت عينيها ببطء شديد الى عينيه ..... و كأنه كان ينتظرها لتفعل مجددا و قد نجح ......
الا أن عيناه فقدتا بريقهما حين لاحظ أن عيناها قد غامتا من كلماته الفظة ..... و لما عليه الشعور بالأسى عليها من بضعة كلمات !!!
و ماذا عن سنوات الشقاء التي عاشاها هو و أمه !!
نفض الماضي البائس من رأسه و الذي يلح عليه مؤخرا بكل قسوته منذ أن قبل بتوظيف عبد الحميد العمري لديه منتشيا .....
لكنه لم يحسب حساب تجرع الألم القديم يوما بعد يوم .... بعد أن كان تسالم مع نفسه و مع حياته .....
رفع حاجبيه مترفعا متظاهرا بأن شيئا لم يكن و هو يقول بهدوء
( صحيح أن العمل في محل الأدوات الصحية يختلف عن العمل لدينا ... لكن من المؤكد بأنكِ تدركين بأن والدك وجوده أصبح مستحيلا هنا ..... إنه انسان ..... صعب )
صعب !! ..... وصف هين تماما و لا يلائم أبدا الرجل الفظ الذي تحيا معه في نفس الشقة منذ أكثر من خمسة عشر عاما ... ذاقت فيهم كل المرار ....
أخرجت نفسا مرتجفا من بين شفتيها .... لقد تعبت من الوقوف ... و شعرت بساقيها تنهاران من تحتها ... على الرغم من أنها بطلة العالم في رياضة الوقوف .... من حيث الوقوف في الترام ما يقارب خمس و اربعين دقيقة .... لتبدأ مناوبة عملها في الوقوف في معرض الأدوات الصحية لمدة اثني عشرة ساعة كاملة .....
من الساعة التاسعة صباحا و حتى التاسعة مساءا .... لا يسمح لها صاحب العمل بالجلوس تلبية لرغبة المتفرجين من الشباب المقبلين على الزواج و الذين يهلون على المعرض في كل يوم و كل ساعة .... ظنا منهم بانهم سيشترون من تلك الأطقم الجميلة .... الا أنهم يرحلون ما أن تصدمهم الأسعار الباهظة التي بثمن حمام واحد يمكنهم تجهيز أربع غرف في شققهم المتواضعة ...
همست و هي تتوه بعينيها عن عينيه ....
( كنت .....كنت تعلم بذلك من البداية , فلماذا عيشتنا في أمل الراتب الذي لم نتلق مثله من قبل ؟؟.....)
عاد ليرفع حاجبيه مجددا وهو يطرق بقلمه على سطح المكتب صامتا دون اجابة .... الى أن قال بلامبالاة
( من حق اي رب عمل ان يمرر العامل الجديد بفترة تجربة في البداية .... و قد اثبت والدك فشله من اليوم الأول ... و ان اردت الحق ..... فقد كانت الوظيفة مجرد جميل ليس اكثر .... فهي ليست وظيفة ذات مسمى محددا .... كانت مجرد واجهة لأساعده بالراتب الذي ذكرتيه للتو ......
و أنا لست أقبل بالإحسان لمن لا يستحق ..... لذا كان علي أن أجعله يفعل أي شيء في مقابل ما يتقاضاه ...
لكنه لم يحترم الفرصة التي منحتها له ....... )
كان قلبها يخفق بعنف و صدرها يلهث بسرعة .....و هي لا تجد ما ترد به .... أي جنون جعلها تتهور لتأتي اليه كي تبدو المتسولين بهذا الشكل البائس ....
حين تكلم مرة أخرة وهو يتلاعب بقلمه الذهبي ... قال بهدوء جليدي
( لكن و كما أخبرتني ..... فأنت تعملين ...... فلماذا أتيتِ الى هنا كي تتوسلين هذه الوظيفة الصغيرة لوالدك ؟؟ )
أغمضت عينيها للحظة واحدة و هي تتمنى أن تقفز من النافذة .... لم تقابل هوانا يماثل هذا الهوان من قبل ....
لكنها قالت بخفوت و هي لا تعلم لماذا تكلمه حتى هذه اللحظة دون ان تستدير هاربة
( أنا أعمل منذ سنوات طويلة ..... حتى من قبل أن أبدأ دراستي الجامعية .... منذ أن كنت في الصف الثانوي و أنا أعمل و أعول والدي ...... و قد تأقلمت مع هذا الوضع .....
لكن فجأة و منذ عدة أشهر وجدت أن دخلا جديدا يشارك دخلي و يفوقه .... شعرت للمرة الأولى بأن الحمل يخف عني الى نصفه أو أكثر ......
لكن فجأة ..... عاد الحمل أضعافا و عاد والدي للبقاء في البيت ...... ............
و قد أتيت اليوم فقط ..... فقط لأسأل إن كانت هناك فرصة لتعيد اليه وظيفته ...... لكن إن كان ذلك مستحيلا فلا مشكلة ....
و اعتذر عن إضاعة وقتك ...... هل يمكنني الخروج الآن ؟؟ ....... )
الا إنه لم يجيبها .... بل ظل صامتا يحدق بها و لا يرحمها من تلك النظرات التي تخترق عظامها اللينة .... فما كان منها الا ان همست مطرقة الرأس
( عن اذنك ......... )
ثم استدارت و هي تدعو الله الا تتعثر بساقيها الرخوتين أمامه .... لكن و قبل أن تصل الي الباب سمعت صوته من خلفها عميقا ثخينا
( كم عمرك يا .... وعد ؟؟ ...... )
وقفت مكانها تتنفس بصعوبة , وما دخله ؟؟ ..... الدنيء الحقير .... المتشفي المتشمت ......
الا ان دافع خفي جعلها تسدتير اليه قليلا لتهمس بتصلب
؛( ستة و عشرون ....... )
قال ببساطة بعد لحظة صمت
( عجبا ....... تبدين أكبر من عمرك ........ )
استدارت اليه بكليتها .... و عيناها تقدحان شررا .... الوغد عديم التهذيب !! ..... الا أنها قالت بسخرية مريرة
( حمل الهم طويلا يترك علاماته .......... )
لم تتوقع الإبتسامة القاسية التي لوت شفتيه وهو يرد بهدوء
( نعم ....... لدي فكرة عنه )
امتعق وجهها بشدة و همت بأن ترحل الا أنه قال يمنعها
( أتحبين أخذ وظيفة والدك ؟؟ ........ )
ساد صمت مذهول بينهما و هي ترفع حاجبيها لتهمس بعدم استيعاب
( ساعٍ ؟!!! ......أنا !! ...... )
ابتسم قليلا ... لا تعلم ان كانت ابتسامته قسوة أو تسلية ..... أم مرح حقيقي ..... وهو يرد ببساطة
( تقريبا .......... يمكنك التواجد و ما أن تتواجدين حتى يبدأ عملك .... توصيل ملفات من هنا لهناك ... ترتيبها.... توصيل المشروبات الى كل من يطلبها ..... هل ..... أيمكنك الطباعة السريعة على الحاسب بسرعة ؟؟ ...... )
أومأت بتردد و هي تهمس
( نعم ..... و بعض أعمال الحاسب الأخرى , لقد أخذت دورة حاسب آلي من قبل على أمل أن أتوظف في مكان مناسب ........ لكن لست أفهم ......هل تحتاجني حقا ؟؟ ....... )
هز رأسه نفيا مبتسما بسماجة و هو يجيب بهدوء
( لا ...... ليس تماما ..... )
تجمدت عيناها .... لكن و قبل أن تبادر الى الرفض إباءا , تابع ببساطة
( لكني سأتأكد من أن تستحقين ما ستتقاضيه .......... )
فغرت شفتيها قليلا .... قبل أن تهمس و هي تحك جبهتها
( لكن لدي عملي .......... )
رد بهدوء بحت
( هل تحبينه ؟؟ ..........مع ملاحظة أن راتب والدك كان أعلى من راتبك الذي تتقاضينه , لكن ما ستتقاضينه هنا سيكون أعلى قليلا من الاثنين إن نجحت في أعمال الحاسب )
خفضت عينيها و هي في حيرة من أمرها ... و التوتر يخنقها .... ثم عادت لترفعهما اليه و هي تهمس بيأس
( هل هذه الوظيفة لها أي مسمى من الأساس ؟؟ ........ )
عاد ليبتسم بقسوة وهو يقول بهدوء
( لا ..... ليس تماما ..... )
ثم اتسعت ابتسامته بمرح وهو يقول ببساطة
( تماما كما لم تكن لوالدك ...... لكن يحق لصاحب العمل أن يقوم ببعض الإستثناءات التي يريدها )
أطرقت برأسها بصمت .... الا أنها انتفضت حين تابع بهدوء
( خاصة لابنة ...... خاله )
نطق الكلمة الأخيرة و كأنها إهانة .... فزاد شحوب وجهها , ... إنها المرة الأولى التي يعترف فيها بتلك الصلة ......
ظلت صامتة طويلا فسألها بهدوء
( هل هناك ما تكرهينه في عملك ؟؟ ........... )
همست دون تفكير
( لقد أضناني الوقوف طويلا .......... )
أومأ برأسه وهو يقول مبتسما
( سأتذكر ذلك ............. )
" هل اعتبر موافقتها أمرا مسلما به ؟!! ...... لكن هل ترفض ؟؟ .... و تعود الى صاحب المعرض القميء؟؟ .... و الى ساعات وقوفها ؟؟؟ .... و عملها مع الجمهور العريض بما يحتويه من صالح و دنيء ؟؟؟"
لكن ساع !!! .... ساع !!! ..... هل هذه هي نهاية شهادتها الجامعية التي خرجت بها من بين براثن والدها بعد كفاح الأبطال !! ....
لكن يظل العمل هنا أكثرا احتراما ... مع أناسٍ أكثر احترام .... و من يعلم .... قد يعطف عليها ذات يوم و يوظفها في وظيفة مكتبية ..... صحيح أنه وغد , لكن قد تنتصر رابطة الدم يوما ما .... إن كان الأمر مستحيل مع والدها , فهو محتمل بالنسبة لها .....
صدمها صوته القوي وهو يعود للنظر و التقليب في أوراقه ... منبها إياها أن الزيارة قد انتهت
( إن وافقت على العمل , فأتوقع مجيئك غدا في الساعة السابعة .. أي قبل موعد الموظفين ... شرفتِ يا .... وعد )
أخذت نفسا مرتجفا وهي تنظر اليه .... وهو على ما يبدو قد أغلق باب عقله عنها تماما وهو يعود منشغلا الى عمله متجاهلا وجودها .....
فاستدارت على عقبيها مطرقة الرأس لتمشي فوق البساط المخملي ببطء حتى فتحت الباب و خرجت في هدوء .... بعد أن نست تماما أن تشكره حتى على المبادرة و التي لم يكن مجبرا عليها ....
و على ورقةٍ مهملة فوق سطح المكتب .... كان هناك قلما شاردا يخط بلا تركيز اسم " وعد " .......
.................................................. .................................................. .............................
( استيقظ يا زوجي الحبيب ...... استيقظظظ ..... )
أفاق الرجل المتوسط العمر على الصوت الأنثوي الناعم يرافقه شعور فظيع بالإختناق ... و بعد أن رمش بعينيه عدة مرات .... اتسعت حدقتاه في المرة الأخيرة وهو يرى اليد الناعمة تطبق على عنقه بشدة ..... تمنع عنه التنفس بطبيعية .... بينما شفرة حادة مسلطة بتهديد على صدغه ... و العينان الخضراوان ترمقانه بإجرام ...
لهث الرجل خوفا و سعل بإختناق و هو يقول برعب محدقا في الشفرة الحادة التي بدأت تخدش بشرته ..
( ما الذي !!!!! ..... هل جننتِ يا شيراز ؟!!!!!! ...... هل جننتِ !!!!!! )
همست بحقد دفين من بين شفتيها
؛( طلقني .......... )
اتسعت عيناه بذهولٍ أكبر وهو يلهث من تحت قبضتها التي تنهش عنقه دون رحمة ... لا يجرؤ على أن يدفعها كي لا تقطع الشفرة الحادة أوردته .....
( تعقلي يا شيراز ..... تعقلي قبل أن ينقلب المزاح المجنون الى جريمة )
شددت قبضتها أكثر وهي تبتسم بشراسة ....
( أتظنني أمزح ؟!! ...... لن تظن ذلك و تلك الشفرة ترسم خطوطها فوق عنقك ذو العروق الزرقاء البارزة )
عادت لتقول بتشديد بعد أن فقدت لهجتها المرح
( طلقني ....... )
طرف الرجل دون أن يستطيع أن يغلق عينيه عنها .... ليلهث بصعوبة و منظر مثير للشفقة
( لا أريد طلاقك.... حبيبتي ..... أنا سعيد معك , و لم ترضيني أمرأة أخرى....... كما ترضيني أنتِ .... )
شددت قبضتها على عنقه أكثر و هي تتخذ موقعها من فوقه لتميل اليه هامسة بحقد و الشفرة تجرح بشرته
( فترة عقدنا انتهت منذ أشهر .... و قد نبهتك مرة بعد مرة و أنت تماطل ..... طلقني )
همس الرجل وهو يسعل
( دعينا نمد العقد .... يا ..... شيراز ..... و سأمنحك كل ما لم يصوره لكِ خيالك ........ )
همست في اذنه تودع كلماتها كل الكره في الدنيا
( انتظرت فترة عقدنا و أنا أعد أيامها يوما بعد يوم كي اتخلص منك ....... و مال العالم لن يكون موفيا ليوم زائد معك ............ طلقني )
نجح الرجل في النطق بصعوبة
( و إن رفضت ؟؟ ............. )
عادت ابتسامتها الشرسة تتألق فوق شفتيها الشهيتين ثم همست بكل سعادة الإنتصار
( حينها اعذرني يا زوجي الحبيب ....... فسأنشر فيديو خيانتك لي مع خادمتي في كل وسطٍ و مكان تتخيله )
كان اتساع عينيه مختلفا هذه المرة .... وهو يضحك بذهول ضحكة غير مصدقة ليقول بصعوبة
( أنتِ تكذبين ........ أنتِ فقط تتدللين علي ... اليس كذلك ...... )
اشارت بعينيها الى الطاولة الجانبية .... حيث يرقد قرص مدمج .... ثم نظرت اليه تبتسم بجنون و هي تهمس
( إن كنت أمزح ..... فمن أين لي أن أعرف بالزي المريض الذي أمرتها أن ترتديه لك .....و الذي لن يترك شيئا لمخيلة المشاهدين عن مدى اختلالك ..... . )
ظل الرجل ينظر اليها بإنشداه .... قبل أن يبتلع ريقه بطريقة مثيرة للغثيان و يلهث قائلا
( لقد منحتك كل ما اتفقنا عليه ......... )
فقد وجهها ابتسامته المزيفة وهي تنظر اليه بكرهٍ واضح .... لتهمس أمام وجهه بغل
( و قد وفيت بكل بنود عقدنا .... و زدت عليها بفترة اضافية , اعتبرها هدية مني محملة بكل نفور العالم ... و لن أطالبك بثمنها ...... لتعلم مبلغ كرمي معك ..... )
كان ينظر غير مصدقا الى ملامح وجهها الطفولية البريئة ... و التي تبدو أصغر من عمرها الحقيقي بسنوات ....بعينيها الخضراوين و شعرها الأشقر ذو اللفائف الشبيهة بلفائف شعرالدمى ..... و الذي تقضي فيه وقتا مطولا عند أرقى مزيني الشعر كي تحافظ على لفائفه و شقاره ..... و البشرة الكريمية تنافسه براءة و جمالا ....
كاد أن يفقد أعصابه حين رآها لأول مرة و قد اشتعلت به نيران الرغبة .... ليمتلك تلك المرأة الطفلة التي ليست بطفلة حقا ...... و كم بلغ جنونه حين علم بأن طريقها من وجهة نظرها لا يشمل " الحرام " ..... بل طريقها الوحيد هو " الحلال " ..... و قد سبق لها الزواج في الحلال من اثنين سبقاه .....
و بعد أن أصبحت له !! ..... كم أسعدته !! ..... و كيف تمتلك القدرة على ارضائه !! .....
حتى بات لا يملك النظر لغيرها .. مكتفيا بها ....
الى أن زلت به رغباته لمرة واحدة منذ يومين مع الخادمة .... تلك العادة الخائنة التي اعتادها منذ سنوات طويلة و لا يملك نبذها على ما يبدو مهما طال به العمر ....
أما الآن ...فالملامح الطفولية تحولت الى شرسة مخيفة .... متلذذة بما تفعله به .....
همس أخيرا باستعطاف
( شيراز حبيبتي أبعدي ذلك السلاح......و دعينا نتفاهم )
خدشته أكثر و هي تهمس بحقد
( طلقني ...... و بعدها نتفاهم , .... الا كرامة لديك ؟؟ ..... لن أتحمل المزيد من النفور تجاهك , أنت بكل أمراضك النفسية و رغباتك المعتوهة ...... لا بد أن تدرس حالتك في مجال الخلل النفسي ..... )
سكتت قليلا ... لتعود و تبتسم برقة و هي تقترب منه أكثر لتهمس بنعومة
( ألم أرضيك طوال فترة عقدنا معا ؟...... لذا ستكون رجلا لمرة واحدة و تفى بباقي شروط هذا العقد و تطلقني حالا ..... حالا سترمي علي يمين الطلاق ..... و الا فوعد مني , فضيحتك ستكون في كل مكان لكل من يحب أن يشاهد ...... و أعتقد أن مركزك و مركز أولادك لا يسمح بذلك ...... )
ظل ينظر اليها قليلا بأسى من يوشك على أن يودع متعة شيقة في حياته .... ثم همس أخيرا
( أنتِ طالق ..........)
ظلت تنظر اليه قليلا و عيناها في عينيه ..... قبل أن يتجلى الإنتصار فيهما بالتدريج .... الى أن أبعدت الشفرة عن عنقه ... و أطاحت بنفسها من فوقه و هي تنفض لفائف شعرها بجنون مرجعة رأسها للخلف هاتفة بسعادة
( أخيرااااا ......... )
ثم اندفعت تخطو برشاقة .... لتجر حقيبة ملابسها الضخمة متجهة الى الباب .... لكن و قبل أن تخرج , ناداها يسألها
( شيراز ...... مادام التهديد الحقيقي معك , لما احتجتِ للسلاح ؟؟ )
التفتت اليه تنفض شعرها بنعومة و هي تبتسم برقة , بينما عيناها تلمعان شررا لتهمس بحقد
( لأرى نظرات الذعر في عينيك ....... متعة تضاهي متعك المريضة التي تلهث من أجلها ).

بعينك وعد. 🌺 بقلم تميمة نبيل 🌺حيث تعيش القصص. اكتشف الآن