27

2.9K 73 1
                                    

الفصل السابع و العشرين :
اشتمت رائحة عطر قوي ...... و شعرت بيدٍ قوية تربت على وجنتها الناعمة ..... باطن تلك اليد علة وجنتها اليمنى ... لتتحرك و يتلمس ظاهرها الوجنة اليسرى ....
و سمعت صوتها يهمس من بعيد و كأنها تستغيث به
( سيف !!!........... )
لكن الصوت الرخيم الذي اخترق أذنها قال بهدوء
(أمممم لا ..... بل يوسف ... )
فتحت عينيها ببطىء ترمش بهما عدة مرات و هي تحاول جاهدة الخروج من تلك الشرنقة التي تبتلعها ....
و ما أن وعت الى نفسها .... حتى وجدت وجها منحني اليها بقلق .... و خلفه العشرات من الوجوه متعددة الجنسيات و الألوان !!!
و ما أن عقدت حاجبيها حتى وجدتهم يضحكون و يهللون و كأنهم يهنئون أنفسهم !!! .....
كانت تنظر اليهم بتوجس .... وهي تدرك أنها جالسة في مقعد من أحد مقاعد صالة المطار ......
فهمست بخوف
( أين أنا ؟!! .......... )
عبس صاحب الوجه الأقرب ... ثم قال بهدوء ليتبين أنه هو صاحب الصوت الرخيم
( آنسة وعد ....... أنتِ لازلتِ في المطار ..... لقد أصبتِ بالإغماء بعد وصولك ..... )
استقامت في جلستها و هي تحك شعرها محاولة الإستيعاب ...... ثم همست بتوتر
( آه .... نعم .... نعم تذكرت ..... أنت صاحب الميراث ... اليس كذلك ؟!! ... )
رفع احد حاجبيه وهو يفكر ...
" صاحب الميراث !! ...... لماذا يشعر و كأنه بائع حليب يمر عليها كل صباح !! "
فقال مصححا باتزان وهو يمد يده
( يوسف الشهاوي ....... رجل أعمال مقيم هنا منذ سنوات , و أنا ابن ....... يمكنك القول حاليا أنني صاحب الميراث بالفعل ... و الذي تواصلتِ معه مؤخرا ... )
نظرت الى يده الممدودة بتوجس ...... دون أن ترفع يدها .... فسحبها و هو يتنحنح بحرج ناظرا حوله ليرى إن كان هناك من رآى ذلك الإحراج العلني ....
ثم قال بهدوء
( هل نغادر الآن ..... لو كنتِ بخير ... )
أومأت برأسها بتوجس واضح و هي تنظر اليه كمفترس ..... بينما هو يرمقها بطرفِ عينيه ... ماشيا بجوارها ... و ما أن تعثرت حتى وجدت ذراعاه حولها في حلقةٍ مفتوحة دون أن يمسكها و كأنه يحاوط دجاجة كي لا تهرب .....
الا انها رفعت ذراعيها بتشنج و هي تقول
( أنا بخير ..... أنا بخير ...... ابعد ذراعيك ... )
زفر يوسف بنفاذ صبر و هو يرمقها بغيظ .... و ما أن خطت خارج البوابة ... حتى تسمرت مكانها و شهقت بذهول و هي تضرب صدرها بيدها
( يا اللمصيبة ...... لقد نسيت أبي ..... لقد أضعت أبي ..... نسيته على الطائرة !!! ..... )
نظر يوسف حوله بحرج و الجميع ينظرون اليهما .... بينما همس بتوتر
( آنسة وعد .... آنسة ...... توقفي عن النواح ..... أنتِ يا فتاة بالله عليك افتحي اذنيك .... أنتِ لم تنسي والدك على الطائرة ..... والدك الآن في سيارةٍ خاصة متجها للبيت .... لا تخافي ..... )
نظرت اليه و هي تلهث برعب تقريبا .... فقال مؤكدا
( صدقا ........... )
أومأت برأسها بتردد ..... ثم تبعته بصمت و سار هو متنهد بغضب ....
لماذا بحق الله واتته نوبة الضمير في اخبار تلك الكائن عن ميراثها !!! ..... إنها تبدو كبطريق أتى الى بلادٍ حارة عن طريق الخطأ !!
.................................................. .................................................. .....................
دخلت وعد خلف يوسف الى بيت مشرق .... من أروع ما شاهدت يوما ....
سارت خلفه و هي تنظر حولها الي بيت جدرانه معظمها من الزجاج الذي يطل على حديقة زاهية الخضار .... بينما أثاثه كله باللون الأبيض !! ....
فقط بعض الوسائد هنا و هناك .... لها ألوان فيروزية و زرقاء زاهية !! ...
استدار اليها يوسف فجأة يقول
( والدك الآن ....!!! .... )
صمت وهو يراها ناظرة للسقف فاغرة فمها ..... فانتظرها الى أن تنزل اليه بصبر .....
و ما أن ان نظرت اليه حتى أغلقت فمها و احمر وجهها قليلا ثم همست بارتباك
( عذرا ....... ماذا قلت ؟!! ........... )
قال لها بخفوت
( والدك الآن في غرفة خاصة له ....... لو وددت الإطمئنان عليه , لكن أنا أفضل أن تصعدي الى غرفتك أولا ...... فأنتِ شاحبة للغاية .... )
أومأت برأسها بصمت ..... بينما تابع يوسف قائلا
( لقد أمرت بتجهيز نفس الغرفة الخاصة بوالدتك رحمها الله ...... )
اتسعت عينا وعد بصدمة و همست قبل أن تمنع نفسها
( حقا !! ........... )
أومأ يوسف برأسه ..... ليقول بهدوء
( الغرفة لم تتغير ...... لا تزال غرفتها كما تركتها و لم يستخدمها أحد بعد والدي ووالدتك .... حتى أغراضها الخاصة لا تزال بها ...... لكن لو كان ذلك يثير خوفك .... فهناك غرفة أخرى جديدة مجهزة تحسبا .... )
أسرعت وعد لتقول بقوة
( لا أرجوك ...... أريد الصعود الى تلك الغرفة )
نظر اليها قليلا ...... تلك الفتاة الهزيلة , تمتلك جاذبية معينة ذات سطوةٍ خاصة ..... هل هي حماقتها أم المكر الظاهر في عينيها الرماديتين .... أم هما عينيها نفسهما !!! ....
أبعد تلك الأفكار عن ذهنه .... ثم قال
( اذن تفضلي ........ ستسبقك ماريا الى الغرفة )
نظرت وعد الى خادمة أنيقة بيضاء ..... تبدو كطبق القشدة .... تسبقها بالفعل متوقعة من وعد أن تتبعها ....
و بالفعل تبعتها الى غرفة بالطابق الثاني .... ذان باب أبيض ككل ما في البيت
.... ثم ابتسمت للخادمة بتردد لتغلق الباب بعد انصرافها ....
استدارت وعد تنظر الى الغرفة ذات الأثاث الراقي و الأنيق ..... فأغمضت عينيها تشعر و كأن أحد يهمس لها ... ففتحت عينيها بسرعة لتقول بصوتٍ مسموع
( أعوذ بالله ..... تعقلي يا وعد ...... )
ثم تنهدت و هي تنظر حولها بلهفة .... الى أن تسمرت عيناها على صورةٍ معلقةٍ على الحائط ....
لوجه امرأةٍ جميلة ...... جذابة بفجور ..... عيناها السوداوان صريحتان حد الوقاحة ....
ففغرت وعد شفتيها بصمت ...
" نعم ..... نعم إنها هي ...... هي صفا كما تتذكرها .... "
تنهدت وعد بارتجاف و عيناها مأسورتان بالصورة ..... ثم رفعت يديها و أغمضت عينيها عن تلك الصورة لتقرأ الفاتحة ......
و ما أن انتهت .... حتى فتحت عيناها الحزينتان بصمت مثقل ... و اتجهت بتيه الى أن أوصلتها قدماها الى الدولاب العريض .... ففتحته بحذر ....
لترى ملابس مرتبة .... متراصة خلف بعضها بترتيب الألوان ... و معظمها حريرية .....
اخذت من اول الحائط الى آخره !!! ....
بينما هناك رفان بأسفل متراصة عليهما أزواج من الأحذية عالية الكعبين بكل الألوان !! .......
مدت وعد وجهها تستنشق عطر الملابس ...... فعادت لتغمض عينيها و كأنها تشم رائحة صفا .... و كأنها تتنعم بعناق أمها .... و الذي ضاع من ذاكرتها تماما .....
سمعت طرقا على الباب .... فانتفضت و أغلقت الدولاب على مشاعرها الخائنة و هي تقول ماسحة طرف عينيها
( تفضل ............. )
دخلت الخادمة .... محضرة حقيبة وعد الوحيدة ... و معها حقيبة يدها .... ثم توقفت لتخبرها بلغتها الأجنبية
أن الغذاء سيكون جاهزا خلال دقائق ......
فابتسمت لها وعد شاكرة ..... و ما أن خرجت حتى رفعت وعد حقيبتها لتضعها على السرير و فتحتها لتنظر بداخلها ..... ترى ماذا ترتدي !! .....
لقد أحضرت ملابسها التي خاطتها بنفسها !! ....... لذا قررت بعدم رضا ارتداء القميص الوردي مع التنورة الرمادية .....
و ما أن انتهت من حمامها و من ارتداء ملابسها .... مشطت شعرها و تركته حرا يلمع فوق كتفيها ....
فأخذت تمشطه بشرود .... لتغمض عينيها للحظات ...... لا بل لحظة .... لحظة ذكرى فقط ثم تنزل الى السيد يوسف ....
لحظة ذكرى ليدين سمراوين .... ألتقطتا منها فرشاة الشعر ذات يوم و هي تقف أمام المرآة ....
وعيناه تلتهمان صورتها المنعكسة ..... بينما يداه تلتهمان الأصل .....
ابتسمت بحزن و هي تتذكر انحنائها و هي تهتف ضاحكة بإثارة
( توقف يا سيف ........ أرجوك ....... )
لكنه لم يتوقف .... بل أنحنى ليضع ذراعه تحت ركبتيها و يرفعها الى صدره فتعلقت بعنقه و هي تهمس بدلال كالأطفال
( أرجووك .......لا ... ليس الآن .... )
فهمس لها في أذنها بصوته الأجش
( حسنا .سأتركك ..... لكن قوليها مجددا .... )
فهمست مبتسمة
( أرجوووووووووك .......... )
اشتعلت عيناه حينها و هتف بجموح وهو يحملها الى سريرهما المنتظر منذ اثني عشرة ساعةٍ كاملة
( من ذا الذي يستطيع أن يقاوم رجاءٍ كهذا ........ )
تأوهت وعد بصوت و هي تطبق جفنيها و الصور المتلاحقة لا ترحمها ......
فتحت عينيها بالقوة و هي تنظر الى نفسها ..... و همست بقسوة
( كم كان الفراش رائعا بينكما !! ........ هل هذا هو ما تشتاقين اليه !! .... الى أي حد ستبيعين نفسك بعد !! .... ربما الى أن تتحولي لسلعة مجانية يرميها في نهاية المطاف ..... أفيقي ..... سيف لم يكن لك منذ البداية و لقد أوضح لكِ ذلك بكل الطرق الممكنة ...... )
صمتت قليلا ثم قالت بجمود و جفاء
( أما الإشتياق ........ فلتعتاديه , فلقد تعودتِ الفقد منذ صغرك ....... )
نفضت شعرها بعنف ثم خرجت من الغرفة بتصميم و ارادة ..... و عيناها على عيني والدتها قبل أن تغلق الباب خلفها
نزلت وعد الى مكان مائدة الطعام التي أرشدتها اليها الخادمة .... فوجدت يوسف جالسا الى رأس المائدة .... ووالدها على كرسيه بجواره .....
فابتسمت بتوتر لتقترب منهما .... و جلست بحذر على المقعد المجاور لوالدها .... فسألها يوسف بأدب بعد أن تأملها خلسة فترة أطول مما يلزم
( هل أنتِ أفضل الآن ؟؟ ....... )
أومأت برأسها و هي تهمس
( نعم ...... شكرا لك ........ )
فقال بهدوء
( اذن اريدك انهاء كل هذا الطعام اللذي أمامك كي يعود بعض اللون الى وجهك ..... )
أغمضت وعد عينيها للحظة .... و روحها تتذكر عبارة تشبه تلك .......
" سيف !! ........ ابتعد عن ذاكرتي , رجاءا "
فتحت عينيها على صوت والدها الذي صرخ فجأة بصوتٍ أجش ذو حروفٍ ثقيلة صعبة الفهم
( أنتِ يا حمقاء ..... أين طعامي !! ...... و أقراصي ...... أقراصي الحمراء و الصفراء ..... )
ارتبكت قليلا في وجود يوسف .... لكنها مالت اليه تقول بخفوت
( سأسكب لك الطعام و أطعمك بنفسي يا أبي ..... و لا تقلق لم أنسى ميعاد اقراصك )
الا أنه صرخ وهو يدفع يدها بعيدا ....
( ساعات و أنت تتركيني بمفردي يا بنت ال **** و الآن تريدين وضع القمامة في فمي ! )
نظرت وعد أمامها بعينين لا تبصران من شدة الخزي ...... لكن والدها تابع بهذيان
( أنتِ يا بنت الفاجرة ..... لماذا لا تردين ! .... )
شعرت فجأة أن الدنيا تميد بها ..... لكن قبل أن تصاب بالإغماء مجددا ... صرخت بعنف و هي تضرب المائدة بقبضتيها فتراقصت االأكواب و الأطباق في قرقعاتٍ عنيفة
( كفى ..... كفى ...... كفى ..... ارحمني ..... )
رفع يوسف يده الى فمه و هو ينظر الى طبقه بصدمة .... بينما نهضت وعد من مكانها شاهقة بعنف .... و بقى عبد الحميد مكانه يهذي بخفوت
( هذا ما تفعله صفا دائما .... كلما سرقت شيئا تهرب بعده .... دائما تهرب ... و أناديها و لا ترد .... )
همس يوسف وهو ينظر الى عبد الحميد ....
( يالهول ! ....... )
الا أن عبد الحميد نظر اليه و همس بخشونة
؛( اخرس ايها القذر ......و اغلق فمك قبل أن أدس حذائي به ... . )
.................................................. .................................................. ......................
أن تكون اللحظات أثمن من أن تضيع إحداها ... و يزأر العقل بذلك ....
لكن في نفس الوقت يصيب العضلات وهن مصدره صدر نازف ... أصدر قلب يسكن بداخله الأوامر للساقين بأن تتساقط لوقت من الزمن .....
هذا ما كان عليه حاله ... و هو يجلس على الأريكة البسيطة في الشقة المظلمة .... مستندا بمرفقيه الى ركبتيه
كفه قابضة على الورقة المتجعدة .... عيناه تطوفان في الفراغ المظلم من حوله ....
و بداخله اسم واحد يتردد .... " وعد " ....
و صوت آخر ينازعه صارخا
" قم .... انهض من مكانك .... ابحث عنها قبل أن تحلق بعيدا .... فهي ملكك .... من يوم أن خطت الى مكتبك بقدميها و هي ملك لك ..... انهض و اعثر عليها و أذقها المرار ... لكن في النهاية ابقِها بين أحضانك ... أسيرة صدرك ..... انهض و لا تتخاذل ..... "
لكن الوهن الغريب كان يتسلل غادرا لكل أعضاء جسده الضخم .... و عيناه المظلمتان تحدقان من حوله بحثا عنها ... لا يزال بداخله شعور مجنون يخبره بأنها مجرد مزحة سخيفة منها ... و أنها ستطل الآن من إحدى
الغرف بتعابير وجهها الطفولية ما أن تقرر أن تنبذ جمودها المعتاد .....
لتهتف جذلة " ضحكت عليك ..... أظننت حقا أنني أستطيع الإبتعاد عنك !! "
جنونها نما على يده هو ..... مرحها الجديد تتلمذ على يديه ..... عاطفتها الجامحة التي كانت ترويه دون حساب كان هو مصدرها .....
لذلك ستظهر الآن وعد التي ظهرت على يديه ..... تلك الضاحكة بدهشة و كأنها تختبر مذاق الضحك للمرة الأولى ....
تشاغبه و يعاقبها .... و في النهاية ينتهي بهما الأمر بين أحضان بعضهما منهكين من سيل العواطف المحمومة التي تلفهما ... و تفهمها ... و تعرف كلا منهما حق المعرفة ....
لو ظهرت الآن ... لن يهتم أن يكون سريرها هو وجهتهما .... و الذي كان في مرة سابقة ميدان صراعه النفسي , حيث أذاها دون قصد ....
لو ظهرت الآن ... سيحملها بين ذراعيه و يدور بها .... و ينتهي بهما الأمر كجسد واحد وروح واحدة ...
حيث لا وجود لعبد الحميد أو بيته أو ذكرى لما حدث لوالدته مقترنة بوعد ....
لو ظهرت الآن ... سيعاقبها كي لا تتجرأ مطلقا على تكرار تلك المزحة ال ....... القاتلة ...
و همس فجأة بصوت أجوف .... بعيد
( وعد !! ........ )
ثم لم يلبث أن رفع وجهه و قد توحشت عيناه .... و انبثقت القوة المفقودة في جسده وهو ينتفض من مكانه كمارد ....
وعد جزء منه ..... لن يسمح لمخلوق بابعادها عنه .... حتى لو كان المخلوق هي نفسها ......
فليس من حقها أن تتخذ قرارها بسلب روحه من بين ضلوعه .......
و خلال ساعات كانت تلك الروح تصرخ بفزع بين جنبات صدره وهو يقود سيارته كالمجنون بحثا عنها في كل مكان و قد تأخرت ساعات الليل ....
كانت عيناه تنظران الى الطريق بقسوة ... بينما يقبع خلف تلك القسوة خوف مما يمكن أن يكون قد أصابها ...
أي مكان يمكن أن تتجه اليه ؟!! .... وهي محملة بوالد مسن مريض ...
حتى المال الذي تركه لها لا يكاد يكفيها لقضاء ليلتين في فندق محترم ....
ضرب على المقود بقوة شاتما بعنف و هياج ...
أين يمكن أن تذهب الغبية المجنونة وحدها .... دون مال أو مكان تلجأ اليه خاصة بعد أن تنازلت عن شقتها !!
ملك !! ....
ضاقت عيناه ... و هو يتسائل بغباء عن السبب الذي جعله ينسى وجود ملك !!
و دون ارادة منه داست قدمه أكثر لتزيد من سرعته الجنونية ....
نهضت ملك مفزوعة من نومها على صوت طرق لباب غرفتها .... فجرت متعثرة ووقفت خلفه و هي تسأل برعب
( من ؟!!! ......... )
سرعان ما سمعت صوتا أجش يقول بهدوء
( أنا سيف يا ملك ...... زوج .... وعد )
اتسعت عينا ملك قليلا ... ثم نظرت الى ساعة الحائط و قد تجاوزت منتصف الليل بساعتين ... فعبست بشدة و سرعان ما فتحت الباب لتنظر الي هيئته المشعثة و هتفت بخوف
( سيد سيف !! .... ماذا حدث ؟؟ .... هل أصاب وعد شيء !! ؟؟ )
تجمدت ملامحه أكثر و قست عيناه أكثر و أكثر .... و دون تفكير دفع الباب و دخل مزيحا ملك التي هتفت بارتباك
( سيد سيف !! ....... سيف !! ... ما الأمر ؟!! ..... ماذا تفعل ؟!! .... )
لكن سيف لم يجبها و هو يجيل نظره في أرجاء المكان الضيق ... و سرعان ما التفت اليها ليقول بصرامة
( أين وعد يا ملك ؟؟ ........ )
اتسعت عيناها بخوف أكبر و همست بارتباك
( وعد !! ..... ماذا بها ؟!! ..... ألم تعد للبيت ؟!! .... )
هتف سيف بقسوة
( ملك توقفي عن خداعي ...... أين وعد ؟؟ .... )
عقدت حاجبيها و توترت وبان الخوف على ملامحها .... بينما ظل سيف ينظر اليها بجفاء , ثم لم يلبث أن زفر بعمق ليقول بعد فترة بصوت أكثر رفقا
؛( ملك ..... اعذريني على حدتي معك , لكن مساعدتك لوعد على الهرب ليست الحل ... وعد زوجة و لها مسؤوليات عليها تحملها ... و ما تفعله هو تصرف أطفال ... )
قالت ملك بقوة و توتر
( انتظر لحظة واحدة يا سيف ......ما فهمته هو أن وعد ليست في البيت حاليا .... لكن ما الذي يجعلك تظنها هربت ؟!! .... لماذا لا يكون قد أصابها مكروه !! ... اليس هذا أجدر و أولى أن يشغل تفكيرك حاليا ..... )
زفر سيف بحد و هو يرفع يده ليغرز أصابعه في خصلات شعره بقوة ... ثم قال بحدة
( ملك .... رجاءا هذا ليس وقت تلاعب بأعصابي , وعد تركت رسالة محددة لي .... فهلا تكرمتِ رجاءا بإخباري عن مكانها ؟!! ....... )
عقدت ملك حاجبيها أكثر و همست بشرود
( تركت رسالة !! ............ )
هتف سيف بغضب مما جعلها تنتفض في مكانها و ترتطم بالباب المتشبثة به
( ملك !!! .......... )
توقف حين وجدها تنظر اليه بخوف .... بدت صغيرة للغاية بقميص نومها الطويل حتى الكاحلين و الذي يبتلعها تماما .... بينما انساب شعرها الذهبي الطويل على كتفها ليزيد من صورة برائتها ...
من المستحيل أن تكون تلك الشابة الصغيرة مخادعة إطلاقا ,..... لكن مع هذا ربما ينتابها غباء مؤقت يجعلها تصدق أنها تحمي وعد منه ....
لذا اقترب منها خطوة ليقول بصوت خافت به نبرة ترجي لم يعهدها بنفسه من قبل
( ملك ..... اسمعيني جيدا , ..... وعد ليست في حالة تسمح لها بالإعتماد على نفسها حاليا , حتى أنتِ لن تتمكني من مساعدتها ...... )
همست ملك بخوف
( صدقني لا أعرف عنها أي شيء ..... ولو كنت أعرف لكنت أخبرتك , لأن الهرب ليس حلا ...... )
تنهد سيف بقوة ليقول بكبت
( ملك ...... هذا أول رجاء مني ....... أرجوكِ ..... )
هزت رأسها نفيا ببطء لتهمس بعدها و قد امتلأت عيناها بالدموع
( لا أعلم عنها أي شيء ..... و لو قررت الهرب فأنا آخر انسانة يمكنها أن تلجأ اليها , العلاقة بيننا ليست قوية الى تلك الدرجة ....... أنا علمت بزواجكما بالصدفة ..... حتى أشهر قليلة , لم أكن أعلم عنها اي شيء .... )
ظل سيف ينظر اليها طويلا بعذاب به لمحات من القسوة ... ثم قال أخيرا
( ملك .....وعد صحتها ....... لا تتحمل المزيد من الشقاء .... )
فغرت ملك شفتيها و انسابت دمعة خائنة على وجنتها بصمت دون ان تعرف لها سببا ... ثم همست
( ماذا عن صحتها ؟!! ....... هل هي مريضة ؟؟ .... )
تنهد سيف بقوة وهو يرفع رأسه عاليا ... واضعا يديه في خصره يكاد يسحب كل هواء الغرفة الضيقة في نفس مكبوت قلق .. معذب ....
فهمست ملك تقول بتوسل
( أرجوك أخبرني ...... أريد أن أطمئن عليها .... )
نظر اليها سيف بصمت طويلا ... ثم قال
( بعد أن أطمئن أنا ...... حينها سأطمئنك ... )
ثم اندفع خارجا من الغرفة ... الا أن ملك نادته قائلة ..
( سيف ....... )
استدار اليها سيف بصمت ... فهمست ملك بخفوت و هي تتشبث بالباب
( هل آذيتها ؟!! ......... )
للحظات بهتت ملامحه .... ثم لم يلبث أن عاد وجهه سريعا لقناع الجمود وهو يقول بخفوت
( نعم يا ملك ...... لكن بدرجةٍ أكبر مما ظننتها على ما يبدو .... )
استدار مجددا ليتجه الى السلم ... لكن ملك نادته مجددا و هي تخرج خلفه خطوة , فاستدار اليها ...
حينها قالت بخفوت
( كرمة هي اقرب شخص لوعد ......... )
تسمر سيف مكانه .... نعم ... كرمة بالفعل ....
فعاد الى ملك يقول بلهفة
( هل لديكِ عنوانها أو رقم هاتفها ؟؟ ......... )
هزت ملك رأسها و همست
( للأسف لا ...... لم أظن أنني قد أحتاج اليهما .... نحن نرى بعضنا نادرا .... لكن أكيد أنت تعلم المصرف الذي تعمل به ...... )
برقت عينا سيف ... ثم هتف بقوة
( شكرا يا ملك ........ )
و اندفع نازلا السلم ... و صوتها خلفه يقول بقلق
( لا تنسى أن تطمئنني يا سيف ........ )
لكنها لم تسمع همسه يعيد مكررا بعزم
" حين أطمئن أنا أولا يا ملك ...... "
.................................................. .................................................. ......................
جالسة تضم ركبتيها الى صدرها .... تنظر أمامها بلا ابصار .... تتلمس برعب شفتيها المنتفختين من قبلة رجل غريب !! .....
و صوت آخر يتردد في ذاكرتها من بعيد
" أخشى أن يرتفع شأنك ذات يوم .... فتتركينني ... "
و صوت ضحكها يتداخل مع الذكرى لتقول بمرح و تعجب
" أتركك يا أحمق !! ..... أترك عائلتي الوحيدة !! .... أترك بيتي !! ..... "
اظلمت عيناها و هي تتذكر اقترابها منه بدلال لتهمس فوق صدره اللاهث بقوة مشاعره الجائعة
" أترك زوجي .... و أبي .... و أخي ...و ابني ..... و .... و حبيبي !!! .... و أصل الي هذا الشأن العالي بمفردي !!...
لأكون حينها عجوزا وحيدة بشعة الروح و حاقدة على كل المحبين !!! ...... "
ضمت كرمة نفسها بقوة و هي تستشعر عضلاته و كأنها لا تزال حية تحيط بها ... و ليست مجرد ذكرى لرجلٍ يضمها بقوة .... يثيرها بلمساته التي تعرف كل ذرةٍ من جسدها حق المعرفة ....
و صوته يقول بخشونة
" قد تجدين من هو أفضل مني حين تكبرين ....... "
حينها ضحكت بقوة و هي تندس بصدره هامسة بغنج و سحر
" أفضل منك !! ..... هل هناك أفضل من بطلي !! ..... بطلي الذي وجدني و حارب العالم من أجلي !! ... بطلي الذي تنازل و قبل وحدتي و تقبل أنه لا كبير لي ليضع يده بيديه و يصاهره ....
بطلي الذي منحني اسمه و عرضه دون سابق معرفة أو أصل يسأل عنه ليطمئنه لهذا النسب ....
بطلي الذي حقق لي حلما ما كان ليتحقق بدونه ...... "
صمتت لترفع رأسها و نظرت في عينيه لتكمل هامسة بجدية
" كل قرش دفعته من تعبك و شقائك على أكمال دراستي رفعني درجة .... و ها أنا لم يتبق لي سوى عامين و أحقق الجزء الأكبر من حلمي .... "
انعقد حاجبي كرمة بألم حين تذكرت رده الخافت القلق
" أخشى أن يكون مجرد عرفان بالجميل ...... "
صمت أذناها ضحكتها العالية المتدفقة في ذلك الوقت ... و رأت عيناها نفسها و هي في سن الثامنة عشر .. و مع هذا كانت قد أصبحت امرأة ناضجة نضجا مبكرا على يديه .... تقترب منه بحركات مدروسة .. و يداها الخبيثتان تمتدان اليه بعبث هامسة بقلة حياء
" هل يشبه هذا عرفانا للجميل ؟!! .......... "
لا تزال حتى الآن تتذكر أنفاسه التي تحشرجت بفعل يديها و عضلاته التي توترت و تشنجت .. مما منحها الثقة أكثر و زادت من جرأتها و هي تتابع همسا
" و هذا !! .......... و هذا !!! ..... "
أغمضت عينيها بقوة و هي لا تزال تشعر بألم في جسدها من مجرد ذكرى الطوفان الرجولي الذي جرفها فيه بقسوة كانت تحبها .... بل تعشقها ....
و تذكرت صوتها الهامس بعد فترة طويلة
" يداك الخشنة السمراء ... تشعرني بأنني في نعومة الحرير .... قادرة على تحويلي الى أنثى رقيقة وديعة ... لا أعرفها الا معك ..... "
ابتلعت كرمة غصة مسننة في حلقها بصوت مختنق و هي تطبق جفنيها .... لتهمس بهذيان مختنق
( كيف أمكنك !! ....... كيف أمكنك !! ....... كيف أمكنك استبدالي بهذه السرعة ؟!! .....)
فتحت عينيها الحمراوين لتهمس الى الجدار أمامها
( على الأقل احزن ..... خذ وقتك في البكاء من بعدي ..... التقط اي ذكرى جميلة كانت بيننا يوما و تحسر عليها ...... نم على فراشنا بدوني .... و تشوق لزوجةٍ كانت تستقبل كل ما تمنحه لها و تزيده اشتعالا .....
زوجة تحملت اشتعال ذلك الفراش ليالٍ ..... و برودته ليالٍ أكثر منها .......
زوجة استلقت على ذلك الفراش تحديدا تنتظرك كل ليلة ,محاولة أن تعيدك الى شوق القديم .... مستخدمة سحر الغانيات دون حرج أو تردد ..... فقط لتعيدك اليها .... لتخبرك أنك أهم لديها من العالم كله )
صمتت لتغمض عينيها بقوةٍ مجددا ...و هي تهمس بعذاب
( كيف أمكنك ؟!! ....... كيف أمكنك أن تنمي بداخلي الرغبة في كسر قلبك !! ...... في لحظةٍ واحدة وجدت أن كل ما تمنيته فيها هو كسر قلبك في المقابل ..... كما كسرت قلبي )
نطقت كلمتها الأخيرة و هي تجش بالبكاء مطبقة جفنيها بقوة .... رافعة يدها الى فمها ....
ذلك الفم الذي استقبل قبل رجلٍ آخر الليلة غير محمد .... و كم أشعرها ذلك بالرعب !! ..... و كأنها تصرفت تصرفا محرما ... لا يحله شرع !! ....
انتفضت كرمة فجأة من مكانها على صوت رنين هاتفها ... ففتحت عينيها المتورمتين تنظر اليه و كأنه أفعى سامة .... و بالفعل وجدت آخر اسم تتمنى أن تتعامل معه حاليا ... " حاتم " ...
و كان رد الفعل الأول لها هو أنها اندست تحت الغطاء و رفعته فوق رأسها و هي تهمس بصوت مسموع و كأنه يسمعها
( أنا نائمة ............ )
لكن الرنين استمر .... و ازداد انطباق جفنيها و همست مجددا بجمود
( أنا نائمة ........... من حقي أن أكون نائمة .... )
سكت الرنين ففتحت عينيها و تنفست الصعداء براحة من بين شفتيها المرتجفتين .... لكن صوت رسالة وصلتها على الهاتف جعلتها ترفع رأسها بتوجس و هي تنظر اليه ....
لذا فتحتها بأصابع مرتجفة ... و قرأت الرسالة
" بمعرفتي بكِ .... أجد أنه من المستحيل أن تكوني نائمة الآن نظرا لكل ما ممرتِ به مؤخرا ... لذا و بما أنكِ تتظاهرين بالنوم و تتجاهلينني .... فمن المؤكد أنكِ تمرين بوقتٍ عصيب بمفردك حاليا .... و أنا لن أسمح لكِ باقصائي من حياتك منذ هذه اللحظة ........ أنا في طريقي اليكِ لأهبك قبلة الحياة يا أميرتي النائمة .....
ملحوظة : .... لا تتعبي نفسك بالنهوض من السرير , المفتاح لا زال بجيبي "
شهقت كرمة و هي تنهض من السرير .... و سرعان ما هتفت بغضب
( المفتاح معه !!! ........ و أنا التي وثقت به !! ...... ما هذا التطفل !! .... )
ضربت أسمه بحنق و رفعت الهاتف الى أذنها و هي تنفض شعرها بثورة .... و سرعان ما جاءها صوته مسترخيا
( آآآه اذن استيقظتِ دون المزيد من القبلات !! ...... كم هذا مؤسف ! .... )
قالت بصوتٍ فظ أكثر مما انتوته
( هذا ليس مضحك يا حاتم ........... هل معك المفتاح حقا ؟!! ..... )
لفترة لم تسمع صوتا فتوترت أكثر .... لكن حين جاء صوته , كان غريبا بلا تعبير معين
( نعم معي المفتاح ...... هل هناك مشكلة في ذلك ؟؟ ..... )
ارتبكت قليلا .... و هي تستفيق لما تفوهت به , انه بيته و من المؤكد انه يملك عدة نسخ من المفتاح بخلاف الذي سلمه لها منذ فترة .... لكن و مع ذلك .......
همست كرمة بتوتر
( الأمر أن ..........أن تكون ببيت و أنت تشعر في كل لحظة ان هناك من قد يفتح الباب و يدخل في اي لحظة ليس امرا مريحا ....... )
ساد صمت قاس لفترة اخرى .... ثم قال حاتم بصوت متصلب
( إن كنتِ تتحدثين عن الفترة الماضية .... فللبيت عدة مفاتيح و بالطبع نسيت ان اسلمها كلها لكِ.... لكن كنت أعتقد أن هناك مساحة للثقة بيننا ...... أما إن كنتِ تتحدثين بدئا من الليلة ..... فالأمر قد اختلف !! ... )
بدت جملته الأخيرة أكثر صلابة .... تكاد تمثل تهديدا معينا ... أم أنها تتوهم !! ....
فلم تستطع أن تمنع نفسها من الهمس بتوجس رغما عنها
( اختلف .... كيف !! ...... )
عاد ليسود الصمت مجددا !! .... تبا لماذا يثير أعصابها بتلك الطريقة السخيفة !! ... الا أنه تكلم أخيرا قائلا بهدوء و ثقة .... بهما صلابة أكثر وضوحا
( البيت عاد بيتي من جديد ...... و أنتِ زوجتي ..... )
أغمضت عينيها و رفعت يدها الى صدرها اللاهث ....ثم همست بصوت مشدود لم تتعرف عليه أذناها
( حاتم ....... هل يمكن لو ........ )
قاطعها بقوة قبل أن تتابع
( نامي الآن يا كرمة ...... صوتك يخبرني بوضوح عن اقترابك من حد الإنهيار .... غدا سنتكلم .... )
كانت ترتجف بوضوح .... لكنها همست بصوتٍ يكاد يكون باكٍ
( ح..... حسنا ....... )
و انتظرت ان يغلق الخط ..... لكن الصمت طال مجددا , ليقول بعدها بخفوت
( كرمة ............ )
ابتلعت ريقها بارتباك .... ثم همست بصوت مختنق
( نعم ........... )
رد عليها بصوت يكاد أن يكون لهيبه قد وصل الى اذنها فأحرقها ...
( الليلة ....... كنتِ في جمال القمر الفضي ..... , حين نظرت اليكِ تسائلت في لحظة .... أي عمل جيد فعلته في حياتي كي استحق امرأة مثلك ..... أصبحت لي بين ليلةٍ و ضحاها ..... فشكرت القدر و حظي الذي لم أعرفه سعيدا الا الليلة ...... )
كانت مغمضة عينيها بقوة و ملامحها تكاد أن تكون ممزقة من ضغط ما تشعر به حاليا , لذا صرخت بحدة قبل أن تستطيع منع نفسها
( توقف ...... فقط توقف عن مثل ذلك الكلام التافه ...... أنت لست محظوظا بأي طريقة من الطرق .... لذا توقف عن ترديد ذلك الكلام , أنه يثير جنوني ...... توقف .... أرجوك توقف .... )
لم تعلم أنها قد بدأت في البكاء بالفعل في الكلمة الأخيرة ...... و استمر نشيجها عنيفا .... الى أن سمعت أو بمعنى اصح تجاهلت سماع صوته الأجش العنيف في همسه
( تصبحين على خير ......... )
ثم اغلق الخط ....... حينها ارتمت كرمة على وسادتها تفرغ الباقي من الدموع التي أمسكتها بقوةٍ لمدة ساعات قبل عقد القران ..... لكن صوت حاتم الآن و كلماته كانت أكبر من قدرتها على تحمل ....
كلمات نطق بها محمد ذات يوم ..... لكنه تفنن في تبديد معنى كل حرفٍ منها ......
بعد فترة طويلة ... انتهى بكاءها كنشيج متعب ... تبعته عدة شهقات خافتة .... ثم لم تلبث أن تنهدت بصمت ... و همست
( ياللهي يا كرمة !!! ....... ماذا بكِ ؟!! ..... أين تلك القوة التي كنتِ تدعينها !! .... لقد تحملتِ مع محمد الكثير و لم تنهاري يوما ..... فأين تلك القوة الآن ؟!! ..... هل هو من كان يمدك بها ؟! .... مجرد وجوده في حياتك كان الحافز لكِ كي تستجمعي قواكِ كلها !! ...... )
رفعت كفيها الى وجهها و همست بخفوت محدثة نفسها
( هل كنتِ مجرد ظل ؟!! ........ هل كان وهما ذلك الكيان الذي بنيته لنفسك لسنوات طويلة !!! ..... و الآن بعد طلاقك تكتشفين أنكِ مجرد لا شيء بدون زوجك !!! ....... )
رفعت كرمة وجهها تنظر أمامها بوجوم .... و عيناها المتورمتان فقدتا القدرة أخيرا على البكاء بعد ساعات الإستنزاف الطويلة .... ثم همست
( هل زواجك من حاتم كان بالفعل مجرد رغبة في كسر قلب محمد !!! .... أم أنكِ ببساطة شعرتِ في لحظةٍ خائنة بالرعب من حياتك بدون ظل رجل تحتمين به !! ..... نفس المعنى العقيم الذي نشأتِ فيه لسنوات ... ها أنتِ تطبقينه بكل مهارة .......... كنتِ تخدعين نفسك لسنواتٍ طويلة يا كرمة ..... و تظنين أنكِ بنيتِ لنفسك كيان يختلف عن كل النساء من حولك ...... )
صمتت قليلا ..... ثم نهضت من مكانها ببطىء و تثاقل .... حتى نظرت الى المرآة التي تحمل صورة مشوهة لها .... و قد سال الكحل الأسود على وجهها , فأظهر لها بوضوح شخصها الحقيقي دون زينة .... دون شعارات كاذبة .....
ثم همست بفتور ميت لا حياة فيه
( حسنا ....... لقد تهورتِ و حدث ما حدث ...... و ها أنتِ أصبحتِ على ذمة رجل آخر ..... فتقبلي الأمر و تعاملي معه ...... أنتِ لست عذراء مذعورة , .... أنتِ امرأة ناضجة , كانت متزوجة لعشر سنواتٍ كاملة ..... عشر سنوات ........ )
صمتت قليلا .... ثم ارتجفت شفتيها بقوة , امتلأت عيناها بالدموع من جديد و هي تهذي همسا
( عشر سنوات !! ...... ياللهي عشر سوات كاملة ...... عشر سنوات !! ..... )
دخلت أمينة في تلك اللحظة بعد أن طرقت الباب لكن لا حياة لمن تنادي ....
لكن و ما أن خطت الى الغرفة تحمل كوب حليب و بعض الشطائر , حتى تسمرت مكانها و رفعت حاجبها توجسا و ريبة و هي تجد عروس البيت واقفة أمام المرآة ..... تهمس بذعرٍ باكٍ
( عشر سنوات ...... عشر سنوات ........ عشر سنوات ..... )
فهمست و هي تضع يدها على صدرها
( صبرني يا رب !! ..... و كأن البيت كان ينقصه المزيد من البلايا البشرية ..... )
تنهدت أمينة بيأس ... ثم قالت بفتور ...
( العشاء يا سيدة كرمة ............ )
الا أن كرمة كانت تهمس لنفسها
( عشر سنوات !! ......... كيف أمحوها بجرِ القلم ؟!! ...... )
رفعت أمينة عينيها الى السماء .... ثم حاولت مجددا
( أنتِ لم تضعي في فمك لقمة منذ الصباح ......... تعالي و تناولي شيئا )
لكن كرمة كانت تهز وجهها نفيا و هي تهمس بشرود
( عشر سنوات أوهمت بها نفسي أنني بخير ..... لكنني لم أكن ..... و ها أنا الآن لا أستطيع حتى الخروج منها ............)
وضعت امينة الطعام من يدها ...... ثم استدارت اليها و قالت بامتعاض
( انظري للنصف الممتلىء من الكوب و هو أنكِ على مشارف السنة الحادية عشر .... لذا تخطي الأمر سريعا و تعالي كُلي ...... )
لكن كرمة كانت تهز رأسها نفيا في حوار صامت مع عينيها المقابلتين لها في المرآة ......
فزفرت أمينة بقوة ... ثم اتجهت للباب و هي تقول
( شفاكِ الله ....... عقد قران مبشر بالخير و بمستقبل مبهر ..بصراحة !! ...... )
ثم خرجت من الغرفة و هي تتمتم بغضب
( الفالح .. فالح من يومه الأول ...... و حاتم هذا مكتوبٌة له الخيبة في كل خطوة ...... )
اغلقت الباب خلفها ثم خرجت بحنق .... و ما ان اتجهت الى المطبخ , حتى سمعت رنين هاتف البيت , فاستدارت اليه و اتجهت اليه حانقة ... و ما أن رفعته حتى سمعت الصوت الأجش يقول بخفوت و دون الحاجة للسؤال عن هوية من رفع السماعة
( كيف حالها الآن يا أمينة ؟!! ......... )
ردت عليه دون مجاملة
( الحقيقة أنني لا أريد أن اخدعك ..... لبئس من وقع عليها اختيارك بعد صبر سنوات من العزوبية !!!...
و قبلها الصبر على زوجتك المجنونة الأولى ..... لكن الآن ماشاء الله , فأنا أخشى عليك من الحسد ....
حيث أعتقد أنك الوحيد الذي واتته الفرصة للزواج من مجنونتين على التوالي ...... كيف فعلتها بالله عليك؟!! .... أنت حتى لو كنت متقصدا ذلك , لم تكن لتفعلها بمثل تلك المهارة !!! ....... )
سمعت تنهيدة عميقة محملة بالكثير من المعاني ....قبل أن يقول بخفوت أكبر
( هل حالتها بمثل هذا السوء !!! ........ )
هتفت أمينة و قد عيل صبرها
( إنها تهذي !! ...... و تكلم نفسها ....... و لا ينقصها سوى وضع ريشة على شعرها و الخروج حافية الي الطريق ...... أين كان عقلك الرياضي و أنت تختارها تقع في حبها يا خائب الرجا !! ...... )
الا ان حاتم همس بصوتٍ أجش يحمل الكثير
( بماذا تهذي ؟!! .............. )
رفعت أمينة راسها الى السماء ثم ضربت وركها بيدها و هي تهتف بحنق
( هل هذا كل ما يهمك في ما قلته ؟!! ...... بما تهذي به البسكويتة؟!!! ..... حسنا إنها لا تنفك تردد .... عشر سنوات .... عشر سنوات .... و كأنها أحد محصلين عدادات الماء و الكهرباء !! ...... )
لم تكن تدري أنه أثناء كلامها العفوي .... على الجهة المقابلة , كانت ملامح حاتم قد تحولت الى قاتمة بشكلٍ عنيف و توهجت عيناه بشدة
" عشر سنوات ..... " ... انه بالتأكيد يعرف حق المعرفة معناها بالنسبة الى كرمة .....
سنوات زواجها من الحبيب الذي عاملها أسوأ معاملة على مرآى و مسمع من الجميع .....
و رغم ذلك .... ها هي تفكر به في ليلة زواجهما !! ...... بينما قصته هو بأشد نبرةٍ لديها خارج دائرة حزنها ... طردته و أوصدت خلفه أبواب قلبها ..... بينما تركت زوجها الأول خلف تلك الأبواب المغلقة ....

بعينك وعد. 🌺 بقلم تميمة نبيل 🌺حيث تعيش القصص. اكتشف الآن