الفصل السابع عشر :
كانت لمساتٍ خشنة تجول على بشرة وجهها تحثها على الخروج من غيبوبتها الآمنة . الا أنها كانت تقاومها بكل قوتها .. تعلم أنها لو خرجت للعالم الواقعي فسوف تموت حية ... تتمزق أوصالها بشراسة ... يسحق قلبها تحتٍ قدمٍ عمياء ..
لذا قاومت .. و قاومت بكل قوتها ....
الا أن اللمسات الخشنة كانت تزداد قوة ... مترافقة مع اسمها ذو الصوت الجزع ...
( كرمة ..... كرمة .... افتحي عينيكِ ... )
الا أنها زادت من انطباق جفنيها بقوةٍ تتمنى الغرق في هوتها السحيقة كي لا تنجح تلك اليد الخشنة في الوصول اليها و انتشالها ...
الا أن الملامسات على وجنتيها تحولت الى تربيتات .. ثم صفعات .... و الصوت الخشن يزداد جزعا ...
حينها رفضت بقوة .... رفضت تلك الصفعات ... أرادت الصراخ في صاحب الصفعات
" ابعد يدك لا تصفعني مجددا ... "
الا أن صوتها كان ذاهب الأنفاس ... يرفض الخروج من بين شفتيها ...
حاولت و حاولت ...وصوتها لا يزال يرفض الخروج ... الى أن استجمعت كل قوتها مع آخر صفعة .. لتصرخ بصوتٍ منقطع الأنفاس مجهد
( لا تصفعني ......... )
توقفت الصفعات عن وجهها ... ووصلها صوته الخشن يهتف بارتياح
( الحمد لله ...... لقد أرعبتني .. )
فتحت كرمة عينيها ببطء و هي لم تستجمع كل استيعابها بعد .... الا أن شيئا غريبا انتابها ما أن رات وجهه المنحني اليها .... حيث شهقت عاليا و اتسعت عيناها برعب و هي تتراجع للخلف قليلا ...
حينها قطب محمد جبينه وهو يقول بقلق مضطرب مربتا على شعرها ...
( لا تخافي يا كرمة ..... إنه أنا .... محمد ..... )
الا أن وعيها جاءها كله دفعة واحدة ... فأبعدت رأسها عن يده بسرعة ... و أحنت وجهها جانبا و هي تشعر بألم قوي في صدرها يمزقه بعنف مع ذكرى كل شيءٍ حدث قبل أن تسقط في غيبوبتها ...
كل كلمة .... كل لمسةٍ شرسة .... كل نفسٍ مهتاجٍ منه .... خيانته !! ..... خيانته !! .... محمد تزوج !!!!
مدت يدها تتدثر بالغطاء جيدا و كأن البرد يقتلها بشدة صقيعه .... الا أنه مد كفيه يسحبها من كتفيها و يضمها جالسة الى صدره بقوةٍ كادت أن تحطم أضلعها وهو يقبل شعرها هامسا بعنف
( لا بأس ...... لا تخافي ..... لم أقصد أن أؤذيكِ الى هذا الحد .... )
تشنجت بين ذراعيه و هي تشعر بألم في كل أنحاء جسدها الصارخ الرافض .... الا أن ألم صدرها كان أقوى و أعنف ..
كانت مقاومتها بين ذراعيه ضئيلة بما يتناسب مع جهدها المهدور .... الا أنه شعر بتلك المقاومة ...
يضمها بقوةٍ الى صدره فلم ترى وجهه المغضن بالألم من رفضها و مقاومتها الضئيلة ... و كلما قاومت كلما أحكم الوثاق من حولها خشية أن تنجح في التحرر منه ...
الا أن ارتجافها العنيف هو ما جعله يرأف بها و يخفف من ضغطه عليها .. فأبعدها عنه قليلا وهو ينظر بعذاب الى وجهها الشاحب الميت ....
كان في بياض الجليد ... لا يلونه سوى شفتيها المتورمتين الداميتين .... ... و عنقها الأبيض تزينه كدمات زرقاء و أرجوانية و كأنها تعرضت للخنق ....
عقد حاجبيه بشدة وهو لا يصدق أنه هو من تسبب في ذلك !! .... منذ متى كان بقدرته أن يؤذي كرمة الى هذا الحد !! ...
لكنها هي الأخرى آذته و بشدة ..... فهل يجعل هذا منهما متساويان ؟!! .......
همس برقة وهويربت على وجنتها
( كرمة ........... لا تبقي صامتة , تكلمي أرجوكِ .... لم أكن أقصد ما حدث , تعرفينني في حالات غضبي أكون كالمجنون ..... )
رفعت وجهها اليه و كأنما تراه للمرة الأولى .... بل و كأنما تنظر الي انسانٍ غريبٍ عنها تماما ....
حتى صوته غريب .... لم يكن ذات الصوت القوي الاجش الذي عرفته لسنواتٍ طويلة ... بل كان صوتا مهتزا قلقا ....
حتى لمسات كفه الخشنة فوق وجنتيها .... كفه الخشنة بفعل العمل الشاق مع الماكينات كانت دائما لها بنعومة الحرير ... اما الآخ فخشونتها تخدش بشرتها الناعمة بشدة ... تجرحها كمبرد خشن ...
عيناه تتهربان من عينيها ..... و لم تكن عيناه بهذا الجبن من من قبل أبدا !! ......
مدت يدا مرتجفة الى كفه فوق وجنتها تبعدها بحزم يتناقض مع إعيائها ... ثم همست بلا روح
( أريد أن أنهض ......... )
حاولت ابعاد الغطاء ... لكن ما ان وجدته يحاول مساعدتها حتى انتفضت للخلف صارخة
( لا أريدك أن تقترب مني ...... )
عبس محمد بشدة و التهبت عيناه ... ثم قال بصوتٍ متوتر منخفض
( كرمة لا تبالغي في ردة فعلك ..... لم أكن بوعي , لقد أخرجتِ أسوأ حالاتي .... أنت تجرحين الناس دون أن .... )
صرخت كرمة بهياج فجأة ...
( اخرس ....... لا أريد سماع صوتك )
عبس أكثر و تعقدت ملامحه وهو يسمعها للمرة الأولى تقلل من احترامها له بتلك الدرجة ... كانت دائما صبورة تتحمل كل حالات غضبه من قبل .. دون حتى أن تتغير نبرة صوتها الا الى نبرةٍ حزينة قليلا في كثير من الاحيان .... و أحيانا مرتفعة قليلا .... لكنها كانت تظل كرمة ... لا تتغيير و لا تتعب ....
لقد طعنها بغدر .... و كان يعرف ذلك و يتوقعه من قبل حدوثه .... كان ينتظر هذا اليوم المأسوي منذ فترة و به خوف بل رعب من ردة فعلها ....
لذا حاو لجاهدا كبت شعوره بالإهانة من كلماتها الطائشة .... يحق لها أن تفعل أكثر .... لذا فليتحملها مثلما تحملته طويلا ... خاصة بعد معرفتها بزواجه ....
تنهد بعنف ما أن وصل الى تلك النقطة .... و كأنه سقط في تلك الهوة التي كان يخشاها ....
تنبه الى أنها كانت تحاول النهوض بتعثر من الجهة الأخرى تلف الغطاء من حول نفسها أمام عينيه المتفحصتين لها بعذاب .... لكنها ما أن استقامت حتى انحنت قليلا متأوة بألم ....
حينها نهض من مكانه بسرعةٍ الى أن وصل اليها يلف ذراعه حول ظهرها و يده الأخرى ممسكة بمرفقها وهو يهمس بحزن و ألم في أذنها
( هل أنتِ بخير ؟....... )
لم يتوقع أن ترفع اليه وجهها بسرعةٍ لينتفض شعرها على وجهه و كأنه يصفعه بقسوة .... ناظرة اليه بعينين قاسيتين كالرخام الاسود المصقول .... تتهمانه بشكلٍ لا يقبل الشكل في أن شيئا ما بينهما قد انكسر للأبد ...
شعر محمد بنبضات قلبه تتزايد خوفا .....
لم يكن يصدق ذات يوم الحديث الدارج بين الرجال عن خوف الأزواج من زوجاتهم !! ....
كان ينظر بسخريةٍ مندهشة الى كل رجل مرتعب من زوجته ... مرتعب من معرفتها بخيانته أو حتى معرفتها بزواجه من أخرى ...
و كان يتسائل عن سبب خوفهم من مخلوقاتٍ أضعف منهن في الجسد و القوة ..... و ماذا لو علمن !! .... سترضخ للأمر الواقع في النهاية ....
لكن ثقته كانت نابعة من عدم تخيل ان يأتي اليوم الذي يفعل فيه نفس الشيء بكرمة ....
و الآن ..... الآن في تلك اللحظة تحديدا ... كان رعبا قويا بداخله ينهشه من معرفتها بتلك الخطوة التي أقدم عليها منذ شهرين ....
تلك المرأة الهشة التي يمسكها بين ذراعيه الآن ..... كانت تنظر اليه بعينين متألمتين مخيفتين ... مخيفتين للغاية ... على الرغم من ضآلة جسدها بالنسبة له ... جسدها الذي انتهكه للتو ....
لم تكن المرة الأولى .... أحيانا كانت بعض الضغوط تجعل منه يفرغ كل كبته بها و كانت متفهمة بشكلٍ يجعله أسيرها .... لكن هذه المرة مختلفة ... لم يظن أن يؤذيها الى تلك الدرجة ....
اخفض عيناه المتوترتان ألما ... وهو يساعدها في التحرك الى الحمام ... متشبثا بها في كل خطوة ... يشعر بأن ساقيها لا تحملان وزنها الخفيف ....
رفعت كرمة وجهها للماء المتساقط عليه .... تغمض عينيها بقوةٍ عله يزيح بعضا من ألمها ... الا أن ذلك لم يحدث ... بل تساقطت دموعها مع رذاذ الماء ممتزجة به فوق وجهها .... في صمت اولا ... ثم بدأت بعد ذلك في الارتجاف في نحيبٍ صامت ....
كان جسدها ينتفض بألم تحت رذاذ الماء القوى و هي رافعة وجهها اليه مغمضة عينيها بقوة ... تنتحب محاولة كبت شهقاتها .....
و عبارة واحدة تضربها كما يضربها الماء
محمد تزوج ..... محمد تزوج .....
ابصرت عيناه غيرها ..... لامست يداه أخرى .... همس بهمسٍ أجش حميمي ينادي اسما غير اسمها ....
تعالت شهقاتها و كأنها لا تستطيع التنفس .... و كأن رذاذ الماء يغرقها .....
وهي تهمس بهذيان من بين شهقاتها
( لماذا ..... لماذا ..... لماذا ...... لا .... لماذا ..... و أنا .... )
نضبت منها الدموع أخيرا ... بعد ساعةٍ كاملةٍ قضتها تحت الماء ... و نضبت منها الأسئلة حين فشلت في العثور على الجواب .....
فتحت عينيها المتورمتين الميتتين اخيرا .... تنظران الي صورتها المنعكسة في المرآة الصغيرة المواجهة لها ..... يشاركها الصورة وجهه المعذب .... عيناه الناطقتان بألمٍ و خوف لم يتعرفهما منه قبلا ....
خوف يخبرها أنه كذلك لا يعرف الجواب .......
وقفت في الغرفة تنظر الى الحقيبة الصغيرة المتناثرة محتوياتها .... فانحنت بصمت وهدوء تجمعهم بآلية .... بينما اندفع هو من خلفها يقول بصوتٍ أجش قاتم ...
( لن ترحلي لأي مكان يا كرمة ...... ستبقين و سنتعامل مع هذا الوضع شئنا أم أبينا )
لم ترد عليه ... و لم تلتفت له ... بل تابعت جمع حاجياتها بصمت .... فاندفع اليها يجذب ذراعها الهش الناعم اليه بقوةٍ ستترك علاماتٍ زرقاء عليه من المؤكد .... يديرها اليه
و وجهه ينتفض بكلِ انفعالٍ ممكن ... يلهث قليلا .... حتى انها استطاعت استشعار لهيب عضلاته ازاء بشرتها ....
فهمست بصوتٍ ميت
( قبل أن تندفع في غضبك مجددا ...... أريد أن أخبرك أنني سأتقيأ لو اقتربت مني مجددا هذه اللحظة .... )
تسمر مكانه ينظر اليها بوجهٍ باهت مصدوم .... و كيف يلومها !! .... لكنها أوجعته بجملتها للغاية ....
لكنها تعلمه حق المعرفة ..... تعلم أنه حين يضيق به الحال و يفشل في السيطرة عليها يقوم بإخضاعها عاطفيا ... لأنها لا تستسلم الا بهذا الشكل .....
كرمة دائما قوية جامحة متمردة ..... لكنها تستسلم لعاطفته بحنان يسلب روحه .... و أحيانا بصبرٍ متفهم في حالات غضبه و ضغطه .....
لذا هتف أخيرا بجنون و وهو يشعر بالعجز من عدم قدرته على اختراق حواجزها المفاجئة و التي تسبب في رفعها واحدا تلو الآخر بكل غباء و في لحظة تهور ....
( اعلم أنني جرحتك ..... بل طعنتك ... بل كل أنواع الصفات المعقدة التي تقرأينها في تلك الكتب العتيقة ... لكن أنتِ أيضا جرحتني كثيرا ... و بأكثر قسوة .... أحيانا متقصدة و أحيانا لا ...... )
صمت قليلا يلهث بعنف أكبر .... ثم تابع وهو يهزها اليه بكبت
( الحياة معك كسباقٍ فوق الحمم ..... مهما حاولت لا أستطيع اللحاق بكِ , .... لقد تعبت يا كرمة و شعرت في لحظةٍ ما أنني أريد الراحة .... ولو قليلا .... لربما استطعت اللحاق بكِ بعدها .... )
لم ترد .... و لم يظهر على وجهها الشاحب المتورم أي تعبير ... و كأنها لم تسمعه .... الا أنها كانت .... كانت تسمعه بكلٍ نبضٍ صارخ يمزق صدرها بقسوة ....
فتابع هو يهزها مرة أخرى مع كل كلمة عنيفة
( لا يمكنك لومي الآن .......لا يمكنك جذب لجامي بتعنت , بينما أنتِ حللتِ لجامك من بين أصابعي بقوة ... و منذ سنواتٍ طويلة ..... تهربين مني كفرسٍ جامحة و أنا أحاول اللحاق بك ..... )
سكت قليلا ... ثم نظر اليها بعينين ملتهبتين وهو يقول بصوتٍ مستسلم أكثر خفوتا
( مهما قلت ..... لن تستطيعي فهمي , أراهن أنكِ لم تفهمي شيئا مما قلته للتو .... ربما لا أستطيع التحدث أو التشبيه أو الكلام البليغ مثلما تستطيعين أنتِ ..... و من تختلطين بهم يوميا .... لكن باختصار .... أحيانا أشعر و كأنني أحترق ببطء في الحياة معك .... في نظرات الناس لكِ .... في نظراتهم لنا معا جانبا لجانب ..... )
ظلت تنظر اليه بملامح ميتةٍ طويلا ..... ثم همست أخيرا بصوتِ جثةٍ هامدة ... تتكلم في الحلم فقط
( لهذه الدرجة !! .......... وهل نجح زواجك في تهدئة احتراقك !! ........... )
صمت ينظر اليها بعجز ..... فعرفت الجواب ... و ياللغرابة لم يريحها أنه لم يرتاح حتى بعد زواجه .... بل شعرت بألمٍ صدىء في معدتها من ادراكها المفاجىء لمدى الهوة التي يشعر بها بينهما ....
كانت تظنها الوحيدة التي تشعر بها .... و كانت تقوم في صمت و خفاء بمحاولة رتقها دون ملل أو يأس .....
لكن أن يشعر بها هو كذلك ..... فهذا معناه أن الهوة أكبر مما ظنت .... و معناه أن وعد كانت محقة ....
و من سخرية الصدف أنها قد تلقت تلك الصدمة من وعد منذ ساعات قليلة .... لذا فصدمة مماثلة من محمد ذاته جعلتها الآن تقف كمن يقف في حلبة ملاكمة .... يتلقى اللكمات عن اليمين و اليسار دون أن يستطيع الرد او الدفاع ...
لذا قررت التوقف عن المحاولة .... و همست فقط بسؤال ....
( هل ستطلقها ؟؟ ......... )
أخذ نفسا مرتجفا وهو ينظر اليها مصدوما .... و كانت صدمتها أكبر .....
هل يحتاج الأمر للتفكير من قبله ؟!! .....
لذا لم تنتظر ردا و هي تهمس بأنين
( ابتعد من طريقي يا محمد ..... ابتعد .... أنا أيضا قد لا أستطيع السيطرة على غضبي طويلا .... )
لكن و ما أن تحركت حتى جذبها اليه مرة اخرى وهو يهتف بغضب
( أين تتخيلين نفسك ذاهبة و لا مكان لكِ كي تلجأي اليه!! ...حتى أمي لن تعينك على عصيان زوجك .... ابنها ... . )
توقفت كرمة مكانها لحظة واحدة و هي تنظر اليه بشر .... ثم لم تلبث أن صرخت فجأة بهياج متأخر وكأنها قد استفاقت أخيرا من صدمتها تضرب صدره بقوة و عنف
( ابتعد عني ..... أبتعد .... اخرج من هنا ...... لا أطيق النظر في وجهك ..... ابتعد .... ابتعد .... )
أمسك بها محمد وهو يلهث بعذاب هو الآخر .... صارخا بألم
( توقفي عن فعل ذلك بنفسك ...... ما حدث قد حدث .... توقفي عن قتل ما تبقى بيننا و لا يزال حيا .... )
صرخت تضرب وجهه و صدره بعشوائية ....
( أخرج ...... اخرج من هنا ..... لا أريد أن أراك ...... )
استدار محمد بفعل دفعاتها لظهره و هي تطرده خارجا .... لكن ليس قبل أن يلتقط حقيبتها ... و فتحها بعنف مخرجا منها مفتاح الشقة .... ثم رماها ارضا ... و اندفع الي الباب ليستدير صارخا
( لن تخرجي من هنا يا كرمة .... حتى لو اضطررت الى اغلاق الباب بالمفتاح و احتجازك هنا الى أن تتعقلي ... و لو أردت الى افتعال المزيد من الفضائح فتفضلي .... النافذة أمامك .... افتحيها و املأي الدنيا عويلا ... و لنرى من من الحي سيتجرأ على كسر باب شقتي و اخراج زوجتي دون اذن مني )
خرج من الشقة صافقا الباب خلفه بعنف ... ثم لم تلبث أن سمعت صوت اغلاق المفتاح ....
وقفت كرمة في منتصف الشقة وحيدة .... تلهث بعنف و الدموع تغرق وجهها .... جسدها ينبض وجعا متفرقا ... لكن روحها تنزف ....
دارت حول نفسها يمينا و يسارا كثورٍ مذبوح .... لا تعرف كيف تتصرف ....
هل كان ذلك كله كابوس ؟!! ..... يا رب اجعله كابوس حتى و لو استيقظت منه ساقطة من اعلى الطوابق ....
المهم أن تستيقظ .....
توفقت عن دورانها تلهث بتعب .... ثم همست للجدارن الخاوية المتشققة
( محمد تزوج ................ )
سقطت أرضا على ركبتيها ببطء و تعب ...... ثم لم تلبث أن رفعت كفيها تغطي بهما وجهها و هي تصرخ بعنف
( تزووووووووووووووووووج !!!!!!!!!!!!!!! ........ )
.................................................. .................................................. .............................
ارتدت ملابسها بسرعة و عنف ..... و جمعت شعرها في عقدة ضيقة كضيق قلبها ....
ثم اتجهت الى نافذة غرفة الجلوس .... و لم تلبث أن فتحت جانبي النافذة الخشبيتين بعنف أدى الى ضربهما بالحائط ...
لتستدير ملتقطة كرسي المطبخ الخشبي .... لترمية بمهارة من النافذة المفتوحة ... حتى حط واقفا على الأرض حيث أن شقتهما كانت أرضية و مستواها في طول شخص عادي ....
وقفت كرمة على الأريكة ..... ثم جلست على حافة النافذة لتخرج ساقا ثم الأخرى .... ثم وقفت على الكرسي الخشبي لتنزل أرضا بعدها ....
و ما أن عدلت من ثيابها حتى حملت الكرسي و رمته بقوة الى داخل النافذة مجددا و مدت يديها تغلق الجانبين الخشبيين أمام عيون المارة المندهشة ....
لكنها لم تعبأ بعيونهم أو بنظراتهم ..... احتراقها الداخلي منع عنها أي شعور آخر ....
سارت في طريقها المختصر و هي تتنفس بصعوبةٍ و الألم يعمي عينيها ...
طرقت كرمة الباب بقوةٍ الى أن فتحت أخت محمد الباب عابسة ... و ما أن رأت كرمة حتى انتابتها الدهشة قليلا , ثم قالت بحيرة
( مرحبا يا كرمة ..... لقد فزعت من طريقة طرق الباب , تفضلي ... )
تجاوزتها كرمة دون أن ترد التحية و وجهها صلب بعينين تنزفان حمارا و ألما .... و ما أن أبصرت أمه جالسة في نفس جلستها على الأريكة القديمة بجوار النافذة ...
فقالت بصوتٍ لم تتعرف عليه كصوتها أبدا
( أين محمد ؟......... )
عبست والدة محمد وقالت بصرامة
( بسم الله الرحمن الرحيم ...... الناس تطلق السلام أولا , قبل هذا التهجم عديم الاخلاق , ثم مالي أنا بمكان وجود زوجك !! ..... هذا بدلا من أسألك أنا عنه !! ...... )
لم ترد كرمة و هي تنظر حولها في كل مكان .... ثم عادت و التفتت الى والدته قائلة بصوتٍ ميت
( أين محمد ؟؟ ..... لقد ذهبت الى الورشة و لم أجده هناك , أحتاج للتكلم معه و فورا .... )
هتفت أمه بغضب و هي تنهض من مكانها
( طبعا أغضبته كالعادة ..... ياللهي يا حظ ولدي العاثر .. ماذا فعل لكِ المسكين كي تسودين حياته يوما بعد آخر .... واحدة غيرك كانت قبلت يديه على ايوائه لها .... و جعلها سيدة بيت و اسرة ... لكن يا حسرة !! أين هي تلك الأسرة ... و أنت حتى طفل واحد لم تمنحيه للمسكين ...... )
أغمضت كرمة عينيها عدة لحظات ... ثم فتحتهما و هي تنطق من بين أسنانها لكن بلهجة أقرب الى التوسل
( أين محمد ؟؟ ..... أرجوكِ ..... )
صمتت قليلا ... ثم همست بصوتٍ أكثر عذابا و نزيفا
( هل ..... هل تعلمين ..... أن محمد تزوج .... بأخرى ؟؟ )
تسمرت والدته مكانها قليلا .... لكن ارتباك عينيها أعطى كرمة الجواب ... فتأوهت بصمتٍ تحتضر داخليا ... ثم لم تلبث والدته أن قالت بصلابة
( طبعا أعلم ...... ابني لا يخفي عني شيء , ثم وماذا لو تزوج ؟!! .... إنه رجل و يحق له أربع إن أراد ..... لقد تكتم الأمر كي لا يجرح مشاعرك ... لكن أنتِ دائما تنكرين جميله و طيبة قلبه .... و هل يكون جزاءه منكِ بعد ايواءه لكِ أن تنكرين عليه الحصول على طفل واحد يسعد قلبه !!! ..... )
فغرت كرمة شفتيها تتأوه بألمٍ و بصوتٍ معذب .... لكن أمه تابعت بقسوة اكثر
( نعم تزوج ..... و أي زوجة تحب زوجها في مثل وضعك كانت لتخطب له بنفسها كي تراه سعيدا .,.. لا أن تتابع حياتها بمنتهى الأنانية طالبة منه البقاء كما هو عبدا عند قدميها لحين عودتها .... )
لم تتحمل كرمة و هي تشعر بأن الجدران تضيق عليها فصرخت عاليا
( أين محمد الآن ؟!! ....... إنه زوجي و أنا أريد التكلم معه حالا .... أين زوجي ؟؟؟؟؟؟ ....... )
تقدمت أخته من خلفها و هي تصرخ كذلك
( لماذا تصرخين بهذا الشكل ؟؟ .... هل نسيتِ نفسك؟؟ .... اذهبي و ابحثي عن زوجك بعيدا عنا ... )
الا أن والدته قالت بصلابة فجأة
( ابني في بيته الثاني .... عند زوجته ..... تريدين العنوان خذيه ... إنه بعدنا بشارعين , في الxxxx ذي الطوب الأحمر , بالطابق الثالث ..... )
تسمرت كرمة مكانها و هي ترفع يدها المرتجفة الى صدرها المتألم .... و الدموع تنساب من عينيها بصمت ...
مع زوجته ؟!! .... هي زوجته .... لا زوجة غيرها .... هي روح محمد و قلبه و قطعة من جسده ... لقد اثبت لها ذلك منذ ساعات قليلة .... حتى لو آلمها و آذاها لكنه اثبت لها بما لا يقبل الشك أنها زوجته و قطعة منه .... و إنه لن يتركها .... و لن تتركه ...
كان يخبرها بعنفه ... كي يقحم المعلومة في عقلها ... و يحفرها على جسدها ....
لديها آلامٍ جسدية تخبرها بذلك .... كان يحاول أن يخبرها بعنفه .... أنه لن يتركها .....
لذا ليس من حق أي امرأة أخرى أن تتصف بهذه الصفة إطلاقا .... أبدا ... ابدا .....
هي من تتحمل دمغات محمد .... سواء كانت حانية أو عنيفة .... و لقد دفعت ثمن اللقب غاليا ... لذا ليس هناك غيرها
رفعت كرمة يدها و هي تمسح وجهها بقوة ... ثم رفعت ذقنها , لتستدير خارجة من البيت مندفعة
التفتت أخت محمد الى أمها تقول
( لماذا أخبرتها بالعنوان يا أمي ..... لقد أوصانا محمد ألف مرة .... الآن قد تفتعل فضيحة له !! ... )
قالت أمه بهدوء و هي تعود لتجلس مكانها على الأريكة تنظر من النافذة الى جسد كرمة المندفع بقوة بين البشر ...
( دعيها تتهور ...... أكبر خطأ ترتكبه هو أن تتهور مع محمد ..... حينها تكون قد حفرت قبرها بنفسها و نتخلص منها أخيرا ..... )
.................................................. .................................................. ................................
وقفت كرمة مكانها ترتجف ... متسمرة تنظر الي الباب الخشبي ....
طوال الطريق الذي طال لأميالٍ و أميال كانت تتسائل عن شكلها .... صوتها .... رائحتها ....هل تشبه رائحة العنب كرائحة العطر الذي يحبه محمد و لا يعرف اسمه ؟!! ....
هل هي جميلة ؟!! ..... هل هي طيبة و منحته ما يريد و يحتاج ؟؟ .... أم أفعى لئيمة حقودة قذرة عفنة خرجت اليها خصيصا من أحد جحور الأرض كي تسلبها ما تمتلكه ...
ارتجفت شفتي كرمة ببكاء أمسكته بالقوة ..... ثم لم تلبث أن رفعت رأسها و طرقت الباب بقوة ....
.................................................. .................................................. ..........................
كان يتلمس وجهها برقةٍ وهو شارد يتأمل ملامحها الهادئة .... ترنو اليه بين الحين و الآخر مبتسمة برقة و خجل .... ثم تعاود النظر الى قدميه في وعاء الماء ....تربت عليهما برقة و تهدىء من تقرحاتهما المؤلمة ....
كان السؤال يتردد على شفتيها لكنها تحجمه كل مرة ... ثم لم تلبث أن أتخذت قرارها أخيرا و همست
( أنت لست بخير اليوم ...... ماذا بك ؟؟ ...... تكلم معي ..... )
قال بفتور
( لا أريد الكلام .......... و لا أريدك أن تتكلمي ..... فقط أريد أن أنظر اليك و أنت صامتة )
انخفض جفناها و احمر وجهها بخجل .....
بينما نظر الي ملامحها مجددا .... كانت عادية , أقرب الى البساطة ككل شيء فيها ... شكلها .. نشأتها ... تعليمها ... أهلها ... حتى تفكيرها كان بسيط الى درجة السذاجة ....
سذاجتها تحثه على التلاعب بها في كثير من الأوقات .... مفتيا بكل أنواع الفتاوى الحياتية .... و هي تنظر اليه مبهورة سعيدة .... لم يتخيل وجود مثلها من قبل ....
الا أنه اليوم غير قادر على التلاعب .... غير قادر على رؤيتها ..... غير قادر على تخيلها ككرمة كما يفعل في معظم الأحيان .... الخاصة و الأكثر حميمية ...
كانت عيناه حمراوان بلون الدم .... مهدود الجسد و الروح .... غير قادر على الإقتراب من أي امرأة ...أيا كانت ....
باستثناء كرمة .... يمكنه أنه يذهب اليها الآن و يخبرها فعلا لا قولا بمدى ألمه في تلك اللحظة ....
رفع رأسه حين سمع طرقا قويا على الباب .....
و رفعت علياء رأسها كذلك .... ثم قالت حائرة
( من سيأتي الآن ؟!! ...... سأفتح أنا ... )
نهض محمد من مكانه قائلا بصرامة ...
( بل سأفتح أنا ...... كم مرة أخبرتك عن فتح الباب بملابس البيت .... )
نظرت الى جلبابها البيتي القطني الفضفاض ... الا أنها ابتسمت بفخر و أنوثة و خجل ... ثم عمدت الى الدخول الى رواق البيت ....
بينما اتجه محمد الى الباب يفتحه ....
لكنه تسمر مذهولا وهو يرى كرمة واقفة أمامه ..... بهالتها القوية .. الرقيقة في ذات الوقت ... بجمالها رغم تورم شفتيها و شحوب وجهها .... بعينيها المتهمتين المعذبتين القويتين ...
همس أسمها أخيرا بذهول
( كرمة !! ........... )
ألم يحكم غلق الباب عليها ؟!! ..... ام أن يداه لم تطاوعان عقله و تواطأت مع قلبه ؟!! ....
قال أخيرا بصوتٍ مهتز
( كيف عرفتِ المكان ؟!! ........ و كيف خرجتِ ؟؟ ..... )
لم ترد و هي تنظر الي عينيه بكل قوة .... تنتظر ردا للسؤال الذي عجز عن ايجاد جوابه
"لماذا ؟!! .... "
أما عيناه فتضافرت مع تنهيدة يأس منه وهما تجيبان
" لأنه كان الحل الوحيد كي لا أفقد عقلي ...... "
قال محمد أخيرا بخفوت
( تعالي ..... سأعيدك للبيت ... )
لم تتحرك كرمة من مكانها ... بل همست بجمود قاسٍ
( ليس قبل أن أهنىء العروس ..... )
قال محمد بقسوة
( كفى جنونا يا كرمة ..... تعالي لأعيدك للبيت ... )
تقدم خطوة كي يمسك بذراعها الا أنها نفرت منه بقوة و هي تقول بصوتٍ أقسى مشددة على كل حرف
( لن أغادر قبل أن أتعرف على عروسك ...... )
بدأت لهجة محمد تحتد بتوتر
( كلمة واحدة و لن أعيدها ..... هيا الي بيتنا .... )
الا أن حركة من خلفه جعلتها تنبذ النظر اليه تماما و تتجاوزه بعينيها .... لتتسعان بقوة
و هي ترى فتاة شابة .... تصغرها بأعوام قليلة على ما يبدو .... تقف متوترة في نهاية الغرفة ... متشبثة بجدار الرواق و هي تستمع الي حديثهما
فتاة ترتدي جلباب بيتي قطني .... و شعرها مجموع بذيل حصان طويل ناعم لدرجة التسطح ....
وجهها باهت لا يعبر عن شيء ... لا يميزها شيء .... تحاول جاهدة ان تجد ما يميزها علها تشعر بالمنافسة ... علها تمنحه بعض العذر ... الا انها لم تجد !!! ...
ضربت ذراع محمد فجأة لتتجاوزه مقتحمة البيت .... حتى وصلت الى خطوةٍ من تلك الفتاة و التي ارتبكت قليلا لمواجهتها ... و كان هذا هو الإشارة الوحيدة التي حركت وجهها البسيط التكاوين و القليل الإنفعال ...
زفرت كرمة نفسا مرتجفا و هي تقف أمامها تتفحصها بصمت ... بينما صدرها يتمزق .... يتمزق .... بشدة ....
ثم همست بصوتٍ ميت
( أنا ...... زوجته ...... هل تعلمين أنه متزوج ؟؟ ...... )
ارتبكت الفتاة قليلا ... لكنها رفعت وجهها لتقول بخفوت
( أعلم ........ و هذا حقه ....... )
انتهت سيطرتها ..... لقد نطقت الكلمة الخاطئة في الوقت الخاطىء .... لذا لم تدري كرمة بنفسها الا و هي تصرخ بهياج هاجمه عليها تجذبها من شعرها بكل أصابعها التي تحولت الى مخالب صقر ...
و كانت من القوة بحيث منحتها الصدمة المتأخرة صلابة لم تعهدها في نفسها من قبل و هي تسقطها ارضا و تسقط معها دون أن تتخلى عن شعرها بينما بدأت الفتاة في الصراخ مستنجدة بمحمد ....
الا أن كرمة كانت في عالم غير العالم و هي تستقر فوقها صارخة تهز رأسها
( أنا هي زوجته ..... روحه ..... كيانه .... أنتِ لا شيء .... انتِ مجرد نكرة ... قذرة ... مجرمة .... )
اندفع محمد بعد ان أفاق من ذهوله الى كرمة وهو يصرخ
( توقفي يا مجنونة ستقتليها ..... ابتعدي عنها .... )
أخذ يجذبها من ذراعيها كي يرفعها ...الا أنه كلما جذبها كانت يداها تجذبان شعر علياء معها فتصرخ علياء أعلى ...
حينها جثا على ركبتيه ممسكا بقبضتي كرمة يفكك أصابعها عن شعر علياء بالقوة أدت الى قرقعة مفاصلها ...
لكن صراخها و صدمتها المتأخرة جعلاها لا تشعر بأي ألم ... و هي تتابع أنها وهو شيء واحد و أنها ستقتل كل من تقترب منه ....
تجمع سكان الxxxx عند باب الشقة .... و تعالت الصيحات الدهشة ...
الى أن نجح محمد أخيرا من تفكيك أصابعها ... و حملها لتقف بالقوة وهو يصرخ بعنف و يهزها كي تفيق
( توقفي عن جنونك ...... توقفي .... )
كانت تلهث بعنف و التمزق في صدرها يزداد اتساعا .... فانحنت في لحظةٍ أخرى و أمسكت بوعاء الغسيل البلاستيكي الواسع الممتلى بالماء و الذي كان يغسل فيه قدميه للتو ....
ثم دون تفكير سكبت نصفه فوق علياء الملقاة أرضا .. ثم التفتت اليه و هي تقذفه بالنصف الآخر من الماء ... ثم ترميه بالوعاء البلاستيك في وجهه و هي تصرخ بجنون
( أنت زوجي أنااااااااااااااااااا )
نظر محمد بذهول الى الوعاء الملقى أرضا و الي صدره المتشبع ماءا .... بينما تعالت الشهقات أعلى من عند الباب المفتوح ....
و دون تفكير رفع يده ليصفعها بكل قوةٍ لم يصفعها بها من قبل لدرجة أن ألقتها أرضا .....
ساد صمت مهيب فجأة .... بينما ارتكزت كرمة على كفيها أرضا و هي تلهث تعبا .... و كأنما استفاقت فجأة من نوبة الجنون التي أصابتها ....
فرفعت رأسها اليه بجهد ... تتنفس بصعوبة .و شفتها السفلية مكدومة تنزف .. ثم همست أخيرا بصوتٍ ميت
( طلقني يا محمد ....... )
.................................................. .................................................. ............................
أغلق النافذة الخشبية بقوة .... ليحكم غلقها بعد ذلك بقفل حديدي كبير ... و كانت النافذة الوحيدة القابلة للخروج منها على الطريق ....
ثم التفت اليها بوجهٍ ميت الملامح .... ينظر اليها جالسة على كرسي قديم ... تنظر أمامها بدون حياة و كأنما هي جثة حديثة الموت ... وجهها فاقد للونه ... و صدرها ذاهب الأنفاس ... و يداها مستريحتان بضعف على ذراعا المقعد ...
لو ترك نفسه لهواها الآن لاندفع اليها يشبعها تقبيلا ... يضمها الى صدره و يخبرها كم هو آسف ....
و أنه لم يتقصد أن يقتلها ... لم يكن ينتقم منها .... أبدا لم يكن يريد أن يؤذيها بتلك الدرجة القاتلة ....
لم يفعل ذلك الا لأنه شعر في لحظة أنه إما أن يكون على وشك الانهيار .... او الإكتئاب ....
الفشل يحاوطه من كل اتجاه ... و اللحاق بها باستمرار يتعبه لدرجة الإعياء ... و تسربها من بين يديه يشعله نارا سوداء ....
تكلم أخيرا بخفوت
( لن تخرجي من هذا البيت ..... و لا طلاق الا على جثتي يا كرمة ... )
حين لم ترد ... اقترب منها ببطء ... حتى جثا أمامها ممسكا بيديها فوق ذراعي المقعد ثم قال بخفوت اجش
( أنتِ لستِ زوجتي فحسب يا كرمة ..... أنتِ ابنتي .... أنا من وجدتك ... كبرتِ تحت سقف بيتي .. أمام عيني .... علوتِ مكانة أمامي يوما بعد يوم ..... شعرت بالفخر بكِ و أنا أراكِ تكبرين و يحسدني الناس عليكِ .... )
تحركت حدقتاها الى وجهه بصمت دون أن تتحرك عضلة في وجهها ... ثم همست أخيرا
( لو بقيت هنا الليلة فأقسم أن أقتل نفسي ......... )
ابتسم أخيرا بعذاب ثم قال
( لن تفعلي ...... لم تكوني أبدا جبانة ..... لكن لن أبيت هنا , سأمنحك الفرصة كي تهدأي .... سأبيت عند أمي )
سكت قليلا ثم تابع بعد أن أخفض عينيه
( و ليس عندها ............. )
تحركت حدقتاها اليه بشراسة ... فسكت .... ثم استقام واقفا ... ينظر اليها بعينين مقتولتين وهو يبتعد .... لكن قبل أن يخرج التفت اليها قائلا بخفوت
( لا عمل بعد اليوم يا كرمة ...... أنا زوجك و لي حق الطاعة عليكِ , لم أعد أحتمله و لن يجبرني شيء على تحمل المزيد ..... لقد تفوقت و نجحت و فخرت بكِ ...لم اعارض دراستك يوما .... أما عملك فهو لم يزيدنا الا ابتعادا ...)
نظرت اليه بلا تعبير .... و حين طالت بينهما النظرات أخفض عينيه غير قادر على مقابلة عينيها و عذابهما أكثر ...
فخرج و أغلق الباب خلفه .... ثم لم تلبث أن سمعت صوت المفتاح بالباب ليحكم غلقه ....
.................................................. .................................................. ................................
كانت الدموع ترافق تحركتها بغرفة والدها ..... تساعده و تحضر طعامه و تطعمه ... تساعده على تغيير ثيابه ... و تغيير ملائات السرير ...
كل حركاتها كانت مترافقة بالدموع ...
دموع فقد الصديقة الوحيدة لها في هذا العالم ؟؟
أم دموع الحقيقة المفجعة التي عرت كلا منهما أمام الأخرى ؟؟ ......
لقد اتفقتا سابقا اتفاقا غير معلن على الا يتدخلا في أدق التفاصيل و أكثر مساسا بالروح ... لكن ما أن نقضا اتفاقهما حتى اكتشفتا أن كلا منهما تمسك خنجر الحقيقة خلف ظهرها منتظرة الفرصة كي تطعن به الأخرى ....
كانت تظن أنها انسانة ذات كبرياء لن يهزمه أبدا إهانات من علمت لديهن ....
أو من تعامل معها كعاملة .... أو كفتاة دار رعاية..... أو كابنة عبد الحميد ....
مهما بلغت بها الإهانات و سوء المعاملة كانت تستطيل بعنقها أكثر و ترفع رأسها .... لأنها فوق اهاناتهم ....
أما الآن .... و ما أن بدأت تتذوق طعم التنازل حتى اكتشفت أنه سهل للغاية ....
وقفت أمام المرآة تنظر الي عينيها المتورمتين ...
تحاكم نفسها ...... نعم تنازلت و باعت نفسها مع أول فرصة .... و كيف لها أن ترفض ؟!!
للحظة شعرت بالكره لسيف ....حين يكون بعيدا عنها .... تشعر بشيء من الكره له .... لقد نسج حولها شبكة حريرية من فخ الإغراء ....
بأشياءٍ كانت تراها من بعيد و لم تلمسها يوما ....
بعاطفةٍ كانت تسمع عنها و لم تجربها مسبقا .....
براحةٍ لم تعرف مثلها بعد سنوات التعب و الشقاء ....
بظهرٍ قوي تلجأ اليه كلما وقعت في مأزق .....
بهاتف ..... هاتف تهاتفه به كلما انتابها فجأة هاجس الموت وحيدة ....
هل اعترفت لنفسها من قبل أن هذا كان احد اسبابها في الذهاب اليه عارضة نفسها عليه كزوجة !! ...
منذ أن رأت خوفه عليها .... و شيء غريب منه تسرب اليها ....
و كأنها قد خشيت الموت فجأة ..... على الأقل وحيدة .....
استدارت الى والدها تنظر اليه .... هل يفكر مثلها ؟؟ ..... هل يخشى الموت وحيدا ؟!! ....
ابتلعت غصة بحلقها .... ثم تقدمت اليه وهي تراه يحاول التقلب من رقدته فانحنت تساعده ...
و فجأة لف ذراعيه حولها فتعثرت و سقطت فوق صدره لتسمعه يقول بين اليقظة و النوم
( صفا ......... )
صرخت وعد بذعر و هي تنتفض من بين ذراعيه
( أنا وعد ...... أنا وعد يا أبي ..... صفا ماتت .... ماتتت ..... أنا وعد ... )
كانت تتراجع بذعر الى أن ارتطمت بالحائط فوقفت تلتقط أنفاسها و هي ترتجف مغمضة عينيها بقوة ... ...
الا أنها سمعت صوته يهمس بتثاقل
( تعالي بجواري .......... )
فتحت عينيها منتفضة بقساوة و هي تهتف رفضا
( لا ............. )
أغمض عينيه المغضنتين عدة لحظات , ثم قال مجددا بصوتٍ متعثر تحد من وضوحه شفاة ملتوية مريضة
( و.....ع.... د ..... )
سكنت مكانها فجأة و هي تنظر الى وجهه الذي بدا نائما .... فهمست بضعف تتأكد
( أبي ؟!! ............ )
لم يرد على الفور ..... لكنه تكلم اخيرا بصعوبة
( تعالي بجواري ...... وعد )
فغرت شفتيها قليلا .... لكنها اقتربت منه حيث وجدت يده مرفوعة قليلا و كأنه يريدها ان تضع يدها بها ...
فأمسكت كفه بكلتا يديها ..... وهي تنحنى اليه هامسة
( أنا هنا يا أبي .......... )
قال بتعثر مجددا
( ابقي بجواري يا وعد ......... لا ترحلي )
عقدت حاجبيها بخوف غير مسبب ... ثم همست باختناق
( اتخاف البقاء وحيدا ؟؟ .......... )
لم تتوقع أن يرد ببساطة ( نعم ....... ابقي هنا )
ابتلعت ريقها .... ثم لم تلبث أن سحبت كرسيا قريبا منها و جلست عليه دون ان تتخلى عن كفه هامسة
( نم يا أبي و اطمئن ....... لن أغادر حتى تنام )
صمت بعدها .... ثم تعالى صوت شخير خافت ينبئها أنه نام أخيرا .... الا أنها مع ذلك لم تتركه لفترة طويلة و هي تتأمله بجمود .... و ما أن تخدرت يدها حتى تركت يده ببطء تضعها بجواره ....
ثم نهضت من مكانها تخرج من الغرفة ....
أمسكت بهاتفها تنظر اليه مترددة ... ثم لم تلبث أن طلبت رقم سيف و قلبها يرتجف
و لم تنتظر طويلا و هو يرد عليها بصوته العميق
( اشتقت اليكِ ............. )
ارتجفت ملامحها قليلا .... ثم همست
( لو كنت اشتقت الي ...... لكنت هاتفتني من قبل خلال اليوم )
رد عليها بصوتٍ أكثر عمقا و ثقة
( لو كنت قد هاتفتك خلال اليوم لتركت عملي و أتيت اليكِ و انتِ لا تزالين معي على الهاتف .... )
ابتلعت ريقها و هي تمسك الهاتف بكلتا يديها .... لكنها همست بتهور
( لماذا ؟؟ ............. )
قال ببساطة و صوته العميق يزداد عمقه حتى كاد أن يغرقها
( كي اشبع شوقي لكِ ......... )
ارتجفت أكثر و أغمضت عينيها هامسة
( كيف ؟؟ ............ )
للحظة شعرت أنها فاجأته ...... و وصلتها صدمته عبر الهاتف , يتبعها نفسا حادا ... ثم قال بصوتٍ أجش خافت
( أتريدين معرفة الجواب كلاميا ؟؟ ....... )
صمتت لحظة و قلبها ينبض بقوة ..... بقوة ٍ بدتت الساعات الطويلة المظلمة التي قضتها في خدمة والدها بهذا البيت الخاوي الصامت ثم همست ببراءة
( نعم ............ )
سمعت ضحكة خافتة قليلا ... خشنة للغاية .... ثم لم تلبث أن سمعت صوته يهمس بكلامٍ لم تسمعه بحياتها أبدا حتى شهقت في نصف حديثه الهامس و هي تهتف بقوة
( كفى ....... لا اريد سماع المزيد )
ضحك بدرجة أكبر .... ثم قال بهدوء
( و أنا لا أريدك أن تخجلي مني ...... لا أريد بيني و بينك أي حواجز )
ارتبكت أكثر .... و تراخت ساقاها فجلست على أقرب كرسي و هي تشعر بالإعياء من قوة تلك المشاعر ...
و حين وجدها صامتة قال بقلق
( وعد ...... هل لازلتِ معي ؟!)
همست همسة متحشرجة .... كان مفادها ( نعم ..... )
عاد ليتنهد قائلا بصوتٍ باسم عميق
( هل رأيتِ أن الشرح الكلامي لن يجدي ......... لذلك لم أهاتفك طوال اليوم )
ارتبكت قليلا ... الا أنها همست بعتاب أنثوي جديد عليها ..... جديد عليها تماما , فهي لم تظن يوما أنها تمتلك خيار الأنوثة ... و أيضا العتاب ؟!!! ....
( ها أنت تهاتفني ...... و لم يحدث شيء .... )
صمت قليلا .... فخافت أن تكون قد أخطأت و تمادت .... لكنه قال بصوتٍ أجش خافت
( افتحي الباب .......... )
شهقت و هي تنتفض واقفة في الظلام .... فنظرت الى الشراع الزجاجي المضيء في ظلام الصالة ... لتجد منه الظل الضخم المألوف يقف مرتاحا متكئا على الجدار ....
للحظة شعرت بالخوف من شكل الظل رغم معرفتها بهويته .... فهمست ترتجف
( سيف ؟!! ......... )
رد عليها بخفوت
( انه أنا ...... أفتحي قبل أن أجد حملة انقاذ تصعد الي متمثلة في حبيبي الأستاذ صلاح )
جرت الى الباب تفتحه و الهاتف لا يزال على أذنها .... نظرا الى بعضهما طويلا
هي في حالة رهبة .... وهو مبتسما بتراخي ... ثم لم يلبث أن أزاح الهاتف من على أذنه .... ليدخل بثقة بينما هي تتراجع خطوة ... لكنه لم يسمح لها بأكثر وهو يغلق الباب بيد ... بينما يجذب خصرها اليه بالأخرى ...
مسكتا شهقتها المنفعلة .......
أغمضت وعد عينيها تسكن الى أشواقه .... بينما هو لا يعرف السكن أو الهدوء ...
و حين شعرت به يتمادى .... أبعدت وجهها قليلا و هي تلهث هامسة بغباء
( الهاتف لا يزال مفتوح ....... )
أعادها الى أحضانه وهو يقول مطمئنا
( لا تقلقي ...... لقد أغلقت الخط كي لا أسمعنا و نحن نبث أشواقنا لبعضنا .... )
همست بحرج وهي تتلوى منه قليلا ...
( لم اقصد ......... سيف .... سيف ... والدي بالداخل ... )
تجمد جسده قليلا ... و رفع وجهه عنها ... الا أنه لم يتركها تماما ... لكنها حين رفعت وجهها الى وجه سيف صدمها قناع القسوة المعتاد يعود اليه بسماع اسم والدها .... فارتجفت ... لكنه قال بهدوء
( كيف حاله ؟؟ .......... )
ابتلعت ريقها و هي تقول بخفوت
( كما هو ...... ما بين يقظةٍ و نوم طويل .... يحتاج الى رعاية طويلة )
مد يده يداعب شعرها ... ثم قال بقلق
( هل أرهقت اليوم ؟؟ ...... الممرض سيصل بالغد )
تنهدت و هي تود لو تخبره بأن ساعات طويلة من الخياطة مترافقة مع البكاء كانت أشد أرهاقا لها .... لكنها امتنعت خشية أن يتهور على الماكينة المسكينة التي تعمل بربع طاقة .....
فهمست ممتنة
( لا أعرف كيف أشكرك يا سيف ..... حقا ..... أنا ..... )
منعها من المتابعة وهو يقول مبتسما بخفوت
( لا تعرفين حقا ؟!! ........... )
ابتسمت بخجل و هي تراه يفتح ذراعيه .... فاقتربت منه ببطء ترتفع على اطراف قدميها و هي تحيط عنقه بذراعيها تمنحه رقةٍ مهلكة .....
تلك النحيفة الصغيرة تتلاعب به .... باتت تكتشف مواقع قوتها بخجل و تستغلها بخبثٍ فطري ,.... لكنه لم يكن ليعترض و هي تمنحه مثل تلك السعادة أبدا ......
ابتعد عنها بالقوة وهو يقول بصوتٍ منفعل خشن خافت
( هيا بنا .......... )
أجفلت قليلا و هي ترمش بعينيها ناظرة اليه بتوتر ثم همست
( الى أين ؟!! ........ )
قال بنبرةٍ مفروغ منها
( الى بيتنا .............. )
ترددت قليلا بطريقة أثارت حفيظته .... ثم نظرت الى باب غرفة والدها ... و أعادت اليه عينين منخفضتين و هي تهمس
( اذهب أنت يا سيف ...... لا يمكنني أن أترك والدي اليوم بمفرده .... )
غرز أصابعه في خصرها وهو يقول بصرامة
( لن يحدث ..... اخبرتك من قبل أنكِ طالما تقدمتِ طريق بقدميك ِ , فلن يكون من حقك وقتها التراجع متى يحلو لكِ )
ارتجفت قليلا من قسوته .... لكنها رفعت اليه عينين مجهدتين و هي تهمس برجاء
( اليوم حين أتيت اليه صباحا كانت حالته سيئة جدا يا سيف .... فقط انتظر للغد و لن أتراجع عن قراري مجددا )
نظر اليها بغضب ... فهمست مجددا برجاء
( صدقني ......... )
قال أخيرا بصرامة
( اذن سأبيت هنا ........... )
هزت رأسها نفيا بقوة و هي تقول مسرعة
( لن ينفع هذا يا سيف إطلاقا ........... أرجوك كيف ستخرج صباحا , هذا وضع أكثر سوءا )
رفع يديه الى كتفيها يجذبها اليه وهو يقول من بين اسنانه
( اسمعيني جيدا .........لن يكون الوضع أكثر سوءا مما فعلتهِ أنتِ ... لذا المظهر العام جانبا فقد أهملناه منذ زمن أنا و انتِ ..... النهاية أنني لن أتركك تبيتين معه وحدك ... )
ترددت قليلا .... الحقيقة أنها لا تريده أن يغادر , تكاد تنهار من تخيل أن تبيت وحدها مجددا بعد أن اعتادت النوم على صدره .....
تنهدت بقوة .... ثم همست أخيرا باستسلام
( حسنا ...... ستنام أنت بسريري ...... و أنا سأنام على الأريكة في الخارج )
صمت تماما رافعا أحدى حاجبيه بتحدي ..... فاحمر وجهها خجلا و هي تطرق برأسها ثم لم تلبث أن همست بخفوت
( ابقى هنا ريثما أعد غرفتي ...... و أحضر لك العشاء كما فعلت معي ... )
ثم تركته سريعا و هي تجري الى غرفتها بساقين ترتجفان .... بينما كان هو ينظر اليها مقطبا متسائلا الى متى سيتحمل ذلك التعذيب الذي يجبر نفسه عليه ....
دخلت وعد بسرعة الى غرفتها ... و أخذت ترفع أطنان القماش عن الأرض .... تخفيها بداخل دولابها القديم ثم تغلقه بأعجوبة .....
ثم جرت لتلتقط ملاءة قديمة ... طبقتها و القتها فوق الماكينة و كأنها تعلمه بأنها توقفت عن الخياطة .....
اتجهت بهدوء الى الباب ..... الا أنها لم تلبث أن شهقت حين تذكرت قماش فستان الزفاف الموضوع أرضا ... فجرت اليه كي تخفيه .... تحت السرير ....
و بعد أن استقامت ... شعرت أن الأرض تميد بها قليلا فترنحت من المجهود المبالغ فيه نفسيا و جسديا ....
لكنها استطاعت أن تهدىء الدوار بالثبات عدة لحظات ثم خرجت بهدوء الى سيف ..... زوجها ....
.................................................. .................................................. ............................
وقف ينظر اليه وهو نائم !! .....
علامات السن المتقدم تظهر عليه كل مرة يراه فيها أكثر من سابقتها ....
كتف سيف ذراعيه يستند الى الجدار من خلفه .... وهو يتأمله فاقد القدرة على شيء ... يحتاج الى أبسط أنواع المساعدة ....
كيف يمكن لانسان يحمل ذرة شعور ألا يكون متعاطفا معه .... الا أنه هو بالفعل كان لا يشعر بذرة تعاطف ....
رغما عنه تذكر أمه ..... أمه التي كانت في جمال البدر ذات يوم ....
و كان عشق والده لها يفوق الحدود ...... و قد بدأ هو طفولته على معرفة أن المحبة مفقودة بين والده وخاله ... الا أنه لم يكن ليعبأ بهذا الأمر كثيرا ...
حتى بعد أن استمع الى بكاء امه طويلا من ضياع حقها في ميراثها من ابيها بعد أن استولى عليه عبد الحميد بخطةٍ دنيئة ....
كثيرا ما سمع اتهاماتها لوالده بانه متخاذل و انه لم يأخذ لها حقها كأي رجل في مكانه .... و حينها كان والده يحتد عليها قليلا .... وذلك كان السبب الوحيد في العالم و الذي يجعله يحتد عليها أو يغضبها ....
بينما كبر سيف يوما بعد يوم و علم أن الميراث هو أهون ما قد يستولى عليه عبد الحميد .... فنواياه بعدها كانت أفظع ... و هي الإستيلاء على أمه ذاتها ....
بكل فسق و مجون .... كان قد قرر الانصياع الى شريكه بالعمل في سبيل تطليقها من والده ... حين رآها للمرة الأولى ....
أقسم أن تكون له .... دون تفكير بشرع او دين ... او انها ام لطفلين .... فمن يراها يظنها لا تزال مراهقة تسلب الألباب بجمالها .....
جمالها لم يرث مدى روعته أيا منهم .... لا هو و لا ورد و لا حتى مهرة .....
انه يتذكر شبابها جيدا ..... و يتذكر روعتها .... و كم كره هذا الجمال بعدها يوما بعد يوم حين تحول الى نقمة عليهم ...
لم يترك عبد الحميد و شريكه .... فعلا واحدا سيئا الا و فعلاه ضد والده ... لقد حولا حياتهم البسيطة الى جحيم في ظرف عدة اشهر .....
حتى فقد والده عمله في قضية ملفقة بفعلهما .... و قام صاحب الxxxx بطردهم من شقتهم ذات الإيجار بعد أن أغراه هذا الشريك بشرائها و تغيير العقد بتاريخ قديم لتصبح ملكه .....
حينها استسلمت منيرة بعد عذاب ..... و طلبت الطلاق .....
عدة اشهر أخرى تمكنت بكل الوسائل في النجاح أخيرا باجباره على تطليقها .....
و بعد ثلاث أشهر باليوم الواحد .... تزوجت الحقير القذر ......
أغمض سيف عينيه بألم وهو يتذكر أنه اقتحم بيتهما .....بيت الحيوان و..... أمه ...
ليراهما معا في منظر أقرب الى الإغتصاب مترافقا مع الضرب و الذل و الإهانة .... منظر جعله يتحول الى مجرم فيما بعد ......
( ماذا تفعل هنا ؟!! .......... )
رفع وجهه القاتم في ظلال الغرفة لينظر الى وجه وعد البريء .... تنظر اليه برهبة و قلق ....
لكنه أجاب وهو يحيط خصرها بذراعه يجذبها اليه هامسا بصوتٍ لا تعبير به
( كنت أطمئن عليه .......... )
ابتسمت باهتزاز .... ثم همست بخفوت
( حسنا ...... هيا لتتناول عشائك )
نظر اليها طويلا بنظرةٍ لم تستطع قراءة معناها ..... ثم همس أخيرا بصوتٍ أجش عمييييييييق
( لا أريد أي عشاء ياوعد ........ فقط اريد أن أضمك الى صدري )
لم ترد عليه .... بل أطرقت بوجهها و تزايدت نبضات قلبها بعنف
.................................................. .................................................. ................................
بعد فترة جنون مشتعل .... رفع سيف رأسه عنها بخوف ليجدها تسعل بشدة و هي تنظر اليه بعينين متسعتين ... تحاول التكلم .... الى أن نطقت أخيرا بصوت مختنق وة صدرها يعلو و ينخفض بسرعة وعنف
( سيف ...... سيف ...... لا أستطيع التنفس ..... لا تتركني ..... لا أستطيع التنفس ..... )
انتفض جالسا وهو يهتف بعنف
( وعد ....... وعد ..... ماذا بكِ ...... أجيبيني .... وعد ..... )
الا أنها لم تستطع الكلام و هي تشهق عدة مرات محاولة التقاط أنفاسها .... دون جدوى .... حينها نهض سيف من مكانه مرعوبا ليضع قميصه عليه بعشوائية ..... ثم انحنى اليها يتلتقطها بين ذراعيه وهي تزرق و تشحب .... و تشهق بصعوبة ......
.................................................. .................................................. .............................
نظر حاتم بوحشية الى كامل الذي يقف منفعلا أمامه .... متابعا دون فرصة لالتقاط أنفاسه
( لم يحدث لي هذا من قبل سيد حاتم !! ..... أنا أضرب على الملأ و يتقطع قميصي ... و أتهم امام الناس و كأنني كنت أتحرش بمديرتي !!! .... طوال ليلة أمس و أنا ادور و أنفعل غيرمصدق مما تعرضت له من إهانة ... أنا شخص محترم بشهادة الجميع و لم يسبق لي أن تجاوزت حدودي مع أي سيدة ... فكيف الحال مع السيدة كرمة مديرتي !!! )
كان صدره يغلي كأتون مشتعل ... لا يصدق ما سمعه للتو .... قبضتاه تتحرقان لخنق ذلك الحيوان الهمجي و لكمه و تهشيم أسنانه ...
حالة مماثلة من الهمجية تنتابه ..... حالة غريبة عليه .... لم يعرفها مع زوجته السابقة و لا مع أي امرأة ....
الرغبة في القتل ..... الخوف .... الخوف عليها ....
في لحظةٍ واحدة انتابته كل أنواع الصور المفزعة مما يمكن أن تكون كرمة قد تعرضت له على يد ذلك الحيوان الهمجي خلف بابهما المغلق عليهما .......
نظر الي كامل حين تكلم متابعا بحنق
( اعفيني سيد حاتم من متابعة العمل مع السيدة كرمة ...... لأنني لن أسكت المرة المقبلة )
أخذ نفسا حادا متشنجا .... ثم قال أخيرا بصوتٍ مكتوم
( لا بأس يا كامل .... لن تعمل معها مجددا و سأعوضك عما حدث ..... تفضل أنت و تقبل اعتذاري بشكل شخصي )
احمر وجه كامل قليلا ... ثم أومأ برأسه قائلا بخفوت
( شكرا سيد حاتم .... و أعتذر إن كنت قد خذلتك ...... )
بعد خروج كامل من مكتبه اندفع ينهض من مكانه منفعلا وهو يفك ربطة عنقه ليلقيها على ظهر مقعده ... ثم تبعتها سترته ... ليتجه الى النافذة ينظر منها عل منظر البحر من البعيد يساعد في تهدئة أعصابه ....
كرمة .....
فقط اسمها يريح نفسه حين ينطقه عدة مرات متتالية ... كنوع من التمرين الروحي على الصبر لنفسه المشتاقة
اسم من أربعة أحرف ....
كمال - رقتك - مزقني – تبتله
اي جحيم هذا الذي سمح لنفسه ان ينساق اليه دون رادع .... وهو يقنع نفسه يوما بعد يوم انه لا يزال في المنطقة الآمنة .... بينما كانت قدماه تقودانه دون هوادة الى أعمق أعماق بحور عينيها ...
لجمالها الدافىء .... لكبريائها و أناقة روحها .... حتى شهيتها المفتوحة زادته اشتهاءا لها ....
امرأة متزوجة !! ....
ضحك بسخريةٍ سوداء ... ثم لم يلبث أن ضرب الحائط بقبضته بقوة عنيفة وهو يهمس بغيظ
( راااائع يا حاتم ..... رائع , لقد تفوقت على نفسك بعشق امرأة متزوجة !! ...)
رنين هاتفه قاطع هدير نفسه الهائجة قلقا عليها ... فالتقطه بتثاقل , لكن و ما أن أبصر الاسم المتصل حتى رفع عينيه متأففا ... لكنه أخذ نفسا عميقا ليرد بعدها بكبت
( نعم ..... مرحبا يا داليا .... نعم ... بخير ... .. ماذا ؟!! .... لا ... لست موافقا طبعا انسي الأمر )
صمت يستمع قليلا ... ثم تعالى صوته فجأة بغضب وهو يقول
( لن أقبل بتلك العطلة أبدا .... اسمعي يا داليا أنتِ منحتني حضانة محمد في سبيل زواجك , و ليس من حقك الآن استقطابه كل حين في اجازة أو عطلة يأتي بعدها منقلبا علي بسبب أفعال زوجك الرخيصة ... )
تعالى صوت أنثوي من الهاتف و هي تهتف حانقة
( انه ابني يا حاتم .... ليس من حقك حرماني منه لأنك أخذت حضانته ... لا أطلب سوى أن أقضي معه بعض الوقت ... هذا أبسط حقوقي يا حاتم .... )
صرخ بغضب وهو يلكم الحائط مجددا
( ليس من حقك شيء .... و ليس من حق زوجك أستقطاع جزءا من الوقت الذي من المفترض أن اقضيه مع ابني كي يمنحه مسرحية رديئة جديدة ... )
صرخت به هي الأخرى
( ليس هو من يريده .... أنا من أريد أن أقضي معه عطلة طويلة , أنا أشتاق اليه .... كم أنت طفل ,!! ... تحرمني من ابني لأنك تغار من زوجي !!!! .... )
هتف بغضب وذهول
( أنا أغار من زوجك !!! ..... لا يا سيدة داليا.. أنا لا اغار منه , أنا فقط لا أفكر سوى بمصلحة ابني و كلما قضى معكما وقتا أطول كلما زاده ذلك عيوبا و مساوىء أتحملها أنا دون غيري .... )
هتفت به بألم
( لماذا تصرخ بي ؟!! ...... )
صرخ بجنون وهو يضرب الحائط مرة أخرى بقوة
( أنا لا أصرخ ........)
سمع فجأة صوت بكاء ناعم من الجهة المقابلة ... فانتابه وجوم من الوضع , و تسائل بالفعل عما أصابه !! ... لكنه يعلم .... يعلم جيدا ما أصابه ...
تنهد بقوة وهو يمسح شعر رأسه ... ثم لم يلبث أن قال بهدوء
( لا بأس يا داليا .... لا تبكي .... لم أقصد أن أصرخ .... أنا فقط أريدك أن تتفهمي , أن مصلحة محمد تفوق عندي أي اعتبار آخر .... )
سمع صوت نحيبها الرقيق ... ثم قالت باختناق
( و تظن أنني لا أهتم بمصلحته !! ..... الا يكفي أنني تركته لك !! .... )
تنهد بقوة ثم قال أخيرا بجفاء
( حسنا كفي عن البكاء ..... أنا لا أطيقه في حل الأمور , .... اسمعي خذي محمد للعطلة .... لكن قسما بالله يا داليا إن حدث ما يغضبني منه ككل مرةٍ من قولٍ أو فعل ... فسأمنعه عن تلك العطلات الطويلة و أكتفي بزيارته لكِ و التي قررتِها من قبل بنفسك ..... )
أغلق الهاتف بعنف بعدما انتهى .... هذا ما كان ينقصه الآن !! ... أن تهاتفه داليا بكل نرجسيتها ...و دلالها ...
تنهد حاتم مرة أخرى وهو يستند بيده الى زجاج النافذة ... يفتح الزر الأول من قميصه هامسا بصوتٍ مكبوت
( أين أنتِ يا كرمة ؟...... ماذا فعل بكِ لتتأخري كل هذا الوقت !! .... )
احساس قذر أن يعجز الإنسان حتى عن الاتصال بامرأة يعرف أنها تتأذى من همجي ....
له كل الحقوق .... و ليس لك أي حق ... امرأة حدث أن عشقتها ! ....
.................................................. .................................................. .............................
أمسكت بمفك من مفكاته في صندوق عدته الخاص الذي يحتفظ به في المنزل ... و ثابرت على خلع مسامير حاجز القفل بصعوبة ... الى أن تمكنت من خلعه أخيرا ... فرمته أرضا ...
ثم فتحت النافذة لتسقط الكرسي الخشبي ... و تقف على الأريكة جالسة على حافة النافذة و منها نزلت على الكرسي .. ثم الأرض !! ....
وصلت كرمة الى عملها .... تسير بضعف ... و كأنها لا ترى أمامها ... تضع نظارة سوداء على عينيها المتورمتين ... تعد اللحظات في سبيل الوصول الى مكتبها الخاص الآمن ...
و أخيرا دخلته لتجلس ببطء .... و هي تتحسس سطحه بكلتا كفيها بشرود دون أن تنزع نظارتها ....
لم تكد تمر عدة لحظات من دخولها الى مكتبها ... حتى وجدت حاتم يندفع داخلا دون استئذان ليقف امام مكتبها قائلا بقوة
( كرمة ......... )
رفعت وجهها اليه ببطء دون أن ترد ... الا أنه لم يكن ينتظر منها ردا , بل كانت عيناه الملهوفتان تنظران بذعر الى شفتيها الداميتين و جانب وجهها المزرق ... فمال يستند الى سطح المكتب بكفيه حتى اقترب وجهه منها
ليهمس و كأنه يحدث نفسه
( ياللهي !! ........مااللذي !! . )
سكت و قد فقد القدرة على الكلام .... الا أنها همست ببطء
( اخرج يا حاتم ........ رجاءا , اخرج الآن ... )
لم يرد.... لم يعبأ حتى بطلبها .... و كأنه لم يسمعها .... بل كان ينظر اليها بعينين قاسيتين .. غاضبتين ... عاجزتين ...
و دون إرادة منه تقريبا .... مد يده ينزع النظارة السوداء عن وجهها .... ثم رماها جانبا بفظاظة ...
ليزداد ذعره من جانب وجهها الممتد المتورم بعدة ألوان .....
رفعت كرمة عينين فاقدتي الحياة الي عينيه .... ثم همست
( أخرج ...... من فضلك )
همس بشراسة
( لا ..... لن أخرج , و لن أسمح لأحد بأن يراكِ تلك الصورة .... قومي معي يا كرمة ... سأقلك لأي مكان تريدين )
رفعت وجها منتفضا اليه لتقول بسرعة
( لا أريد العودة للبيت الآن ..........)
توحشت عيناه ... ثم قال بشراسةٍ أكبر
( لم أكن لأعيدك لبيتك .......و لو كانت حياتي متوقفة على ذلك )
بهت وجهها و تحولت عيناها الى بركتين عميقتي الألم ... و كأن الذكريات تتناوب عليهما ....
فتأوه داخليا دون صوت ... ثم لم يلبث أن قال بخفوت عميق
( تعالي معي يا كرمة ......... )
رفعت عينيها اليه مجددا و هي تهمس
( الى أين ؟؟ ......... )
هز رأسه قليلا وهمس
( لأي مكان ...... المهم الا يراكِ أحد بهذا المنظر ... هذا الضعف ... )
هزت رأسها نفيا ببطء تطرق بوجهها ... ثم همست
( أحتاج الى العمل .. الى الكثير من بحر حساباتٍ تغرقني .. أحتاج الى العمل و العمل ثم العمل الى أن أسقط تعبا .. )
نظر اليها بغضب عنيف ممتزجا بمشاعر جياشة و كأنها أبت الكتمان أكثر من ذلك فاندفعت هادرة بأعماقه ...
ثم تكلم أخيرا بخفوت محاولا السيطرة على نفسه
( سأعمل على الا يدخل أحد اليكِ اليوم ........ )
ابتسمت شبه ابتسامة و هي تهز رأسها موافقة .... و قف مكانه و بدا و كأنه لا يريد الإبتعاد .... لكنه اضطر مرغما على الخروج ... يوشك أنه يتمنى ارتكاب جريمة و كأن أحدهم قد تعدى على ...... امرأته .....
أغمض عينيه للحظة و هو يتقدم في اتجاه الباب خارجا ....
ثم لم يلبث أن استدار لكرمة ... فنظر اليها طويلا قبل أن يقول بصلابة مفاجئة
( كرمة ....... أنتِ تحتاجين مساعدة , فقط اعطني الإشارة ..... فقط اعطني الإشارة رجاءا ... )
رفعت وجهها اليه تنظر اليه من بعد بلا تعبير .... ثم تكلمت أخيرا
( الأمر ليس كما تظن ....... لا تقلق .... أنا لا أتعرض لما تتخيله ... )
قال حاتم بقهر وهو يضرب الحائط بقبضته دون أي مواراة
( زوجك هو من ضربك ..... هل هناك تخيل آخر أم انكِ دخلت بعمود اضاءة أو عربة نقل بضائع , قامت بتطبيق وجهك بهذا الشكل !!! .... )
امتقع وجهها و هي تنظر اليه .... ثم همست أخيرا بنفس الصوت الميت
( أخرج من هنا ....... أرجوك )
هدر نفسا ساخنا غاضبا ..... لكنه شعر بأن أفضل ما قد يفعله حاليا هو أن يخرج بالفعل قبل أن يتهور ....
مغلقا الباب خلفه .... بقوة .....
نظرت كرمة الى الباب و كأنها قد باتت مرهونة بالنظر الى الأبواب المغلقة ....
فرفعت يدا ترتجف الى صدرها المتألم ... الألم بداخله يبدو كوحش يفترسها ببطء ... تزداد و تيرته ببطء و كأنه مقسم على أن يقتلها قتلا بطيئا ....
لقد انهارت حياتها ..... لقد انكسر بها شيء ... حتى لو عاد اليها و أقر بذنبه , سيكون ما بداخلها قد انكسر للأبدا .... هذا لو عاد !!! .....
شعرت أنها قد وقعت في هوة منعدمة الجاذبية .... بها ضغط يشتد فوق صدرها ... و كأن رئتيها على وشك الإنفجار من شدة الألم ....
تغضنت عيناها بعذاب و هما تمتلآن ببعض من دموع متهربة من النفاذ ... بعد أن كانت قد ظنت أن الدموع قد نضبت منها صباحا ....
همست لنفسها
( كيف أتركه لغيري بهذه البساطة و أرحل .... متنازلة عن روحي ... بيتي ... حياتي...
و كيف أتقبله من جديد ...أسامحه ....أتقبل لمساته ... نظرته الي .... أنفاسه التي اختلطت بأنفاس أخرى غيري .... )
أنت تقرأ
بعينك وعد. 🌺 بقلم تميمة نبيل 🌺
Randomوأقف أمامك بأعين متضرعة الأرنو اليك بنظرة تلتقطها عيناك من فورها توقف فقط توقف وخذ عينيك بعيدا نظراتك تقتلني وأيامي تضنيني والأمل بعيد بعينيك بحر متلاطم الأسرار ...