48

3.7K 90 1
                                    

الفصل الثامن و الأربعين :
جلس وليد على كرسي قدمته له وعد في نهاية المعرض ... و أخذ يراقبها بصمت و هي تجلس أمامه و ما أن فتح فمه يريد الكلام حتى لاحظ اقتراب احدى الفتيات تحمل صينية بها كوبين من الشاي ...
فأغلق فمه الى أن وضعتها أمامهما .... و اخذ يراقب انصرافها.... حينها قالت وعد بهدوء
( الآن لن يسمعنا أحد ..... لا تقلق ..... تفضل الشاي)
مد وليد يده ليمسك كوب الشاي ..... الا أنها مجرد أن مكثت في يده للحظتين ... سرعان ما وضعها ليميل الى الأمام .... مستندا بمرفقيه الى ركبتيه قائلا بتوتر
( أشعر ان ما سأسمعه لن يعجبني....... )
رفعت وعد عينيها الجليديتين اليه تقيمه لعدة لحظات قبل أن تقول ببساطة
(أخشى أن اعجابك أو عدمه لن يغير من واقع الأمر شيئا......... )
رفع وليد ذقنه ينظر اليها ثم قال بخفوت
(هلا توقفت أولا عن التحامل ضدي كي تستطيعين الكلام بحيادية دون اغفال أي تفصيل ؟)
زمت وعد شفتيها و هي تنظر بعيدا ..... فذلك الرجل الوسيم و الضخم العضلات و الذي يبدو ظاهره يحمل كل المميزات الرائعة ..... لكنه على الرغم من ذلك لم يعجبها منذ المرة الأولى......
فهي لا تحتمل القهر بكل أنواعه .......
لكنها تحاملت على نفسها بعد أن شعرت باهتمامه بمعرفة خلفية طفولة بشرى.....
أفاقت من شرودها على صوت وليد يقول بصوت حاسم خافت .....
( دعيني أبسط لك الأمر ..... هل تعرضت بشرى في طفولتها لتحرش ؟...... )
نظرت اليه وعد بصمت قبل أن تقول بصوت جامد
(كلمة تحرش لا تصف بشاعة الأمر ......... )
شعر وليد بشيء ما يطبق على صدره وهو يتراجع للخلف في كرسيه .... ناظرا اليها بملامح رمادية ... و طاف به السؤال اللذي يخشاه فقال مرغما بصوت مختنق يرتجف قليلا
( اغتصاب ؟!! ..........)
فقالت وعد بنفس الصوت
( ليته كان اغتصابا .... ليته كان .... فالضرر حدث في كل الأحوال و بقائها عذراء هو ما انقذه ... ليته كان اغتصابا .......)
ابتلع ريقه و كأنه يبتلع شفرات مسننة .... تشطر حلقه لكنه قال أخيرا بايجاز
(من كان ؟؟ ........)
قالت وعد بخفوت
( كان مشرفا عندنا بالدار ........)
صمتت قليلا ثم اقشعر بدنها و بان التقزز على فمها و هي تتابع
(كان أسمر البشرة .... ضخم جدا .... يكاد أن يكون عملاقا ... أسنانه سوداء و بعضا منها مكسور ... و رائحة أنفاسه بشعة .... أكاد اتذكرها حتى الآن ..... بغيض الصوت بدرجة مخيفة)
صمتت قليلا و رعشة تسري بجسدها فتزيد من قشعرته قبل أن تتابع بخفوت باهت
(لطالما كان دنيء اللمسات ....لا يتكلم سوى بيديه و كلما كبرنا عام ... تجرأت لمساته الى ما لا نعرف من أجسامنا ..... )
صمتت قليلا و هي تشعر بقرف قديم .... لم تستطع تفسيره قبلا في سنها الصغير .... لكنها ادركته حين كبرت ثم قالت بخفوت
(لم نسلم جميعنا من لمساته ... لكننا اعتبرناها امرا واقعا طالما أنه لا يضر ... الا بشرى .... هي الوحيدة التي اوقعها سوء حظها فرسية اختياره لتكون عبدة جسده ... )
شعر وليد في تلك اللحظة بغثيان مريع كاد أن يطبق على روحه لكنه اضطر للسماع وهو يحاول أن يعمق من مساحة صدره كي تتسع نفسا قويا ...
عبدة جسده!!......
العبارة كادت أن تثير كل منابع الاشمئزاز بداخله وصفا لهذا الثور قذر الرائحة .... مقترنا ببشرى
فإن كان جسدها الآن ضعيفا طفوليا ... قصيرة القامة ....فكيف كانت في طفولتها أمام هذا الجسد؟!! الضخم القذر !!.....) ابتلع غصة اخرى وهو يستمع الى وعد لكنه قال بصوت باهت (تحرش بها
قالت وعد تجيبه دون مواراة
(التحرش قد يكون عابرا .... مرة .... اثنتين أما المستمر منه يعرف بالاساءة الجسدية )
قال وليد يسألها بصوتٍ ميت وهو يتابع كلامها الميت كصوته و كأنه يمنحها العون و يمنح نفسه
( أسبوع ... شهر ؟! .... شهرين ؟! .... من المؤكد أن أحد ما قد اكتشف فعلته !!)
رفعت وعد عينيها الرماديتين اليه و هي تهمس بجواب قاطع
(سنوات ...........)
شغر عندها بثقلٍ في صدره .... يمتد الى أطرافه فأوهنها ... لكن جذوة من نار كانت تلتهب تحت رماد سكونه فقال مكررا بصوت لا حياة له
(سنوات؟!! ....... )
أومأت وعد برأسها و هي تقول
نعم سنوات ...... ثلاث أو أربع سنوات ... لا أتذكر تماما ... كنا أصغر من أن نفهم او أن نستوعب)
كنا نعلم أنها مجرد صغيرة مضطربة ...... و لم يرغب الكثير في مصادقتها نظرا لأنها ...
أولا من اللقطاء و كانت هناك تفرقة في المعاملة بيننا و بينهم و لأنها عاما بعد عام كانت تزداد شراسة تجاه اي طفل يتطاول عليها ....
الا أنا ..... فأنا كنت أعاملها بلطف و كنت .... و كنت اغطيها جيدا و اهدهدها الى أن تنام كل مرة بعد عودتها من تلك الهوة المريبة التي لم يكن أي منها يستطيع تفسيرها حينها لكنها كانت تعود ببعض اصابات طفيفية و خدوش ... تبدو و كأنها نتيجة لعبها المتهور
أنا فقط من كنت الاحظ انها تخرج بدونها و تعود بها و هي ترتعش .....)
صمتت وعد و هي تطرق بوجهها بينما كان وجه وليد مسودا .... جامدا و حلقه يتحرك بصعوبة تكاد تكون اختناقا قالت أخيرا متابعة
(الى أن كبرنا قليلا .... و ازداد ادراكنا .... و سألتها مرارا فاستجمعت شجاعتها ذات يوم و قصت علي التفاصيل و كيف أنها على الرغم من شراستها و سلاطة لسانها مع الجميع الا أنها كانت ترتعب منه و من تهديده لها كان تهديدا طويل الأمد نشأت عليه لكني لم اتحمل ... و بقيت اغذي فيها روح الانتقام و الصراخ بما يحدث الى ان اقتنعت .....)
صمتت وعد و هي تطرق برأسها بملامح واجمة ... ثم همست دون أن تنظر اليه
(و ما أن نطقنا بالأمر حتى كانت الطامة الكبرى داخل جدران هذا الدار دون أن يجرؤ احد على اخراج تلك المعلومة خارجه فلو عرفت تلك الفضيحة لتم التحقيق و منعت عنه التبرعات و الهدايا التي تذهب اليهم دون حتى أن تمر رائحتها الى انوفنا.......)
صمتت و لم تجد القدرة على المتابعة .... فقال وليد بصوت أجش جاف يكاد أن يخدش الأذن
(الم يتم فتح تحقيق ؟!!.....)
رفعت وعد عينيها اليه و ابتسمت بسخرية مريرة ثم قالت
(تم فتح تحقيق داخل الدار .... تحقيق قديم الطراز .... قدم الزمن ....)
عقد وليد حاجبيه وهو يقول متوقعا الأسوأ
( ما هو هذا التحقيق قديم الطراز ؟..........)
نظرت وعد اليه عينيه عدة لحظات ثم قالت دون خجل و كأنه امر ا باردا عاديا
(كشف عذرية .............)
ارجع وليد رأسه للخلف وهو يتنفس بقوة بينما تصلبت ملامحه و تمتم بشيء ما بدا من القسوة بحيث جعل وعد تجفل لكنها همست حين وجدته غير قادرا على الكلام
(كان شيئا مهينا ..... مدمرا للمتبقي من نفسيتها و طبعا كانت عذراء.....)
نظر اليها مقطب الجبين ..... و كأن الكلمة كانت مؤذية و تعطي معنى عكس طهرها الحرفي ...
فبدت مشوهة ...... مقبضة للصدر وقالت وعد بصوت باهت
(عكس طلقات الأفراح و زغاريد تلك الأعراس ...كانت عذريتها فرحا لهم ... و تهمة جعلت منها كاذبة وضيعة على الرغم من انهم يخادعون انفسهم وهم يعلمون ذلك لكنهم اتقنو الدور .... و لم يستمع اي منهم الى المزيد منا لكن هي ....) صمتت وعد .....
فقال وليد بصوت أجش يختنق
(هي ...... ماذا حدث لها ؟!!.....)
بدا سؤاله و كأنه يسألها متابعة قصة مؤلمة عن انسانة لا يعرفها و كأنه لايعرف مصيرها ...
و ليست تلك التي تركها ببيته منذ عدة ساعات فقالت وعد تقص عليه القصة
(هي .... نالت ضربا لم تنله في عمرها ... حيث أنها رفضت السكوت أصابتها حالة من الجنون و الصراخ المستمر بما يفعله هذا الحيوان و كان الضرب لا يتوقف كصراخها .... حتى كادت أن تزهق أنفاسها ذات مرة .... حينها توقفت و بدت من يومها غريبة النظرات و كأنها تعد لشيء ما ......)
قال وليد بصوت خافت واهي
(و ماذا يمكن لطفلة في مثل عمرها أن تفعل ؟!!.......)
رفعت وعد وجهها اليه و قالت بهدوء
(شفرتين بيدها .... ذلك هو كل ما أعرفه و رأيته قبل أن تعاود الذهاب اليه لمرة أخيرة ... كانت تلك المرة الأخيرة التي أراها بها منذ سنوات ... لكنني لن أنسى أبدا صوت الصراخ و العويل و هو يبدو غارقا بدمائه ...يتحرك كثور مذبوح و الكل يسارع لاسعافه ... لم اتبين من كثرة الدماء التي تغطيه أي منطقة مصابة به ......)
اتسعت عينا وليد وهو يتخيل تلك الفتاة منذ مراهقتها و قد ارغمت على التلاعب بالشفرات أخذا لحقها المنتهك .....
و على الرغم من بعض السعادة السادية التي انتابته وهو يسمع عن تلك الدماء القذرة و هي تسيل على ملابسه المدنسة ........، لكن أي عقاب يكفي هذا الحيوان على يد طفلة؟!!
فهذا القذر لا يكفيه سوى أن تقطع أوصاله .... و لو كان في قبضة يده الآن لكان قضى أياما في تعذيبه بتلذذ ليدخل السجن بعدها سعيدا أنه قام بشيء شريف .....
ساد صمت طويل بينهما .... كانت وعد تنظر اليه بلا تعبير على الرغم من الانقباض الذي تشعر به كلما تذكرت تلك القصة .... لكن هو .... هو كانت ملامح وجهه يرثى لها .... خليط غريب من الغضب المكبوت .... و الصدمة و الاشمئزاز .... و حزن دفين بأعماق عينيه .....
قالت وعد بخفوت بعد عدة لحظات
(اذن ..... كيف حالها و حياتها الآن ؟ ..... لم يتسنى لي الوقت لأعرف عنها سوى ما رأيته من ضربك لها على وجهها .....)
انتفض وليد بمكانه و اختلجت عضلاته الضخمة و رفع وجهه اليها بصدمة قبل أن يقول على مهل بصوت ميت
( لماذا أنت قاسية الى تلك الدرجة ؟! .... الا تشعرين بالجليد يحيط بقلبك ؟......)
رفعت وعد وجهها و قالت بهدوء
( عرفت للتو نبذة عن حياتنا في الدار ..... مما يجعل من القسوة شيئا منطقيا فيما يخصنا .... لكن ما عذرك أنت في قسوتك ؟!!......)
التوت عضلة فكه بقوة ... و اظلمت عيناه ....
لكنه قال بصوت خافت
(لقد أساءت اختيارات حياتها بفظاعة ........)
رفعت وعد حاجبيها قليلا ..... ثم قالت أخيرا ببرود
و هل هذا هو سبب عقابك لها ؟! ..... اختياراتها السيئة في الحياة ؟!!!.....))
ابتلع ريقه بصعوبة و نهض واقفا وهو يقول بصوت غريب
( شكرا لك ...... لقد عرفت ما أتيت من أجله ......)
استدار ليغادر لكنها نادته بهدوء و هي لا تزال جالسة في مكانها تضع ساقا فوق أخرى بصلف ...
و ما ان استدار اليها حتى قالت دون ان تتحرك
(من الواضح أنك أيضا أسأت الاختيار في حياتك حين اخترتها و هي لا تناسبك .... فماهو عذرك ؟! و من سيعاقبك ؟!!.....)
ظل ينظر أليها بملامح متجمدة حتى خشت أن يتشقق وجهه الى أن قال أخيرا بفتور
( نصيحة مني .... ابحثي عن دواء ليذيب جليد قلبك بدلا من تجميدك لمن حولك .....)
رفعت حاجبها و قالت بهدوء
(شكرا على النصيحة ....آمل فقط أن تمتلك بعضا من الضمير الذي يجعلك تتعذب قدر الإمكان على ما فعلته بها ..... عض على شفتيه بكرهٍ لا يعلم إن كان موجها لتلك المرأة رمادية العينين ....
أم موجها لذاته ..... استدار ليبتعد الا انه توقف بعد خطوة و بدا مترددا ...
ثم قال مطرق الرأس دون أن يستدير اليها ....
(هل يمكنني سؤالك ....ماذا فعل بها ؟....تلك التفاصيل التي حكتها لكِ)
ظلت وعد تنظر الى ظهره العريض و كتفيه المحنيتين و عدم قدرته على الاستدارة اليها لسماع جوابها و رغما عنها انتابتها بعض الشفقة عليه و فكرت الا ترد .... لكنها قالت أخيرا بخفوت
( كل شيء لك أن تعرفه كرجل .... باستثناء عذريتها .... اسفة )
نطقت كلمتها الأخيرة بصدق .... لصدق جوابها ...
بينما ظل هو مكانه ساكنا .... دون أن تبدر منه حركة ... و كأنه لم يسمع ... ثم و دون أي كلمة ... تحرك خارجا ... دون أن يستدير اليها ......

بعينك وعد. 🌺 بقلم تميمة نبيل 🌺حيث تعيش القصص. اكتشف الآن