الفصل الثالث و الثلاثين :
( نعم ............... توفي والدي يا سيف و أنا ..... أمسك بيده الآن ..... )
ضاع صوتها المجهد بأنفاسها في نهاية أحرفها ..... بينما كان صدره يخفق بعنف
" مات عبد الحميد ؟!! ..... حقا !! .... "
لكنه اكتشف فجأة أن العبارة رغم رهبتها لم تقارن بخوفه عليها حاليا في تلك اللحظة ....
فهي الآن بالنسبة له مجرد " وعد " .... وعد تخصه بلا هوية و لا ماضي ....
لذا أخذ نفسا عميقا مشحونا ... ليقول ببطء و قوة
( وعد ..... اسمعيني جيدا , أين أنتِ الآن ؟!! ..... في مشفى ربما ؟؟ ..... )
كانت تهز رأسها نفيا بصمت ... فلم يرها ... لكنه سمع صوت نشيجها الهامس المختنق ... فأغمض عينيه وهو يشعر به حادا ينحر في صدره عميقا ...
فهمس بعمق محاولا اختراق نشيجها
( وعد .......... ردي علي )
لم ترد على الفور .... بل ظل صوت بكائها الخافت يقطع نياط قلبه ....
فأرجع رأسه للخلف يستند الى ظهر سريرها .... و همس بقوة بالرغم من ارتجافه
( حسنا لا تردي ...... لكن لا تغلقي الخط , ..... ابقي معي .... و أسمعيني جيدا .... )
صمت قليلا يأخذ نفسا مرتجفا اهتز له جسده الضخم .... ثم قال بصوتٍ أجش خافت
( أنا هنا .......... معك .... )
استمر صوت نشيجها الناعم ..... فتابع بتركيز مشددا على كل حرف
( لن أتركك أبدا ........... مهما تركك الجميع , و زاد عددهم ..... أنا لن أتركك ..... )
سمع صوت اختناقها فأغمض عينيه مجددا وهو يشعر برغبة همجية في اقتحام الأسلاك بينهما و الوصول اليها ... في منفاها المجهول ...
كم هي قريبة ....... و كم هي بعيدة ....
صوت بكائها يهدر في أذنه بكل نعومتها ... بينما يداه تحترتقان ليتلمسها .... ليتأكد أنها حقيقة و ليست مجرد سراب عبر حياته و انتهى .....
همست وعد فجأة بصوتها الباكي
( أتستطيع أن تضمن لي الا تموت ؟!! ............ )
انعقد حاجبيه وهو يسمع سؤالها الغير متوقع و بداخله ومض ضوء غريب
فاستقام مجددا وهو يقول بقوة
( لا .......... لا يا وعد ......... لن أعدك بذلك , لكنني هنا ..... بجوارك .... لن أتركك بعمري طالما كان القرار بيدي ...... )
همست ترتجف بشدة حتى أنه كاد أن يستشعر ارتجافها بوضوح
( أنا أخاف من الموت يا سيف .......... أخاف من الموت جدا ...... لقد لفظ والدي أنفاسه للتو ..... و يده منقبضة على يدي الآن ...... أنا خائفة يا سيف ..... أنا خائفة جدا .... )
قال بصوت صارم كي يخترق هذيانها . بينما في داخله كلمة الموت أرعبته ... وهو لم يعرف الرعب قبلها ! ......
( وعد أين أنتِ ؟!......... بأي مشفى ؟؟ ...... أخبريني و في ساعات سأكون عندك .... بجوارك ..... لن يمنعني عنكِ الا أن أكون ميتا ..... )
عادت لتبكي بإختناق فلعن غباءه ... فقال بهدوء محاولا السيطرة على انفعالاته
( أخبريني .......... وعدي , أين أنتِ ؟ ....... )
صمت قليلا ..... ثم همس بصوتٍ أجش
( أرجوووكِ .............. )
أخذت تتنفس بصوتٍ مفتعل محاولة استجماع قوتها ..... اللعنة ! ..... لا يريدها أن تعود للقناع الجليدي و تحاول ادعاء القوة ..... لأنها لن تتحمل ..... هذه المرة لن تتحمل .....
لقد تحملت طوال سنوات عمرها ما قد يحني الظهر ...... لكنه لم يكن موجودا .......
قالت وعد أخيرا بخفوت و هي تحاول استجماع بعض وعيها و صلابتها
( نحن ....... لسنا بمشفى , ...... أنا في غرفة أمي , ..... و أبي يرقد على سريرها ..... هذه الليلة أصر على مرافقتي ..... و قال أنه لا يريد الذهاب الى غرفته ..... كان متمسكا بي كطفل تائه ..... خائف ..... )
اختنق صوتها و اختفى فهتف سيف بصوتٍ أجش صارم
( وعد ......... لا تصمتي الآن ...... تكلمي ...... )
ابتلعت ريقها بصعوبة .... ثم قالت بصوت باهت
( أنا هنا .............. )
تنهد سيف بارتجاف ... ثم لم يلبث أن قال مؤكدا بقوة
( و أنا هنا ............ )
صمت للحظة ثم قال بحزم
( الآن اسمعيني يا وعد .......... أخرجي من الغرفة الآن قبل أي شيء ..... لكن لا تغلقي الخط ....و أنا سأظل معك .... )
قالت بصوت مرتجف
( لا أستطيع أن .......... أترك يده ..... )
تنفس سيف بحدة , لكنه قال بقوة
( اخرجي الآن يا وعد ....... بقائك هكذا لن ينفع ..... أخرجي و أبقي الهاتف على أذنك ..... )
لم ترد وعد في الجهة المقابلة .... بل ظلت تنظر الى وجه والدها و الذي أسبلت جفنيه بيدها للتو .....
وحاولت جاهدة ابعاد يدها عن يده الخشنة ذات العروق الزرقاء .... عيناها متجمدتان بدموع حارقة لا تعرف منبعها
لطالما قررت الهرب .... لطالما شعرت به حملا ثقيلا عليها ..... لطالما آذاها ......
لكن الآن ..... ها هي تطوى الصفحة دون الحاجة للهرب .... تطويها باسدال الملاءة على وجهه الساكن .....
رفعت وعد يدها على صدرها الخافق بعنف ... و تراجعت عدة خطوات .. تنظر الى الغرفة من حولها بخوف .... و نسيت أن الهاتف لا يزال على أذنها ... الى أن قال سيف بقوة
( وعد !! ......... )
شهقت منتفضة و هي ترتطم بظهرها بالباب .... فهتف مجددا
( ماذا بكِ ؟!! ....... هل أنتِ بخير ؟ ..... لا تصمتي هكذا !! ..... )
همست بإختناق
( أنا هنا ..... ...... )
قال سيف بصلابة
( هل خرجتِ من الغرفة ؟؟ ................ )
فتحت الباب و خرجت ..... ثم لم تلبث أن أغلقته بهدوء لترتمي على جدار الرواق مستندة برأسها اليها ثم أجشت ببكاء عنيف و هي ترفع يدها الى عينيها ....
انقبض صدر سيف من بكائها العنيف .... و شعر بأنفاسه تحترق و أصابع يده تنقبض بشدة , الا أنه منحها بضعة دقائق قبل أن يقول بصوتٍ أجش
( اهدئي الآن يا وعد ....... اهدئي ..... )
انعقد حاجباه و هو يهمس بداخله
" أريحي قلبك الصغير المجهد ....... فلو أصابه مكروه لضعت أنا "
قال سيف بخوف
( وعد ......... لا تنهاري و أنتِ بعيدة عني ..... تمسكي ببعض القوة )
همست باختناق من بين بكائها القوي
( لقد كنت قاسية معه يا سيف ...... لم يكن يستحق ذلك مني , كان علي أن أحاول إسعاده في آخر أيامه ..... دائما ما كان يبحث عني .... ما أن أخرج حتى يصيح مناديا باسمي ....... و أنا كنت أشعر بال .... بالإختناق .... )
قال سيف بقوة وهو ينهض من سريرها ... ليدور في الغرفة كأسدٍ حبيس عاجز
( لا ..... لا لم تكوني , لقد كنت شرسة في الدفاع عنه دائما ..... أتتذكرين وقوفك في وجهي دفاعا عنه و بقاءا معه .... حتى في أكثر لحظات خوفك منه , لم تتركيه أبدا ...... لقد كنت كل عالمه و الفرد الوحيد المتبقي له ...... لقد فعلتِ الكثير من أجله يا وعد , و ما تشعرين به الآن ما هي الا ردة فعل .... )
صمت قليلا وهو يشعر بأن عنف بكائها قد خفت قليلا ..... فتركها عدة لحظات ثم قال بقوة
( أين أنتِ يا وعد ؟ ........... يجب أن آتي اليكِ , لن تستطيعي التصرف وحدك الآن )
ساد صمت قليل و سمعها و هي تلتقط أنفاسها المتحشرجة ... ثم همست بصوتٍ واهٍ ذاهب الأنفاس
( لا ..... أعتقد أنني ........ لن يفيد قدومك يا سيف , فأنا على الأرجح سأبدأ حالا في اجراءات نقل والدي و العودة به كي يدفن في بلده ..... )
بريق مفاجىء ومض في قلبه و عينيه ...... فتحشرجت أنفاسه و تعثرت دقات قلبه ...
لكنه قال بإصرار محاولا السيطرة على نشوة صوته
( يجب أن آتي اليكِ ...... لن تتمكني من فعل كل ذلك بمفردك ...... )
قالت وعد غير مدركة لعدم صواب ما تنطق به
( لا بأس يا سيف ....... أعتقد أنه على الأرجح سيساعدني يوسف في الإجراءات ..... لا معنى لقدومك بينما اغادر في اليوم التالي )
ساد صمت غامض فجأة .... و اعتلى وجهه تعبير قاتم بينما تصلبت عيناه بتوتر مفاجىء وهو يقول بهدوء
( من يوسف ؟؟ ......... )
قالت وعد بخفوت و هي تحاول التظاهر بالصلابة استعدادا للساعات المقبلة
( يوسف الشهاوي ...... هو ابن زوج امي , و هو الذي بلغني بالميراث ...... )
صمت سيف بوجهٍ متصلب ....قاتم الملامح .... و الدم يهدر و يطوف بأوردته طوفان من الجحيم ...
لقد ذكرت أن والدها الآن في ..... غرفة والدتها ! ...
لكنه حين تكلم قال بصوتٍ بلا تعبير
( هل هو معك ...... بنفس البيت ؟؟ ...... )
ردت وعد و هي تمر بحالة من انعدام الوزن و القدرة على التفكير السليم
( نعم .......... لا تقلق , ...... سنبدأ الإجراءات على الفور .....لم يعد هناك معنى لوجودي هنا بعد وفاة والدي ..... لقد أنهيت اجراءات استلام الميراث .... و كأن والدي كان ينتظرها ليرحل و أعود بالميراث بدونه ... . )
لم تستطع أن تمنع نفسها من البكاء بصوت خافت ..... لكن سيف هذه المرة لم يشاركها حزنها ... بل كان يحاول جاهدا السيطرة على ما يجيش بصدره من ميول اجرامية .....
قال أخيرا بصوتٍ خطير
( هاتفيني اذن لتعلميني بموعد رحلتك ........... )
أومأت و هي تقول بخفوت
( حسنا لا بأس ........ يجب أن أذهب الآن ....... )
صمت دون أن ينطق بحرف واحد ... فتابعت تقول بخفوت مختنق
( سيف ....... آسفة لما فعلته للتو ...... لقد كنت في حالة هيستيرية , و لم أدرك ما أفعله ...... لم أدرك أن وفاة والدي س....... )
صمتت تبتلع غصة و هي ترفع يدها الى صدرها اللاهث ... و تنظر بألم الى باب الغرفة المغلق حيث يرقد والدها بلا روح .... بينما يداهمها احساس رهيب بالضياع و انعدام الهوية
تكلم سيف أخيرا بصوتٍ جاف لا يحمل ذرة من المشاعر
( هل ستكونين بخير ؟ ........... )
أومأت و هي تقول بخفوت
( سأكون بخير ....... لا تقلق ..... يوم على الأكثر أو أقل ..... و سأكون بالبلاد ..... )
قال بصوتٍ مؤكد ... خطير
( سأكون بانتظارك ......... ...... )
أغلقت وعد الخط و هي تنظر الي الباب المغلق .... تشعر أن فصلا من حياتها قد أغلق للأبد ....
حينها ارتجفت شفتاها مجددا و هي تستند الى الجدار ... و تنزلق عليه بصمت حتى جلست أرضا ... فرفعت ركبتيها الى صدرها و أجشت بنحيبٍ صامت و هي تدفن رأسها بركبتيها .....
.................................................. .................................................. ......................
وضع سيف هاتفه على طاولة الزينة القديمة الخاصة بها .... ليستند بكلتا يديه الى جانبي المرآة الرفيعة على الحائط ... ثم رفع وجهه الأحمر بشدة ينظر الي عينيه الشرستين وهو يهمس بوحشية
( زوجتي ........ زوجتي في مكانٍ ما .. ببيت رجلٍ غريب .... و أنا أبيت هنا الليلة ...... )
انقبضت احدى يديه تكورة في قبضةٍ ضربت الجدار فجأة و هو يصرخ
( تبا ...... تبا ....... تبا ........ )
ثم استدار حول نفسه بجنون .... سبحن من مكنه من السيطرة على نفسه !.... كيف استطاع كبح جنون ما شعر به في تلك اللحظة .... لقد شعر بأنه على وشكِ أن يقتلها .... يحطم اضلعها بين أصابعه حتى تصير فتاتا ....
نظر الى أرجاء غرفتها ... وهو يسمع صوت عبد الحميد فجأة يتردد في أذنه من بعيد ساخرا
" لكن تذكر ..... لو جئتني جاثيا طلبا لها ... فستكون نجوم السماء أقرب لك ... "
هتف سيف بقوة في انحاء الغرفة
( إنها زوجتي ........ ابنتك هي زوجتي .... في حياتك ومماتك هي زوجتي .... بحياتي و مماتي أنا ستظل زوجتي .....بتخطيطك أو رغم عنك , فهي زوجتي .... لن يحصل عليها غيري ....... )
أسند كفيه الى سطح طاولتها الخشبية التي كانت تقبع عليها ماكينتها التي كسرها .... يلهث بقوة ... يتنفس بنفسٍ مشبوب بألمه و غضبه في آنٍ واحد ....
ثم همس بصوتٍ قاسٍ شرس
( أنت السبب ...... أنت من أرسلتها الي بعد أن كنت قد نبذت الماضي كله ..... لقد فعلت الكثير و الكثير ... أكثر من أن أستطيع مسامحتك عليه ..... فظللت قابعا بركنٍ أسود خفي من صدري .... سوادا جعلني أرى عينيك كلما نظرت الى عينيها الجميلتين ...... )
صمت قليلا يتنفس بصعوبة ... ثم همس بقسوة و ألم
( هل كانت لعنة سلطها علي ؟!! ..... أم أنها ببساطة العمل الطيب الوحيد بحياتك .... أنا نفسي لا أعلم ! )
رفع رأسه ببطء ينظر أمامه بعينين متألمتين لا تبصران ثم قال بصوتٍ أجوف تردد صداه بداخله
( أيا كانت الإجابة ......... فالنتيجة واحدة .... ابنتك هي زوجتي ... و لهذا فأنا شاكرا لك )
صمت قليلا ينظر في أنحاء غرفتها عله يجدها تبتسم له .... ثم تابع بهمس
( لأنني أحبها ........ رغما عني و عنها .... و عنك و عن أمي و عن الجميع ..... أنا أحبها .... و لن أتركها الا بعد أن أزهق روحها وهي تهتف بحبي يوما ما ..... و بعدها أعيدها الى أحضاني من جديد ... )
أغمض عينيه بقوة .... و أخذ نفسا عميقا كي يمكنه من تحمل هذه الليلة التي ماثلت عشرات الليالي و زوجته بعيدة عنه .... تحت سطح أغرابٍ عنها .....
ثم لم يلبث أن استقام فاتحا عينيه ... و استدار الى حيث طاولة جانبية بجوار السرير .... عليها مصحف صغير ..... فابتسم بحزن وهو ينظر اليه ....
لقد قضى الليالي الماضية في تفتيش كل جزءٍ من بيتها .... كل ما تركته ....
كان ييتنشق عطرها البسيط المحيط به في كل ما يخصها .....
فستان زفافها الضخم و الذي لم ترتديه .... كان لا يزال معلقا بالخارج يهزأ منه بقسوة .....
حطام ماكينتها تتحداه أن يصلحها .... و لو أصلحها لعادت وعد .....
فستان واحد تركته في الدولاب ... ذلك الفستان بلون السكر و المنقوش بورود صغيرة ..... ذلك الذي سلب عقله ما أن رآها به .....
كل أغراضها الخاصة كانت تسخر من شوقه لها .... الا هذا المصحف الصغير ....
كانت قد أخبرته ذات مرة أنه كان معها منذ طفولتها بدار الرعاية ..... و كانت لا تستطيع النوم الا وهي ممسكة به تدعو الله الا يحدث لها و لملك شيئا مما كان يحدث لفتاة في مثل عمرها .... كانت تتعرض لشيء بشع كل ليلة دون أن يدرك أحد .....
و من يومها لم يفارقها ..... أخبرته أنها لم تتركه لملك كي لا تضيعه ... بل أخذته معها و ظل بيدها و هي تدعو الله أن يحفظ ملك الصغيرة ......
لم يدرك الا الآن أنها لم تأخذه معها الى بيته ..... لقد نسيته ....
تذكرت الإمساك به طوال سنوات عمرها ..... و نسيت أن تأخذه الى بيته ..... ربما لأن روحها كانت تخفي بداخلها وهما أن ذلك البيت لن يكون بيتها أبدا ....
تكلم سيف أخيرا بخفوت
( حسنا يا وعد ....... إن كنتِ قد نسيت أن تأخذيه الى بيتي .... فقد نسيتِ أخذه كذلك في سفرك .... لربما ضاع منك هناك .... لذا أنا من سأمسك به الآن و أدعو الله أن يعيدك ......و أن يخفف غضب قلبي عليكِ .. )
ارتجف نفسه وهو يتجه الى الحمام .... ليتوضأ و يحاول القراءة في المصحف قليلا عله يهدأ و يمحو سواد قلبه .....
و بالفعل وجد أن الماضي يطوف بعيدا ببطىء عن تفكيره ... وهو يدرك كم من الممكن أن تكون تلك الحياة قصيرة ... أقصر من أن ينازع فيها الإنسان كي يبقى بدور المظلوم طويلا ....
للموت رهبة ..... حتى ولو كان من رحل هو أشد من ظلم .... لكن يظل الإنسان ضئيلا تجاهه ... وهو يشعر بالرعب من فقد أحبابه .... من فقد قلبه و آدميته لو لم يشعر بتلك الرهبة ... و القدرة على السماح أخيرا ... أو على الأقل .. المحاولة ....
.................................................. .................................................. ...................
كم هي غريبة منظر السحب و هي تحتها ..... و كأن العالم أصبح صغيرا .... بعيدا .... بعيدا جدا بكل ما فيه
سمعت صوتا يقول فجأة بهدوء
( هل أنتِ بخير يا وعد ؟؟ ......... )
ابتعدت بوجهها عن نافذتها لتنظر اليه بصمت ثم قالت بخفوت
( أنا بخير سيد يوسف ....... لا تقلق .... )
عقد حاجبيه قليلا وهو ينظر الي عينيها الجامدتين على الرغم من لونهما الأحمر الجذاب ..... و بدت رماديتهما مع حمارهما كلوحةٍ من الجمال و الألم ..... القوة و الشجن ......
ابتسم يقول بهدوء
( لم تكادين تنطقين باسمي مجردا مرتين حتى عدتِ لإستخدام الألقاب مجددا ..... )
ابتسمت قليلا و هي تنظر اليه بحرج , ثم همست بفتور
( اعذرني ....... فارق السن و المكانة يحرجني )
رفع احدى حاجبيه ......وهو يعدل من ياقة قميصه واجما .... " هل تقدم به العمر لهذه الدرجة !! "
لكنه قال ببساطة مستفزة
( لا أعتقد أن فارق السن ملحوظا الى هذه الدرجة .... فأنتِ لستِ مراهقة ! .... )
مطت شفتيها و هي تنظر اليه بصمت , ثم قالت بهدوء
( أعلم أن البقاء بالخارج طويلا يجعل الإنسان صريحا ..... لكن ليس الى هذه الدرجة , الا يمكنك المجاملة ؟! ... )
ابتسم أعمق وهو ينظر الي عينيها ثم قال بسعادة
( لماذا التظاهر ..... ليس عيبا أن تكوني على مشارف الثلاثين ..... لم أظنك قديمة الطراز كي تخشين من العشرة الثالثة من عمرك .... )
مطت شفتيها أكثر و هي تقول
( لست على مشارف الثلاثين .......... )
رفع حاجبه يقول ببساطة
( بلى ...... لقد اقتربتِ جدا ...... )
ظلت تنظر اليه بوجوم لفترة .... ثم لم تلبث أن ضحكت قليلا بخفوت و همست
( أنت حقا محبط يا سيد يوسف .......... )
ظلت ابتسامته على جمالها ... تغضن زاويتي عينيه ... ثم قال بهدوء
( هكذا أفضل ..... اضحكي يا وعد .... , فلو كانت الدموع قادرة على ارجاع من فقدنا لبكينا للأبد ...... )
نظرت اليه بصمت و قد ماتت ضحكتها على شفتيها ... ثم لم تلبث أن قالت بصوت فاقد الحياة
( لم أتخيل أن أعود لبلدي أنا فوق ..... ووالدي بأسفل .... )
تنهد بقوة ... ثم مد يديه فجأة ليمسك بيدها الموضوعة فوق ذراع مقعدها بكل قوةٍ و نظر في عينيها قائلا بصوته الرخيم
( هل أنتِ بحاجة حقا لأن أخبرك أن يوم وفاته متواجد قبل حتى أن يتواجد هو ...... لكل منا يوم سنرحل فيه .. تلك هي الحقيقة الوحيدة في العالم .... )
رمشت بعينيها قليلا و أخفضت رأسها ..... و الخوف يعود اليها من أن تموت يوما وحيدة ...
ثم لم تلبث أن نظرت اليه لتقول بخفوت
( سيد يوسف ..... أنا ممتنة حقا لإصرارك على العودة معي ..... رغم أنه لم يكن هناك داعٍ لتعطيل نفسك و عملك !! ........ )
ابتسم يربت على يدها بلطف وهو يقول
( كانت فرصة لأقوم بزيارة متأخرة لبلدي ........ و أنتِ لم تكوني في حالةٍ تسمح لكِ بالتصرف وحدك )
قالت بتلقائية رغم تلك الرعشة المفاجئة و التي سرت في أوصالها
( زوجي سينتظرني ....... و يقوم باللازم )
تصلبت ملامحه قليلا .... لكنه قال بهدوء
( تقصدين طليقك ........... )
نظرت اليه طويلا بوجه جامد ثم قالت بخفوت
( لم يطلقني بعد ......... لكن ..... نحن في طريقنا لذلك )
نظرت فجأة الى يدها بين يديه .. فسحبتها ببطىء و حرج و عادت تنظر الى نافذتها بصمت وهي تعود بتفكيرها لذلك الوهج الدافىء ...
كم تبقى من الوقت كي ترى سيف ؟!! .....
لقد أكد لها أنه سينتظرها في المطار ...... ترى على تغاضى عن فعلتها و هربها منه و دون علمه!! ...
رجل كسيف لن يسمح لأي كان أن ينتقص من قدره أبدا ....و خاصة هي ... و مع ذلك فقد وصلت الى المرحلة التي تجبره فيها على التخلص منها للأبدا بعد أن أهدرت من كرامته بتلك الدرجة ....
ابتلعت ريقها و هي تنظر الى السحاب البعيد .....
"كم تبقى من الوقت كي تراه ؟ ........ و كم مضى على فراقهما ؟!! ...... و لماذا تشعر أن المتبقي من الوقت كي تراه , أطول من أيام فراقهما ؟!! ...... "
.................................................. .................................................. ......................
وقف مكانه ثابتا كتمثال رخامي ضخم الحجم ..... ثابت التنفس .... صلب الملامح و كأنها من حجر ...
يداه منقبضتان في جيبي بنطاله .... كان رمز القوة و الصلابة لمن ينظر اليه ....
دون أن يدرك ذلك الناظر أن بداخل ذلك التمثال الصامت الطويل طوفان من لهب يحترق و يفور في حممٍ تجري بأوردته .....
عيناه الجامدتان تطالعان أناسٍ من كل الأشكال أثناء خروجهم ... و صدره يصرخ باسمها منتظرا ....
و فجأة .... شعر بإشاراتٍ ترسل ذبذبات معينة بداخلة ....
رفرفة غريبة داخل أحشاءه تبعها تشنج عضلات جسده بتوتر و كل مراكز الإحساس لديه تنتبه فجأة
فبالتالي بدأت عيناه تبحثان عنها بجنون وهو يدرك قبل أن يراها أنها موجودة في مجال رؤيته ... لكن أين ...
الى أن تسمر .... و تسمرت معه كل انفعالاته في لحظةٍ خاطفة وهو يبصر ذلك الكيان النحيف الملتف بالسواد من بدايته حتى نهايته ....
لكن ليس أي سواد !!....
رفع سيف نظارته السوداء عن عينيه ببطء .... هل هي فعلا !!! ..... نعم إنها هي !!
نسى قلبه أن يدق عدة خفقات ..... وهو يرى أمامه شابة نحيفة ترتدي بنطالا أسود ... بداخل حذائين أسودين عاليين الساقين ...
يعلوهما قميص أسود ناعم منسدل على قوامها النحيف يغطي وركيها برقة ... و حول عنقها تركت وشاحا يتطاير عليه بحرية بنقوش النمر .....
عيناها كانتا مختفيتان تحت نظارةٍ سوداء كذلك ....بينما شعرها الذي استطال بشكلٍ ساحر في قصةٍ تبدو جديدة و غرتها منسدلة على جانبي وجهها حتى فكها .... و بيدها ترتاح حقيبة أنيقة بنقوش النمر كذلك ....
كان وجهها يلتفت يمينا و يسارا بلهفة ....أو ربما هذا ما تمناه ....
حتى رأته !! ..... حينها توقفت مكانها ...... و لم يظهر أي تعبير على ملامحها الساكنة ....
وقفت هناك بعيدة و الناس يطفون من حولها متقدمين .....
و للحظةٍ شعرا معا بأن كل البشر من حولهم قد اختفوا و هما ينظران الى بعضهما بصمت .... دون الحاجة للكلام المؤلم ....
بدت قدماه و كأنهما ترسختا في الأرض .... حاول التحرك في اتجاهها بوحشية .. لكن شيئا ما جعله متسمرا ... عاجزا انما بصلابة الوتد ....
كم مر من الوقت عليهما ؟؟ ..... كلاهما لم يعرف .....
ثم كانت هي من تحركت بإتجاهه ... ببطىء أولا ... ثم بدأت خطواتها تتسارع شيئا فشيئا ... حتى بدت تهرول تجاهه و كعبي حذائيها يطرقان الأرض المصقولة ....
كانت تبدو كحلم الليالي الماضية تماما .....
و هي تندفع متجاوزة الجميع كي تصل اليه .... و ما أن صارت على بعد خطوةٍ واحدةٍ منه حتى توقفت تلهث قليلا و هي تنظر اليه بصمت ....
ثم رفعت يدها كي تزيح نظراتها ببطىء الى أعلى شعرها .... ترجعه للخلف عن وجهها ....
حينها أبصر عينيها الضبابيتين الحزينتين حبيبتيه ..... نعم إنها هي .....
ظلت تنظر اليه قليلا و كأنها تستمد منه قوتها دون مشاعر معينة ...
ثم لم تلبث أن اندفعت فجأة لتستطيل على أطراف أصابعها تتعلق بعنقه بقوة عنيفة ... عنيفة جدا ... لدرجة أنها أغمضت عينيها بشدة و كأنها تطبع نفسها على صدره
لم يحتج سوى نبضة قلب واحدةٍ عنيفة ثم تأوه سيف وهو يقول بخشونة صدرت كزمجرةٍ خرجت من حنجرته
( وعد !! .............. )
فارتفعت ذراعاه تسحقانها الى صدره بعنف .... حتى أن أطراف أصابع قدميها ارتفعت عن الأرض عدة شعرات ...
لم يعبئا بمن حولهما .... لم يلحظا حتى النظرات الفضولية المصدومة اليهما و كلا منهما مطبق جفنيه بقوة ...
كانت هي تخنق عنقه خنقا ... بينما كانت ذراعاه تحطمان أضلعها و يداه تتحسسان ظهرها و كأنه غير مصدق بعد .... لقد أوشك على أن يفقد الأمل .... أكان يجب أن يتوفى أحدهم كي يعانقها حد الموت مجددا !!
لم يتعرف رائحتها الطبيعية و هي مغطاة بعطر كثيف ثمين أزكم أنفه ... لذا اعتمد على حاسة اللمس بدلا من الشم ...
فلامست أنفه صدغها ... و فكها و عنقها ...... فأرجعت رأسها للخلف حتى سقطت نظارتها ارضا دون أن تلحظها حتى ....
و أنفاسها .... آآه من أنفاسها ... كانت تخرج كشهقات صغيرةٍ بينما قلبها الصغير المجهد يخفق بعنف فوق صدره .....
أبعدت وعد وجهها عنه فجأة و هي تدرك المكان فعادت للأرض تثبت قدميها و هي تهمس برعب
( سيف ....... سيف ...... )
لم يرد على الفور و لم يتركها .... شعرت بخوفها يتزايد و هي تظنه سيزيد من جرأته علنا .......
لكنها أبعدها عنه فجأة بهدوء ... فخطت خطوة الى الوراء تنظر اليه برهبةٍ ... عيناها متسعتان و وجهها أحمر بشدة .... و كانت تلهث بسرعة ...
بينما هو !!! ......
كانت ملامحه جامدة .... صلبة ....قاتمة ...
و عيناه ميتتان .... عيني رجلٍ طعن غدرا و لم يسامح بعد ......
هل كانت تتوهم عمق عاطفته منذ لحظات ؟!! ........
حتى أن يديه كانتا في جيبي بنطاله !! ...... متى و كيف ؟!! .........
أخذت وعد نفسا مرتجفا و هي تنظر اليه برهبة و صمت .... ثم لم تلبث أن همست بفتور
( كيف حالك يا سيف ؟؟ .......... )
لم يرد ..... و لم تتغير عيناه الصلبتان و هما تنفذان الى أعماقها ...
لكن زاوية شفتيه مالت في شبه ابتسامةٍ ساخرةٍ حزينة .... فكان أن أسبلت جفنيها تهرب بعينيها من عينيه بإحساس بالتضاؤل .....
و ظل الصمت بينهما طويلا الى أن انبعث صوت من خلفها يقول بهدوء به لمحة برود .....
( ألن تعرفينني يا وعد ! ............ )
أغمضت وعد عينيها بيأس ..... كانت تلك ال " وعد " بدون العين .... لرجلٍ رخيم الصوت يقف خلفها بعد أن سبقته وهو يحضر حقائبها .... و كان آخر شخص تتطلب الحكمة وجوده حاليا ....
ابتعدت وعد ببطىء مطرقة الرأس ..... فظهر يوسف كاملا .... طويلا بنفس طول سيف تقريبا ... ينظر اليه بابتسامة هادئة لا مبالية به .....
فقالت وعد بخفوت
( سيف ... يوسف .... يوسف .... سيف .... )
و كم شعرت بنفسها مثال الغباء الحق ..... لقد كانت تستفز كل قواه كي يقتلها علنا ......
حينها فقط فقدت عينا الحجر صلابتهما .... و استطاعت وعد أن تلمح بريقا مخيفا في عينيه وهو ينظر الى يوسف الذي رفع يده بهدوء قائلا
( سيد سيف ........ مرحبا ... )
نظر سيف الى يد يوسف الممتدة بصمت و ازدراء .... دون حتى أن يحاول اخراج يده من جيبه كي يصافحه ...
فابتسم يوسف وهو يسحب يده دون إهتمام ......
أما سيف فقد نظر الى وعد نظرة أخافتها ثم قال بجفاء
(هل أنتِ بخير ؟؟ ............ )
رفعت عينيها اليه تتحقق من مدى اهتمامه الحقيقي بها .... لكنها لم ترى من عينيه سوى نظرة أرعبتها ... فأومأت بصمت و قلبها يخفق عنفا ....
حينها مد يده يجذبها من ذراعها ليقول بصوتٍ صلب
( هيا لننهي الإجراءات ............. )
شحب وجه وعد و هي تسمع لهجته الباردة .....
" لننهي الإجراءات !! " .... و كأنه ينهي اجراء نقل سيارة أو حمولة بضائع .....
لم يذكر عبارة عزاء واحدة ... و لم ترى الرحمة أو الرفق في عينيه .....
شحب وجهها أكثر و هي تشرد بعينيها ... ساخرة من نفسها
" عزاء !! ...... في عبد الحميد العمري ؟!! ..... من تخدع ؟!! ..... "
لكن و قبل أن يجرها خلفه ..... انحنى ببطىء ... ليلتقط نظارتها السوداء عن الأرض ... و ما أن رآى الإسم المسجل الشهير على ذراعها و الذي يبلغ بوضوح عن ثمنها حتى التوت شفتاه في ابتسامة سخرية و استهزاء
أبصرتها وعد .... فامتقع وجهها بشدة و أظلمت عيناها و هي تقرأ أفكاره بوضوح .....
لكنه سرعان ما مد يده بالنظارة اليها و هو يقول بجفاء ساخر
( نظارتك سيدة وعد ....... من المؤكد ستحزنين لفقدها .... )
ظهرت القسوة في عينيها جلية فمدت يدها تجذب النظارة بقوة و هي تعيدها فوق عينيها بصلف ... فغطت الشاشتين السوداوين نظرتها الضبابية عنه .... فاستمر ينظر اليها قليلا ... قبل أن يجذبها خلفه بصمت .... يتبعهما يوسف متجهم الوجه .......
بعد سلسلة طويلة من الإجراءات استهلكت كل قواها .... رأت وعد أخيرا سيارة نقل المتوفين أمام الباب منتظرة ..... فانقبض قلبها و هي تشعر بالدوار ....
و فجأة شعرت بيدٍ قوية تمسك بمرفقها مجددا .. تجذبها لتستند الى صدرٍ قوي ... فرفعت عينيها الى وجه سيف الصلب ....
نظر اليها عدة لحظات ثم همس بصوتٍ أجش في أذنها
( هل تشعرين بالدوار ؟ ........... )
أومأت برأسها ببطىء دون ان تنزع عينيها عن عينيه .... ثم قالت بخفوت
( لا أريد أن أحضر الدفن يا سيف ....... لا أشعر بأنني ..... )
قاطعها يقول بصوتٍ أجش
( و من قال لكِ بأنكِ كنتِ لتذهبين من الأساس !! ......... )
نظرت الى السيارة المخيفة بصدر موجوع ثم همست باختناق
( يجب علي أن أفعل ............... )
قال سيف بلهجةٍ نافية بقوة
( بل لن تفعلي ................. )
صمتت باستسلام و هي تريد الهروب من هنا سريعا .... فتابع سيف بصيغة آمرة
( سأصطحبك الي البيت ......... و ما أن ننتهي حتى أعود اليكِ.... )
صرخت فجأة بقسوة
( لا ......... لا أريد الذهاب الي بيتك ....... )
اصطدمت عيناه بعينيها بنظرةٍ مخيفة ... الا أنه حين تكلم قال بجفاء
( قصدت بيتك ...... لا بيتي ...... )
أظلمت عيناها و ارتبكت ... لكنها قالت بفتور
( لم يعد بيتي ........... )
سمعت صوت نفسه الخشن .... لكنه قال بجفاء
( سنتكلم عن هذا فيما بعد ...... أما الآن , فسيقلك سائق خاص الي البيت .... و أنا سأرافق والدك )
" سأرافق والدك " ...
وجدت نفسها تبتسم ابتسامة حزينة .... للحظةٍ تخيلت الأمر مختلف ....
كم بدت عبارته .... رقيقة .... بها حنان كانت تشتاق اليه ......
شردت عيناها مع السيارة الطويلة ..... لكنه حثها وهو يريح يده على ظهرها قائلا
( هيا يا وعد ........ سنتأخر ..... )
أومأت برأسها و هي تنظر الي السيارة و الدموع تغرق عينيها دون أن تتساقط .... لكنها شوشت عنها الرؤية تماما ..... فلم ترى نظرته حينها ..... نظرة حزن دفين ... و عشق لا نهاية له .......
خرجت وعد مرهقة من حمام الغرفة الانيقة ..... و هي تجفف شعرها ...
كانت متدثرة برداء الحمام الأبيض الزغبي يبتلعها كلها بنعومةٍ و رفاهية ..... فاتجهت الى مرآة مذهبة فخمة ووقفت أمامها تجفف شعرها بشرود ...
ترى ما هي ردة فعل سيف الآن ؟! ......
لم تمكث في بيتها سوى ساعة واحدة , نزلت بعدها سريعا ... و استقلت سيارة أجرة و جاءت الى الجناح الذي سبق و حجزه لها يوسف .....
ربما ... على الأرجح سيكون الآن في حالة من حالات الجنون ... و هو يبحث عنها مجددا دون أن يعلم طريقها .....
أنزلت المنشفة عن شعرها ببطىء و هي تنظر الى عينيها الكبيرتين القاسيتين ... ياللهي ... لطالما كرهت عينيها الباردتين .... و اليوم لم يكن استثناءا .... لكم تمنت في تلك اللحظة لو وجدت بهما بعض الرأفة و الحنان يبدد ذلك الصقيع الذي تشعر به حاليا ...
سمعت فجأة صوت رنين لجرس الجناح ... فعبست وعد وهي تتسائل مجفلة من سيأتي حاليا !! ......
لقد استثنت العشاء و قررت النوم فورا .... هذا ان استطاعته .....
اتجهت وعد ببطىء الى الباب , ثم وقفت بجواره و هي تقول بتوتر
( من ؟!! ................ )
سادت فترة صمت قصيرة , قبل أن تسمع الصوت العميق يقول بنبرة أرسلت الرجفة في أوصالها
( أنا سيف ....... افتحي ... )
اتسعت عينا وعد بصدمة و رفعت يدها الى وجنتها الشاحبة و هي تهمس بخوف
( ياللمصيبة !! ............. )
لم تظن أن يصل اليها بمثل تلك البساطة .... ليست مستعدة بعد لمواجهته فعليا ... و ليست مجرد مقابلة عابرة في المطار ....
ماذا تفعل الآن ؟! ...... لقد وقعت في الفخ !
حين طال صمتها ... شجعها قائلا بلهجة الخطر
( انصحك بإختصار عواقب الغباء و افتحي الباب حالا .... فليس من الحكمة استفزازي في تلك اللحظة )
أغمضت وعد عينيها للحظة و هي تخفض يدها الى صدرها اللاهث ...
" ياللهي .. ليست مستعدة , لقد حضرت لجلسة افتراق رسمية .... لكن ليس الآن ... فهي حاليا مجهدة للغاية , عارية الروح بشكل قابل للإختراق مع أقل كلمة .... "
لكنها لم تجد بدا من أن تفتح الباب ..... ففتحته جزء صغير و نظرت منه بتوتر , لتجد سيف واقفا أمامها بهيئته المخيفة الضخمة .... يديه في جيبي بنطاله تماما كما رأته في المطار ... و كأنه يحاول السيطرة بجهد على عنف طباعه ....
عيناه !! ..... عيناه .... ياللهي إنه على وشكِ قتلها بالفعل ....
لكنها ابتلعت ريقها بصعوبة و همست بتوتر
( ماذا تفعل هنا يا سيف ؟ ............ )
كان السؤال الخاطىء للشخص الخاطىء ....في الوقت الخاطىء ... و قد لاحظت ذلك من نظرة عيناه التي لو كانت تقتل لكانت الآن في عداد الأموات ....
لم يتعجل في الرد ... بل نظر اليها ببرود و استهانة ... بدئا من شعرها المبلل كماء المطر على كتفيها ... ثم عنقها الطويل منتهيا بفتحة رداء الحمام العميقة بسبب اتساعه ....
فماكان منها الا أن أحمر وجهها بشدة و مدت يدها تغلق جانبي الفتحة قليلا ... فازدادت ابتاسمته سخرية أمام حركتها المحتمشة .. متابعا التدقيق بها بكل جرأة متعمدة ....
حينها بدأ غضبها في السيطرة على توترها و خوفها فأعادت السؤال بحزم أكبر
( ماذا تفعل هنا في هذه الساعة يا سيف ؟ ...... لو تلحظ أن اليوم كان مرهقا جسديا و نفسيا لي .... فهلا أجلنا هذا الإجتماع حاليا ..... )
اختفت ابتسامة السخرية عن شفتيه ..... و هنا تحرك للداخل دافعا إياها مما جعلها تشهق بغضب ...
الا أنه أغلق الباب خلفه بهدوء و عيناه المخيفتان على عينيها ... فرفضت أن يرعبها و قالت بقوة و هي تتراجع للخلف بينما هو يقترب منها ببطىء كمن هو على وشك اقتناص فريسته ....
ارتطمت وعد بطاولة الزينة فمنعت تراجعها أكثر .... لذا تشبثت بها بكلتا يديها و هي تلهث بسرعة ...
بينما كان سيف يتقدم و يتقدم ... و عيناه تتربصان بها .... الى أن توقف ....
توقف على بعد عدة خطوات منها ليقول بصوت غريب
( أتعلمين أنك فقت الحد في انعدام الحياء و الإحساس و المسؤولية و الضمير ..... حتى في يوم دفن والدك , تتخذينه فرصة كي تهربي مجددا ..... )
صمت أمام عينيها المصدومتين .... ثم قال بخفوت
( أي حقيرة أنتِ ؟!.......... )
شهقت وعد من عمق اهانته و رفعت يدها الى صدرها المطعون ...... فهمست بنفي متألم
( لا يا سيف ......... )
الا انه صرخ فجأة عاليا
( اخرسي ........... )
فما كان منها الا أن صرخت بخوف و هي تجري من أمامه برعب خوفا من أن يبطش بها ....
لكنه كان أسرع منها وهو يندفع اليها يعتقل خصرها بين ذراعيه يحشرها بقوة في أحد أركان الغرفة ... و ارتفعت يده لتقبض على عنقها يرفع رأسها الي كي تواجه غضبه ....
اتسعت عينا وعد بخوف و هي تنظر اليه , منتظرة أن يفرغ شحنة غضبه و ينتهي الأمر
بينما أخذ سيف وقته كاملا في تأملها ... ثم مر بيده من عنقها ببطىء متعمد حتى وصل الى عمق فتحة رداء الحمام ...
اغمضت وعد عينيها بقوة ... وهو يستشعر بوضوح فاضح مدى تأثرها بلمسته ... فقالت بقوة دون أن تفتح عينيها
( توقف يا سيف ......... )
لم تفتح عينيها لتنظر الى ملامحه .... لكنها سمعت صوته يقول بخفوت شرس
( أهو خجل ..... أم احتقار لذاتك ؟!! .......... )
ابتلعت ريقها بصعوبة دون أن تفتح عينيها .... الا أنها قالت بقوة مخادعة
( لم أفعل ما أخجل منه ..... لقد فعلت ما يمليه المنطق .... زواجنا كان مهزلة .... )
مد يده فجأة يقبض على ذقنها بقوة جعلتها تشهق ألما و صرخ بغضب
( افتحي عينيكِ ........... )
فتحت عينيها و حدقتاها تهتزان بخوف .... تنظر الى ملامح الغضب الجنوني المرتسمة على وجهه ...
ظل ينظر اليها طويلا وهو يتنفس بسرعة أخبرتها عن مدى حالة الجنون التي يعيشها حاليا ...
ثم لم يلبث أن نزع يده عن فكها بقوةٍ آلمتها .... و عاد ليمررها على رداء الحمام الناعم .. و هو يضحك بخفوت ... بينما عيناه ابتعدتا عنها لتتأملان الفخامة المحيطة بهما من كل مكان ....
حينها قال بصوتٍ ساخر خافت
( كم هذا رائع !! ........... فخامة تليق بابنة عبد الحميد حقا ! )
صرخت وعد فجأة و هي تضربه في صدره
( لا تهينني ....... لا تبدأ حتى بإهانتي , ..... لن أسمح لك مجددا , أنا لم أعد وعد التي كنت تعرفها .... )
صرخت فجأةحين قبضت يداه بقسوة على معصميها تثبتانهما على الجدار من خلفها ....
حتى بدت مقيدة بقوة .... فأخذت تتلوى بهلع ... رغم معرفتها أن سيف من المستحيل آن يؤذيها على الأقل جسديا ... و مع ذلك كان الرعب ينتشر في أعماقها بسرعة البرق حتى أوشكت على فقدان وعيها .....
بينما اقترب هو بوجهه من وجهها الشاحب الملتوي جانبا ليهدر في أذنها
( الإهانة لم تبدأ بعد ....... بل إنكِ حتى لم تري من قبل جزءا و لو بسيطا مما سأفعله بك الآن ... )
صرخت وعد بعناد البغال
( لن تجرؤ ................... )
الا أن قبضتاه اشتدتا على معصميها المثبتين الى الجدار حتى اتسعت عيناها ألما بينما قال هو بصوتٍ يفيض بالإزدراء
( لو تعلمين ما بداخلي في تلك الحظة , لما كنت واقفة الآن بكل هذا التبجح .... متحامية في بضعة قروش ربحتها في جولة حظ ...... )
اشتعل الغضب بداخلها فأخذت تتلوى أقوى دون جدوى و هي تصرخ
( تلك القروش بالنسبة لك ليست ربحا أو حظا ....... بل هي ميراثي الشرعي ... اي أنها من حقي .... )
تركت احدى يديه أحد معصميها ليقبض على فمها من جديد لدرجة منعتها من الكلام ... فتولى هو الرد قائلا بشراسة ....
( ميراثك الشرعي الذي علمتِ به منذ فترة طويلة ..... و اخفيتهِ عني بمنتهى اللؤم و أنت تخططين و تدبرين للهرب ما أن تسنح لكِ الفرصة ...... منتهى الحقارة .... كنت أعهدك قاسية , لكن أن تكوني بتلك الحقارة .... لم أتوقعها الصراحة ..... لقد فقتِ كل توقعاتي .... )
صرخت تتلوى بجنون .... و هي تتكلم من بين شفتيها المضمومتين بين قبضته الحديدية
( لا تهينني ..... تبا لك ..... )
الا أنه هدر فجأة بصوت مرعب
( اخرسي ................. )
و خرست بالفعل و هي تفكر بضرورة السيطرة على غضبها أمام غضبه الجنوني في تلك اللحظة ... و تسائلت بجنون
أين ذلك الذي كان يكلمها بصبر في الهاتف ما أن توفي والدها .....
و كأنه شخص آخر غير ذلك الذي احتواها ليضيع خوفها .....
و حين تكلم مجددا كان صوته أكثر خفوتا .... لكن أشد خطرا وهو يقول
( كنت لأمنحك عذرك لو غادرتِ البيت في ساعة غضب ...... كنت لأعيدك و أراضيكِ كي تهدأي ..... لكن نيتك الخبيثة كانت أسبق .... كم مر من الوقت و أنت تستغفلينني و تكلمين شخصا غريبا من وراء ظهري .... تتفقين معه على السفر و الإقامة تحت سقف بيته !!!! ...... )
ترك فمها بقوة ليضرب الجدار بجانب وجهها بعنف مرعب و هو يصرخ
( كم مر من الوقت و أنتِ تتواصلين مع رجل غريب ؟؟ ...... و كم يوم بقيتِ ببيته ؟؟؟ )
صرخت بهلع
( كان والدي معي ........ و عدت ما أن فارق الحياة )
صرخ سيف بجنون
( كم مر من الوقت و أنتما تتواصلان من وراء ظهري ؟؟ ....... )
فصرخت مجددا
( كنت أعلم بميراثي منذ شهر عسلنا ...... و مع هذا لم أقرر السفر بحثا عنه .... بل تقريبا تغاضيت عنه ... الى أن كسرت أنت كل الجسور بيننا ..... حينها أخذت أول طريق للإبتعاد عنك ..... )
صمتت قليلا تلهث بعنف مؤلم بقوة ... ثم همست بتشنج
( منذ أول صباح لنا بعد الزفاف علمت بميراثي بمحض الصدفة ...... و مع هذا لم أقفز جذلا و شوقا .... بل بقيت معك ...... و سلمتك نفسي لتعبث بي .... كما تشاء ... )
خرجت كلمة " كما تشاء" الأخيرة و كأنها صراخ مرعب من بين شفتيها .... حتى أنه أجفل قليلا ....
ثم تابعت بجنون و هي تجابه عينيه بشراسة نمرة مقيدة
( منذ أول يوم و أنا دمية بين يديك ....... تلعب بها كما تشاء .... و ما أن تتعب منها حتى تعيدها الى الرف الذي حددته لها ...... لا تجرؤ على تجاوز ذلك الرف الذي يعلوه الغبار و الأتربة ..... )
صمتت أخيرا تلهث بعنف .... و أطرقت برأسها بينما هو كان ينظر اليها بعينين غريبتين .....
فهمست أخيرا بإعياء
( لقد شرحت لك ما أريد قوله في رسالتي ..... فلماذا تصر على أن تجعل الأمور تنتهي بتلك الصورة السيئة ؟!! ...... لما لا نفترق بتحضر ؟ ..... )
ساد صمت أسود بينهما ..... و زادت كثافته حتى أوشكت على أن تطبق على صدرها المجهد ....
الى أن تكلم سيف أخيرا بهدوء مفاجىء
( انطقيها مجددا .......... )
رفعت وجهها اليه بخوف و هي تقول بحيرة
( ما هي ؟!! ............ )
قال سيف بصوتٍ خطير قاتم
( رسالتك ......... لقد قرأتها نصا ..... ثم أجبرتك على النطق بها في الهاتف و سمعتها ..... و الآن ستنطقينها مجددا و أنا أراكِ ....و أنتِ تنظرين الى عيناي .. )
سقط قلبها بين قدميها ..... و توقف عن خفقانه ..... لكنها ظلت تنظر الي عينيه طويلا و هي تلهث بإجهاد
ثم قالت أخيرا بصوت ميت
( لم أعد ........ بحاجة لك , .... لذا لست مجبرة على التحمل أكثر ........ )
صمتت .... و عيناها الرماديتان تجابهان عيناه القاتمتان ... و أقسمت أنها آلمته رغم قسوة عينيه ... فتابعت بفتور
( لكنني ممتنة ....... لكل ما فعلته من أجلي , .... و لأجل اللحظات السعيدة بيننا .... )
عادت لتصمت .... دون أن تحيد بعينيها عن عينيه .....
و مر وقت طويل بينهما ..... الى أن قال بصوتٍ خافت .... صوت رجل ..... حزين بسخرية مريرة
( اللحظات السعيدة بيننا !! ............... تقصدين مثل هذه ؟!! ..... )
و فجأة دون أن يمنحها الفرصة لتستوعب ما نطقه .....
كان هو قد هجم عليها يحرر فيها شوق الأيام و الليالي المضنية التي مرت عليه وهو بدونها ...
بينما غضبه و كسر قلبه كان الراعي الأول لعنفٍ جعل من عاطفته طوفان مستحيل مقاومته ......
كان رجلا يائسا ... طعنته امرأة ....
و قد قرأت كل ذلك في هجومه المكتسح لها ... فحاولت جاهدة المقاومة لإلتقاط أنفاسها كمن يغرق في بحرٍ عالي الأمواج
الا أن الظلام يجذب ساقيه لأسفل و أسفل باتجاه القاع ....
أدركت من بين جنون اللحظات التي يعيشانها ... أنه فتح رباط رداء الحمام بنفاذ صبر , فصرخت من بين أنفاسه الهائجة
( لا يا سيف ...... لا ..... لا تزد الأمر ....سوءا ..... )
لكن رغم صراخها الرافض ... كان جسدها الخائن المشتاق قد بدأ يستسلم لهواه بعد أيام و أيام من الفراق
لمساته كانت تعذبها بعنفها ..... وهو لا يبدو عليه النية في الرأفة بها الا أن تستسلم و تسلم له ....
سمعت صوته العميق يزمجر في أذنها بوحشية
( وعد !! .............. )
ثم انحنى فجأة ليضع ذراعه تحت ركبتيها قبل أن يرفعها عاليا ثم اتجه بها السرير الضخم فرماها عليه قبل أن يعود اليها يمنعها من الهرب
أخذت وعد تتلوى و تقاوم حتى احمر وجهها و لهثت أنفاسها بجهد ..... فتراخت مقاومتها و انسدلت أطرافها بينما هو بدا كالمجنون في مشاعره ... فلم تجد سوى أن تقول بخفوت لاهث
( لن أستطيع مقاومتك أكثر ......... )
لم تساعد لهجتها الحزينة الكسيرة في جلب الرحمة الى قلبه ... فرفع رأسه عنها يقول بلهجةٍ شريرة و عيناه تجريان على وجهها الأحمر و صدرها اللاهث بعنف ....
( ربما لأنني مجنون مغتصب ما هو ليس حق لي ........ )
أخذت نفسا مرتجفا و هزت رأسها نفيا بطىء ... بينما انسابت دموع بطئية على وجنتيها ... ثم همست بإختناق
( بل لأنني أريد ذلك ......... لقد اشتقت لتلك اللحظات كذلك ..... اشتقت اليها جدا .... )
أثارت كلماتها الحزينة ثورة جسده أكثر و أكثر .... حتى بات كم يحترق بحممٍ لا تهدأ .....
لكن لسببٍ ما .... لم يشعر بالرضا أو السعادة لما نطقت به !! ....
ركن عميق بداخل قلبه انقبض من لهجتها اليائسة ....
سكن في مكانه قليلا .... و تنفسه اللاهث يرافق حركة تنفسها المجنونة ....
ثم قال أخيرا بصوت شرير
( و هذا ليس بجيد بالنسبةِ لكِ ؟؟ ............. )
ابتلعت ريقها و أغمضت عينيها فانسابت دمعتان أخرتان ...... فانقبض قلبه أكثر ... و التوى ذلك الركن أكثر و أكثر .... بينما همست هي
( ذلك هو كل ما أنا عليه بالنسبة لك ........ و اقترانه بمالك أمر مقزز ...... )
ضرب صدره صدرها بعنف عندما سمع ما همست به ......
كانت تلك الضربة الأخيرة من وعد عبد الحميد العمري .... ابتعد عنها قليلا يلهث بوجهٍ قاتم و عينان مجفلتان وهو يقول بلهجة غريبة
( مقزز ؟؟ ................ )
فتحت عينيها بخوف و همست بترجي
( لم أقصد ........ سيف ..... ليس ذلك ما .......... )
لكن عيناه كانتا كنافذتين أغلقتا أشرعهما على قلبه .... طاردا اياها بقسوة .....
و ظل الصمت بينهما طويلا ..... الى أن قال أخيرا بصوتٍ جاف بارد كالصقيع
( أمامك عشر دقائق لا غير ...... سترتدين بها ملابسك و تأتين معي .... )
صرخت وعد بقوة
( أبدا ......... لن أعود معك ..... لا أريد ...... كانت مرحلة من حياتي و انتهت .... )
ملامح وجهه كانت مشتدة تكاد تكون رمادية كلون عينيها ... وهو يقول بخفوت
( مرحلة و انتهت !! ........ أخشى أنني لا أوافقك الرأي يا زوجتي العزيزة ...... )
ثم لم يلبث أن قال و عيناه على التجويف في قاعدة عنقها و هي تبتلع ريقها بصعوبة
( أمامك الآن عشر ثوانٍ لتنهضي فيها .......... )
عيناه واجهت عينيها بشراسة .... و بقت هي مكانها بعناد تنظر اليه بقسوة ... مع بعض القلق ....
حينها لم يلبث أن مد يديه بسرعة البرق جاذبا طرفي رباط الرداء و عقدهما بقوةٍ جعلتها تشهق ألما ... ثم نهض قافزا عن السرير .... لكن لا لينصرف ....
بل انحنى اليها مجددا .... يرفعها فوق كتفه بقوة متجها بها الى باب الجناح .... حينها صرخت وعد و هي تتلوى صارخة بجنون
( انزلني يا سيف ........ كف عن حركاتك تلك ..... أعلم أنك لن تجرؤ على فعلها فتوقف ..... )
الا أنه كان قد وصل للباب ... ففتحه دون لحظة تردد .. و خرج بها الى الممر الطويل ....
شهقت وعد برعب و هي تكتم صرختها بيدها كي لا يسمعها أحد ..... بينما سيف يسير بها في الرواق .. الى أن همست تتوسله
( حسنا ..... حسنا ...... ارجوك .... اعدني سأرتدي ملابسي .... ارجوك يا سيف .... أنا زوجتك .... هل تسمح لأحد بأن يراني بتلك الصورة !! ...... )
لم يبد انه قد سمعها لخطوتين ..... ثم توقف فجأة ... فأغمضت وعد عينيها و هي ترتجف بشدة ....
حينها قال بوحشية
( عشرة دقائق يا ابنة عبد الحميد لا غير ........... )
همست ترتجف
( عشرة دقائق يا سيف .......... أرجوك )
عاد بها الى الغرفة دون تعجل فأغمضت عينيها تتنفس الصعداء .... و ما أن أغلق الباب خلفه بقدمه حتى تركها تسقط أرضا ... فسقطت بقوة و هي تتأوه بشدة ....
حينها ابتسم رغم عنه ..... و أول ما فكر به أنها لو كانت تمتلك بعض الشحوم لتكسوها لما كانت وقعتها لتكون مؤلمة بهذا القدر .....
نهضت وعد قفزا على قدميها في لحظةٍ واحدة ... ثم لم تلبث أن هجمت عليه تضربه بشراسة بكلتا يديها و هي تصرخ
( أيها المجنون ..... المعتوه ..... )
الا أنه أمسك بإحدى قبضتيها بسهولةٍ و يسر .... بينما قبض بالأخرى على مقدمة رداء الحمام يجذبها اليه كمن قبض على لص هارب وهو يقول بلهجة الخطر
( باقي من الزمن ..... سبع ..... دقائق ....... )
و كانت عيناه تعنيان ما يقول ...... رباه ... تستطيع أن تستدعي الأمن ليطردوه خارجا ببساطة .......
وقفت تنظر اليه و قوةٍ عنيفة بداخلها تأمرها أن تستدعي له الأمن .... و كم سيكون ذلك مرضيا لها .....
لكن في آخر لحظة اتجهت ساقاها رغم عنها الى الدولاب الذي يحتوى على بعض الملابس التي أخرجتها من حقيبة سفرها ... فأخرجت قطعتين و هي تلعن و تشتم ....
و كانت تكلم نفسها بقصد أن يسمعها
( أقسم أن أنفصل عنك يا سيف ..... للأبد ..... و هذا وعد مني ..... )
دخلت الحمام لتصفق بابه بقوة و هي تشتم و تشتم و تشتم ........
هاتفة بقوة
( لن أحيا معك ...... لن أحيا معك ..... أتظنني وعد التي تزوجتها ؟!! ...... اذن أنت مخطىء ..... لم أعد بحاجة اليك ..... تبا لك ..... تبا لك .... تبا لك يا سيف ...... أكرهك و أكره اليوم الذي دخلت به الى مكتبك أتوسلك كي تساعدني ...... )
توقفت فجأة و هي تلهث بعنف .... حتى أنها شعرت بالدوار قليلا ....
فاستندت الى المغسلة بيديها ... و أطرقت برأسها حتى تهدأ و تستعيد توازنها .....
قلبها كان يخفق بعنف مؤلم ..... الألم لم يبدأ الآن ..... بل بدأ منذ ليلة أمس و أخذ يتزايد تدريجيا .....
الضغوط التي مرت بها خلال الأربع و عشرين ساعة كانت فوق قدرتها على التحمل ...
رفعت وجهها ببطء تنظر الى وجهها الشاحب ..... و كانت آخر ما رأته هو عينيها اللتين تبغض قسوتهما ....
و بعدها لم تدرك أنها سقطت أرضا بعنف حتى ارتطمت رأسها بأرض الحمام ......
.................................................. .................................................. ......................
دخلت كرمة الى بهو المشفى الحكومي و قلبها يصرخ رعبا بعبارةٍ واحدة
" لو أصاب محمد مكروه فلن أسامح نفسي أبدا "
و كادت أن تلحق علياء التي تقدمتها مطرقة الرأس .... لكنها لم تلبث أن استدارت الى محمد في أول الرواق و قالت له و هي لا تزال تبكي .. محاولة مسح دموعها و السيطرة على نفسها ....
( ابقى هنا يا محمد ....... لكن لا تذهب لأي مكان ..... أنا أحتاجك )
أومأ برأسه ببساطة و هو ينظر اليها بتدقيق .... ثم نظر الى علياء التي وقفت تنتظرها في آخر الرواق بصمت و قال بهدوء
( هل ستكونين بخير ؟!! ....... أنتِ أمانة و يجب أن أسلمك لحاتم يدا بيد و الا قتلني )
مسحت وجهها مجددا و بللت شفتيها ثم قالت بحزم خادع
( أنا بخير .......... يجب أن أطمئن على شخصٍ قريبٍ مني فقط ......)
عاد محمد ليومىء برأسه .... ثم جلس على أحد المقاعد .... فنظرت كرمة الى علياء التي كانت تنظر اليهما من بعيد بنظرة جامدة .....
فسارت اليها كرمة و قلبها ينبض خوفا .....
ظلت علياء واقفة مكانها تنتظر كرمة التي كانت ساقاها تتخاذلان وهي تقترب مرتجفة .... فدخلت قبلها بعد أن نظرت اليها نظرة طويلة .....
كان عدد المرضى المستلقين على الأسرة كبيرا .... لكن عينا كرمة كانتا تبحثان عنه هو وحده
الوجه الذي عاشت معه عمرا طويلا .....
ظلت تسير بارتجاف و عيناها تتنقلان من سريرٍ الى آخر ....
الى أن رأته ..... نعم هو .... شاحب الوجه على الرغم من حماره و العرق المتصبب من جبينه .... حتى لحيته النامية ساعدت في إخفاء ملامحه عنها .... لكنها عرفته ... فهمست تتأوه
( ياللهي ....... محمد .... )
اقتربت منه بسرعةٍ الى أن وصلت اليه .... فانحت اليه تنادي برفق و فزع في آنٍ واحد
( محمد !! ....... أجبني أرجوك .... )
حينها وجدت حاجبيه ينعقدان بشدة ... و ملامحه تئن ألما و كأنه لا يصدق أنه سمع صوتها
فهمس وهو يفتح عينيه بآنٍ واحد
( كرمة !! ............... )
تنهدت كرمةٍ بقوة الأميال التي جاءت فيها الى المشفى ما بين رعب و أسى .... و هي تراه مجددا ... ينظر اليها و يناديها باسمها .....
ظلت تنظر اليه طويلا بينما بدا هو غير مصدق بعد... فهمس بصوتٍ أجش
( هل هذا حلم ؟!! ....... لا تخبريني انكِ مجرد حلم مجددا .... )
ابتسمت بحزن و عيناها تمتلئان بالدموع مجددا .... فانحنت اليه اكثر و همست برقة
( ماذا بك يا محمد ؟؟ ......... كيف مرضت بهذه الشدة ؟؟ ..... )
انعقد حاجبيه أكثر و لم يجبها .... بل همس بعذاب
( تزوجتِ يا كرمة !! ....... امتكك رجل غيري ......... طفلتي أنا .... طفلتي أنا وحدي , امتلكها غيري )
انحدرت دموعها غزيرة بصمت .... بينما أمال وجهه جانبا وهو يصرخ بجهد
( تبا لكِ ..... تبا لكِ يا كرمة , لقد قتلتني ....... )
شهقت شهقة بكاء و هي تقول مترجية
( لا تجهد نفسك اكثر يا محمد ...... أرجوك ..... )
لكنه صرخ بجنون ....
( أخرجي .... أخرجي من هنا ... لا أريد أن أراك مجددا ...... اخرجي ..... )
رفعت يدها الى صدرها المتمزق ... و بكت هامسة
( محمد اهدأ أرجوك ........... )
أرجع رأسه للخلف مغمضا عينيه يهمس باختناق
( قتلتني يا كرمة ........ قتلتني ..... )
أغمضت عينيها بقوة فتساقطت المزيد من دموعها على وجنته الشاحبة ..... حينها فتح عينيه بجهد ينظر اليها
طفلته ..... هو من رباها .... كبرت على يديه .....
فهمس بصوتٍ يتعذب
( كيف استطعت؟ !! ........ كيف تحملتِ أن تكوني لغيري ؟؟ ...... أين ذهبت كل وعودك الكاذبة .... )
فتحت عينيها و هي تبكي ... لكنها حاولت التنفس بطبيعية ... و قالت بصوتٍ متحشرج
( اهتم الآن بصحتك يا محمد ...... لا شيء في الدنيا يهم سوى صحتك )
لكنه هتف بصوتٍ أجش معذب ...
( هل تحبينه ؟؟ ..........هل كنتِ تحبينه و أنتِ زوجتي ..... انطقي الحقيقة أنا أموت ... )
لم تهتم الى الوجوه التي التفتت اليهما .... و لم تلحظ علياء التي وقفت خلفها تبكي بقهر مما سمعته للتو ...
قهر أيامٍ مضت ... لا يعاشرها الا وهو يتخيلها كرمة .... حتى يزل لسانه بأسمها عدة مرات ....
قالت كرمة بقوة دون أن تعبأ بالجميع
( لم أخنك ولو للحظةٍ واحدة يا محمد ....... حتى بخيالي كنت أنت وحدك .... لا غيرك ... )
نظر اليها يلهث بقوة و عيناه تلتهمانها على الرغم من حمارهما و اهتزازهما .... فهمس بقسوة
( كرمة ......... كرمة ........ اقتربي مني )
انحنت اليه أكثر .... فوضعت يدها على جبهته لتجد أن حرارته مرتفعة للغاية ... حينها شهقت باكية
( حرارتك عالية جدا .......... )
استقامت تنظر حولها و هي تصرخ
( الا يوجد طبيب هنا في هذا المكان المهمل ؟!! ........... )
لكن محمد هتف بتعب و عذاب
( كرمة ....... كرمة ........ )
عادت لتنحني اليه مجددا و هي تهمس بلهفة
( ماذا تريد يا محمد ؟؟ ......... ماذا تحتاج ؟ ....... )
نظر اليها بعينين تتعذبان يتأملها محاولا الإرتواء من جمالها الذي اشتاقه بجنون ...
ثم همس بإختناق
( قولي أنكِ باقية على حبي ............ )
بهت وجهها فجأة ..... و تسمرت مكانها و هي تنظر ال عينيه الواعيتين .... فأعاد بقوة
( كوني صادقة مع نفسك ...... هل أنتِ باقية على حبي ..... بين أحضانه .... تبا لك .... )
و رغم قسوة كلماته , الا أن يده ارتفعت اليها ممتدة .... تنتظر أن تمسك بها ......
نظرت كرمة الى كف محمد الممتدة اليها منتظرة .... كفه التي طالما عشقتها .... كفه الخشنة من الشقاء بالعمل الطويل مع السيارات و الحدائد ......
كفه التي ضربتها مرارا .......
رفعت كرمة عينيها الى عيني محمد ببطىء .... عيناها حمراوان و مطفئتان ... بينما وجهها شاحب بشدة
ثم قالت بخفوت بلا روح
( لم أخنك يوما يا محمد ...... لأن الخيانة لم تكن من طبعي .... )
استقامت واقفة تنظر اليه طويلا بينما شحبت ملامحه بقوة ..... ثم ابتسمت ترتجف بحزن ... ابتسامة أسى ... ووداع .... ثم لم تلبث أن همست بإختناق
( اعتني بنفسك ...... زوجتك تحتاجك ..... عائلتك تحتاجك .... )
ثم استدارت كرمة تبتعد عنه قبل أن تنهار ... الا أنه كان يصرخ من خلفها
( كرمة ........كرمة ........ عودي الي يا كرمة ..... )
اغمضت عينيها بقوةٍ و هي تبكي و تعض على شفتها .... دون أن تستدير اليه .....
و ما أن خرجت حتى ارتطمت بطبيب شاب كان على وشكِ الدخول .... الا أنها أمسكت ذراعه و هي تمسح وجهها و تقول بخفوت و قلق
( من فضلك ....... المريض محمد .... في السرير رقم ** .... ما هي حالته ؟؟ ..... )
نظر الطبيب الى منظرها الذي يتناقض مع المشفى المهدم .... لكنه نظر خلف كتفها و قال بفتور
( ذلك اللذي يصرخ ؟؟ ........... )
أومأت كرمة بوجهها دون أن تستدير خلفها ... فقال الطبيب الشاب
( انه بحالة مستقرة ..... لقد زالت الخطورة بعد أول يومين ..... لقد أخبرت زوجته ذلك .... اطمئني ... )
ثم تركها ليبتعد .... بينما وقفت كرمة تنظر امامها بوجه باهت ... و عينان متجمدتان .....
شيء ما جعلها تلتفت لتجد علياء واقفة خلفها و يدها منقبضة على وشاح رأسها تغطي به فمها بينما عيناها فاترتان ....
اقتربت منها كرمة ببطىء و كم كان الفارق بين منظريهما رهيبا ...
فكرمة بدت على الرغم من بساطتها مثالا للرقي و الأناقة .... أما علياء فبدت مثالا للبساطة بلمحةٍ شعبية محببة ...
لم يجمع بينهما سوى البساطة .. و حب رجل واحد .....
وقفت كرمة أمامها تقول بصوتٍ ميت ...
( لماذا أحضرتني الى هنا ؟ ........ لماذا أوهمتني أن محمد في خطر ؟؟ ..... )
أطرقت علياء برأسها بصمت غير قادرة على مواجهة عيني كرمة ...
فماكان من كرمة الا أن دفعتها في كتفيها الإثنين بقوة و هي تعيد بصلابة أكبر
( ماذا تريدين مني ؟؟ ....... أي مختلة أنتِ كي تنتشين بألمي و ألمه على الرغم من أنه أصبح لكِ في نهاية الطريق !!.... )
لم تحاول علياء الدفاع عن نفسها أو رفع يديها أو حتى الإبتعاد .... بل ظلت واقفة مكانها مطرقة الرأس بصمت
فجن جنون كرمة و هي تدفعها مجددا لتقول بحدة
( كيف تتسنى لكِ الجرأة كي تقتحمين بيتي و حياتي مجددا و تحضريني الى هنا قسرا ..... )
من بعيد كان محمد الصغير قد قام واقفا ينظر الى الموقف بذهول وهو يقول
( ياللهي !! ...... كمرة تتشابك بالإيدي مع فتاة أخرى !! ...... لن أبيت في البيت الليلة ... و على الأرجح سأتناول عشائي مع عصافير الحديقة !! ..... )
عقد حاجبيه وهو يقول بقلق
( هل أتدخل أم لا ؟!! ....... ليس من اللائق الدخول بين فتاتين تتقاتلان !! ..... )
صمت يراقب الموقف بإهتمام ... ثم قال أخيرا بخفوت
( عامة يبدو أن كرمة هي من تضرب ....... مع أول لكمة تصيب وجهها سأتدخل )
عاد ليجلس مكانه بهدوء و هو يتابع ما يحدث ....
بينما كانت كرمة تهتف بحدة
( هل أنتِ مريضة نفسيا ؟!! ...... لقد أخذت زوجي ... و بيتي و .... سريري !! ... )
كانت تصرخ بحدة غير عابئة بمن يسمعها ... لكن خوف اللحظات السابقة كان مضني لها ...
ظلت علياء صامتة قليلا ... ثم قالت أخيرا بخفوت دون أن تنظر الى كرمة
( كان عليه أن يراك .... يتحدث معك .... يراك و قد تقدمتِ بحياتك دون أن تنظري للخلف )
رفعت وجهها أخيرا تنظر الى كرمة و قالت
( اتظنين أنكِ أنتِ من تتألمين لأنه استبدلك بي في سريرك ؟؟!!....... اذن فأنتِ ليس لديك فكرة عما أعانيه وهو ينادي اسمك و نحن في أشد لحظاتنا الخاصة .... )
أجفلت كرمة و ارتبكت من تلك الوقاحة ! و الجرأة في الكلام ...... الغريب في الأمر أنها لم تشعر بلحظة سعادة أو انتصار ..... بل كل ما فكرت به هو أنها كانت وقحة و تكلمت بنفس الطريقة امام حاتم ! ....
الآن تشعر كم هو قميء الخلط بين العلاقات .... و أن التفكير بالماضي يعد خيانة لا تغتفر طالما ارتضت رجلا آخر زوجا لها ....
رفعت كرمة ذقنها و هي تقول بخفوت
( هذا ما يحدث حين تتزوجين رجلا يحب زوجته ...... آسفة أنني لا أشعر بالتعاطف .... لكن ابعدي عن حياتي .... لست مسؤولة عن اصلاح حياتك ..... خاصة بعد أن أفسدتِ حياتي ...... )
ابتعدت كرمة عنها دون إضافة كلمة أخرى بينما أطرقت علياء برأسها تبكي بصمت .... ثم جرت الى داخل غرفة المرضى
أما كرمة فقد تقدمت ببطىء في اتجاه محمد الذي كان ينتظرها بإهتمام ..... و ما أن وصلت اليه حتى جلست ببطء بجواره .... و قالت بخفوت
( لا أستطيع النهوض يا محمد ....... )
التفت اليها يقول بحماس
( لماذا ؟ ....... لقد هزمتها هزيمة ساحقة , لقد انسحبت تبكي ما أن استدرتِ ..... هاتي قبضة خماسية ... )
رفع قبضته .... فمدت كرمة قبضتها ببطىء تضرب قبضته المنتظرة ... بينما هي تنظر أمامها بعينين خاويتين و قلب مثقل ....
فقال محمد بقلق
( ماذا بكِ يا كمرة ؟؟ ........ هل قريبك في خطر ؟؟ ...... )
ردت كرمة بعد لحظة بشرود دون أن تنظر اليه
( لا .....إنه بخير ........... )
صمتت في شرود كامل ..... ثم قالت بخفوت مختنق
( لكنني ارتكبت خطأ كبير يا محمد في حق حاتم ...... لم يكن من المفترض أن أخرج بدون علمه )
ارتفع حاجب محمد بذهول ... ثم قال ببساطة
( أحم ..... الحقيقة أنكِ أحرجتني , فهذا هو ما أحيا لأفعله ..... الخروج و التسلل دون علمه .... )
ابتسمت كرمة و هي تنظر اليه بينما الدموع تنساب على وجنتيها دون توقف ... ثم همست بغصةٍ مختنقة
( الأمر بين الأزواج يختلف ........ )
ثم لم تلبث أن ضحكت و هي تبكي في آنٍ واحد لتمسح دموعها و هي تتذكر أن تلك كانت نفس العبارة التي استخدمها حاتم كتبرير في تأخره في الإستحمام ....
قال محمد بقلق
( لماذا تبكين كل هذا القدر ؟؟ ....... هل تخافين من حاتم ؟؟ ..... يمكنني أن أساعدك , أنا لا أطيق بتسلط الرجال و اظهار قوتهم تجاه الفتيات .... أنا لا أعتبرها رجولة .... و أنا أعرف حاتم جيدا بإمكانه أن يكون متسلطا ..... )
نظرت اليه كرمة و هي تقول بسرعة
( عيب يا محمد ......... )
رفع إصبعا واحدا أمام وجهه وهو يقلد لهجتها السابقة قائلا
( يا ابني عييييييييب ........ )
ضحكت كرمة رغما عنها و هي لا تزال تبكي .... ثم لم تلبث أن خفتت ضحكتها و استحالت شحوبا و هي تقول بإختناق
( أنا خائفة من العودة للبيت يا محمد ....... ماذا أفعل ؟؟ ..... )
نظر اليها محمد طويلا .... ثم لم يلبث أن قال بهدوء
( سأحميك و أدافع عنكِ ........ لا تخافي ... لكن لا تعتادي الأمر .... هيا بنا لنعود لربما عدنا قبله و انتهت المشكلة ..... فمن لا يعرف لا يغضب ..... )
مطت كرمة شفتيها و هي تقول بخفوت
( ماشاء الله ..... فمك يتفوه بالحكم ...... )
قال محمد بجدية
( أية خدمة ..... نحن تحت الأمر دائما , و الآن هيا بنا ...... )
شعرت كرمة أن ساقيها تتخاذلان فحثها محمد بصوتٍ شبيه بصوت والده للغاية .... و كان هذا كفيلا بأن يجعلها تبتسم .... بقلق .... لكنها نهضت معه .... و أثناء سيرهما قالت بإختناق و هي تمسح دموعها
( على فكرة ...... لغتك العربية متضررة للغاية ..... هل جربت العمل مع متخصص بها ؟! .... )
نظر اليها بطرف عينيه .... و كانت منتفحة العينين .. حمراء الأنف ...
ثم قال لها بنفاذ صبر
( نعم منذ فترة و أنا شعر بها تؤلمني كلما ضغطت عليها ...... ربما سألت استشاري فيما بعد .... )
عبست كرمة و هي تقول
( لماذا السخرية الآن ؟! ..... كنت أحاول فتح باب للحوار كي يلهيني عن توتري ! ..... لكن لو أردت الحقيقة أنت لا تستطيع حتى الآن نطق اسمي صحيحا .... )
هز رأسه يئسا وهو يقول
( ذلك التدقيق في الشكليات هو السبب في فشل التعليم .... ليس مهم طريقة النطق ... المهم هو المعنى ... )
رفعت كرمة حاجبها و هي تقول باتزان
( اذن ذكرني ما هو معنى اسمي مجددا ؟!! .......... )
قال محمد ببساطة ( حبة عنب .......... )
نظرت اليه كرمة بوجوم ... ثم قالت بخفوت ( أبدعت ........... )
رفع اصبعه علامة التفكير و الذكاء و هو يبتسم بفخر .... ثم قال بهدوء
( اللغة العربية في مدرستنا هي نوع من الرفاهية ..... لا نهتم بها كثيرا ... )
عبست كرمة بشدة و هي تقول
( معقول ؟!! .............. )
أومأ محمد وهو يمسك بيدها بتلقائية كي يعبر بها الطريق ثم قال
( نعم ........ لكن عامة أنا ممتاز بها ...... )
ردت كرمة بوجوم
( واضح ................ )
وقفا معا على الرصيف الآخر ... ثم أشار محمد الى سيارة أجرة قبل أن يقول بلطف
( هل أصبحت بخير الآن ؟؟ ...... )
ابتلعت ريقها .... لا ... ليست بخير أبدا .... و لا تريد العودة للبيت ....
لكن محمد قال بهدوء قبل أن يستقل السيارة قبلها
( أنا سأبدأ الكلام ..........اتفقنا ؟ .. )
أومأت كرمة برأسها و هي تشعر أنها في حاجةٍ لذلك الصبي أكثر مما احتاجت محمد أو حاتم من قبل ....
.................................................. .................................................. .....................
دخلت كرمة البيت تسبق محمد .... لكنها تسمرت مكانها حين أبصرت حاتم يقف في المنتصف هائج الملامح ... بخوفٍ ظاهر بوضوح ....
و ما أن القت أعينهما حتى شعرت كرمة بالرعب يدب في أعماقها ....
هتف حاتم بغضب وهو يقترب منها بسرعة
( أين كنتما يا كرمة ؟؟ ....... و لماذا تركتِ هاتفك هنا ؟!! ....لقد كدت أن أجن !! .. )
كانت كرمة تنظر اليه بعينين متسعتين للغاية ... بينما صدرها يلهث بعنف ....
فعبس حاتم بشدة وصمت وهو يرى وجهها المرتعب .... فهتف بقلق
( ماذا حدث ؟!! ....... هل حدث مكروه ؟.... أين كنتما ؟!! ....... )
ابتلعت كرمة ريقها و هي تنظر الى حاتم بعجز .... و فغرت شفتيها تهمس برجاء
( حاتم .......... )
لكنها لم تستطع .... كان الإعتراف أكبر من شجاعتها ..... فنظرت الى محمد تترجاه المساعدة ....
حينها تقدم محمد وهو يقول بخفوت
( كنا في مكان لا نريد اخبارك عنه ........ )
أغمضت كرمة عينيها بهلع ... و كان أن هتف حاتم بقوة
( ماذا ؟! ....... أريد أن أعرف حالا أين كنتما ؟؟ ....... )
أخذت كرمة ترتجف بقوة .... ثم همست و هي تسلم أمرها لله
( لقد كنا في ......... )
الا أن محمد كان قد سبقها وهو يهتف غاضبا
( أنت دائما تفسد كل شيء جميل ...... حسنا لقد أصرت كمرة على اصطحابي لشراء هدية عيد ميلادك و ترجتني الا نخبرك ..... و ها أنت قد أفسدت المفاجأة !! ...... )
ذابت ملامح حاتم بذهول .... وهو يفكر بالتواريخ ... ثم لم يبلث أن اقترب منها وهو يهمس برقة مذهولة
( كرمة !! ....... لم أتوقع أن تتذكرين يوم مولدي !! ....... حبيبتي )
أمسك بكتفيها يقربها منه ليطبع شفتيه فوق فكها بحرارةٍ ألهبتها .... فأغمضت عينيها بجنون و قلبها ينبض بالإحساس بالذنب
فهي لا تعرف يوم مولده أصلا .... رفع حاتم وجهه الأحمر من الإشتياق لها و نظر لعينيها يعدها بالكثير .. فارتجفت أكثر .... ثم لم يلبث أن قال بهدوء ناظرا لمحمد
( حسنا أيها الشاب ....... ارأيت اهتمامها بوالدك !!..... بينما أنت لم تتذكره ولو لمرةٍ واحدة خلال السنوات الأخيرة ....... )
نظر اليه محمد بوجوم ..... و التقطت كرمة نظرته تلك ... فشعرت و كأن قبضة باردة سحقت قلبها ....
لكن محمد قال بلامبالاة
( و إن يكن !! .............. )
ثم ابتعد ينوي الذهاب الى غرفته .... فقال حاتم مبتسما وهو ينظر الي كرمة الشاحبة كالأموات و هي تنظر الى محمد .....
( اذن أين هي تلك الهدية التي أخرتكما كل ذلك الوقت ؟! .............. )
قبل أن تنطق كرمة .... كان محمد قد هتف من آخر الرواق
( أخفيناها ...... أم ربما تريد أن تراها الآن إمعانا في الفشل ! ...... )
ثم دخل و صفق باب غرفته خلفه بقوة ......
حينها عقد حاتم حاجبيه دون أن يفقد ابتسامته ... ثم مد يديه يتحسس خصرها وهو يقربها منه قائلا باعتذار
( محمد صبي يصعب التعامل معه ..... أليس كذلك ؟....... أنا آسف جدا لأنني لم أمنحك شهر العسل الذي تستحقينه يا كرمتي ..... )
جذبها اليه بقوة وانحنى يهمس في أذنها
( أما عن كونك تعرفين تاريخ مولدي ! ...... فهذا كفيلا لدي كي التهمك كلك الآن كقالب حلوى عيد ميلادي .... )
ابتسم ليهمس بعبث
( ماذا لو وضعتك على طاولة المطبخ كالمرة السابقة ..... و أضأت الشموع من حولك ... كي أطفئها واحدة تلو الأخرى .... واحدة .... واحدة .... )
كانت شفتاه تلامسان شفتيها مع كل شمعةٍ يطفئها في خياله الوقح ......
أبعدت كرمة وجهها عنه قليلا .... ثم همست بصوت فاتر فاقد الحياة
( حاتم ......... أريد أن أتكلم معك ........ هلا دخلنا غرفتنا رجاءا .... )
اتسعت عيناه ببريق مذهل وهو ينظر اليها ... لكنه لم يرد ..... لم يفعل سوى أن انحنى ليحملها بين ذراعيه بقوة ... وهو يتجه بها مسرعا الى غرفتهما المسكينة و التي لم تشهد اجتماعهما كاملا بعد .....
تعلقت كرمة بعنقه ... و هي تدس وجهها به بصمت طلبا في الحماية .... فهدرت أنفاسه بعنف .... لكنه التزم الصبر الى أن دخل الغرفة ... يغلق الباب خلفه بقدمه .... و ما أن وضعها على السرير ..
حتى استقام يفك ازرار قميصه بجنون وهو ينظر اليها بجوعٍ ميؤوس منه ... لكن كرمة استقامت جالسة تنظر اليه بوجوم .... فقال بخشونة
( كنت أود الإنتظار حتى يحل الليل ...... لكنني لن أستطيع .... لا تمنعيني عنكِ الآن كرمتي )
قالت كرمة بحدة قبل أن تتخاذل
( حاتم ...... هناك شيئا يجب أن أخبرك به قبلا ..... و بعدها سأكون لك بكليتي .... لو .... أردت ...)
اتسعت عيناه بجنون الإثارة ... و نبض عرق في صدغه ورغبته فيها تتحول الى ألم جسدي لا سبيل لشفاءه سوى باقتحام ذلك الكيان الجميل المستلقي أمامه ....
لكنه أجبر نفسه على التنفس بصعوبة .... الأميرة تريد الكلام .... لذا يجب عليه أن يمتثل صاغرا
فاقترب منها ليجلس بجوارها وهو يتنفس بسرعة ....ثم همس بخشونة وهو يقبل كل جزء في وجهها
( أسرعي اذن ...... فسيطرتي على نفسي على وشك الإنهيار ........ )
ابتلعت كرمة ريقها و ابتعدت عنه قليلا... ثم نظرت أمامها و بدأت في الكلام بصوتٍ ذاهب الأنفاس
لم تنظر اليه مرة واحدة و هي تتكلم .... لكنها كانت تستشعر حرارة غضبه و ذهوله ... الى أن صرخ فجأة قافزا من جوارها قاطعا همسها الواجم
( ماذا ؟!!! .......... )
تجرأت على رفع عينيها اليه بترجي و همست ببكاء لا تعلم متى بدأ
( حاتم أرجوك .......... )
الا أنه كان في حالٍ من الغضب الأعمى جعله لا يرى بكائها و لا يسمع توسلها ....
فصرخ بجنون
( ذهبتِ لرؤية طليقك !! .......... و أخذتِ ابني معك !! ...... )
نهضت من السرير بسرعة وهي تبكي هاتفة
( كنت أظنه في حالٍ خطيرة ...... لم أفكر ........ )
صرخ حاتم بجنون وهو يمسك بكتفيها يهزها بقوة
( هل أنتِ طبيبة ؟!! .... هل أنتِ أحد أقاربه ؟!! ..... ما هو دورك هناك ؟!! .... )
أغمضت عينيها مرتعبة من صراخه فصرخت هي الأخرى باكية
( لم أفكر ...... اندفعت ........ )
صرخ حاتم يقاطعها بجنون
( معمية القلب ....... اندفعتِ معمية القلب يا كرمة ....... )
فتحت عينيها الباكيتين تنظران اليه بصمت .... فهز رأسه قليلا .....ثم قال بخفوت شرس
( أنتِ تحبينه يا كرمة !! ....... و ذهبت لرؤية الرجل الذي تحبين ..... )
بكت كرمة و هي تهمس بعذاب
( لا ........... )
الا أنه صرخ بجنون يهزها مجددا .....
( دون علمي ...... و ابني معك !! ..... ماذا تفعلين بحياتي !! ..... أي خللٍ هذا !!! ..... )
صرخت دون تفكير
( كنت في حاجةٍ الى محمد ........... )
صرخ بعنف و جنون (؛ ماذا !!!! ........ )
حينها صرخت بهلع و رعب و هي ترتجف بقوة
( محمد ابنك ..... اقسم قصدت محمد ابنك و ليس محمد زوجي ....... )
صرخ حاتم وهو يدفها الى الجدار بجنون
(زوجك !!!!! ............ )
صرخت برعب
( السابق .,,....... أقصد السابق ..........)
الا أن حاتم كان في حالة من الجنون منعته من سماع أي كلمة تبرير منها فصرخ بعنف
( كيف تجرؤين ؟!!! .......... من تظنين أنكِ متزوجة منه !! ..... هل لهذه الدرجة منحتك شعورا بأنكِ متزوجة من أقل من رجل !!! ......)
صرخت كرمة و هي تسد أذنيها بكفيها و هي تبكي بعنف
( لا تصرخ ......... لا تصرخ ...... سأرحل من هنا حالا .... لكن لا تصرخ أرجوك .... )
صمت يلهث بعنف وهو ينظر اليها ... فسقطت يداه عن ذراعيها .... حينها انزلقت على الجدار حتى جلست أرضا و هي تسد اذنيها باكية بعنف
كان ينظر اليها بوجهٍ مرعب و عينان تقطران جنون رجولةٍ مهانة .... فهمس مجددا
( ماذا تفعلين بحياتي !! ............. )
بكت بقوةٍ وهي تطبق أجفانها .... و همست بنشيج عنيف
( أنا آسفة ........ أنا آسفة ........)
ظل ينظر الي حالتها المنهارة .... كان يعلم أن زوجها يسيء اليها .... نفسيا و جسديا .... و ما تخيل يوما أن يثير بها شعورا مماثلا .....
كان تنفسه في تلك اللحظة اقرب الى نشيج خشن هادر ..... ووجد أنه سيفقد البقية الباقية من آدميته ....
لذا قال بقوة وهو يبتعد في اتجاه الباب
( سأخرج .............. )
بكت كرمة و هي تتوسله دون أن تنظر اليه
( لا تفعل أرجوك ....... لا تفعل ......... )
الا أنه نظر اليها بحزن و غضب ..... و للأسف كان الغضب يفوق الحزن , لذا خرج قبل أن يفعل ما قد يندم عليه ...... بينما بقت كرمة جالسة أرضا تبكي بحرارة و عنف .....
.................................................. .................................................. ....................
عاد حاتم في ساعةٍ متأخرة من الليل .... و كان البيت كله مظلما ساكنا كما تمنى .... حتى أنه دعا الله أن تكون كرمة نائمة كي لا يراها
لقد أذاها اليوم بشدة ....... لكن أذيتها هي كانت أضعاف .... لقد ضربت صميم شرقيته .... و استهانت بكرامته حين ذهبت للقاء طليقها ..... و الأفظع عليه كرجل ... هو أنها ذهبت لتقابل حبيبها .....
لم يشفع لها أنه مريض أو يموت .... أو أي تبرير آخر
بالنسبة له الجملة تامة ...... كرمة ذهبت للقاء الرجل الذي تحب ......
ظل ساعاتٍ و ساعاتٍ يطوف بسيارته كالمجنون ... دون أن يهدأ جنونه ولو للحظة .......
ارتمى حاتم على الأريكة ..... مسندا رأسه الى كفيه ..... ثم لم يلبث أن همس بصوتٍ أجش
( ماذا فعلت بحياتك يا حاتم .......... )
سمع صوتها يهمس بحزن من عند الباب
( أدخلتني اليها ........ و قد حذرتك سابقا ...... أنا كتلة من التعقيدات .... )
رفع وجهه بسرعةٍ ينظر اليها ..... ثم لم تلبث عيناه أن جحظتا بذهول وهمس
( ياللهي !!! ..........)
كانت كرمة تقف عند الرواق المؤدي الى غرف النوم ...... لا لم تكن كرمة .... بل كانت ملكة غريبة من السحر .....
مد حاتم يده يضغط بها اعلى عينيه قليلا كي يتأكد مما يراه .....
كانت واقفة تستند الى جدار الرواق بيدها ... وهي ترتدي روبا فتوحا بحرية من الحرير الأزرق الداكن بقتامة و أكمامه من الشيفون الكحلي ....
بينما شعرها المتراقص حرا على ظهرها و كتفيها بجموح .... و تحت الروب كانت ترتدي أمام ناظريه المذهولين ... قميص نوم قصير .... قصير للغاية .. من الشيفون الكحلي !! ....
رمش بعينيه عدة مرات و هو يتأكد من رؤية جسدها الناعم بهذا الشكل الفج !! .... و ما أن تأكد حتى نهض قافزا من مكانه وهو ينظر الى الرواق الآخر .... ثم نظر اليها يهتف هامسا بغضب و جنون
( كيف تخرجين بهذا الشكل من غرفتك ؟! ..... قد يستيقظ محمد ليشرب أو لأي شيء آخر ....)
ارتجفت كرمة قليلا من حدته .... و هي في الأساس تموت بداخلها ألف مرة في تلك اللحظة من عمق الجرأة و الوقاحة التي تمثلها .... و كادت أن تفقد ثقتها بالموقف .....
لكن عيناه اللتان جريتا على جسدها .... تبعهما نفسا اجش سحبه بصعوبة و هو غير قادر على خلع عينيه عنها ...... بإستثناء وجهها ... فلم يعيره أدنى اهتمام ....
فاستعادت بعضا من ثقتها ..... و قالت بجرأة
( اذن من الأفضل أن تدخلني قبل أن يخرج محمد ........ )
عاد حاتم ليتنفس بحدة و تحشرج ..... لكنه همس بجفاء
( أنت لا تدرين ما تفعلين ...... أنتِ في حالةٍ هيستيرية ...... )
همست كرمة بطفولية حقيقية صادقة
( اذن أدخلني و هدئني ...... لأنني لست في حالٍ جيدة )
هتف حاتم همسا وهو يشعر بصدره يحترق بجنون
( ادخلي يا كرمة ........ فأنا لست من حجر ......)
أطرقت برأسها أخيرا و سلمت بأنها ليست ماهرة تماما في حقل الإغراء .... و لم تكن يوما على ما يبدو ....
ثم قالت بخفوت متقطع و هي تنظر الى البساط الزغبي تحت قدميها العاريتين شاعرة بأنها تتمنى لو تنشق الأرض و تبتلعها
( أنا أريدك أن تقضي الليلة معي يا حاتم .....أنا في حاجةٍ ماسة لهذا ... و لو رغبت في أن أرحل غدا فسأرحل دون نقاش..... أما لو لم تريد ذلك فأنا أعتذر عن ازعاجك )
ثم استدارت تبتعد عنه متجهة الى غرفتها ...... و ما أن دخلت حتى شعرت بوخزٍ من الدموع في عينيها .... لكنها تجمدت فجأة حين سمعت صوتا من خلفها ... فاستدارت بسرعة و قلبها يخفق بعنف ..... لتجد حاتم يدخل الغرفة ببطىء ....
ملامح وجهه صلبة .... ينظر اليها بجفاء ... على الرغم من الرغبة الظاهرة في عينيه ... ثم أغلق الباب ببطىء متعمد وعيناه عليها .....
برقت عيناها قليلا ... و فركت أصابعها بتوتر ...... و كم شعرت بجنون الخجل و عيناه تطرقان كل ذرةٍ من جسدها في ظل ضوء المصباح من خلفها .....
حين خرجت اليه كان الظلام يدثرها .... أما الآن أصبحت مكشوفة اليه تماما ... و رأت بهلع كل جزء من جسدها منعكسا في عينيه ...
تكورت أصابع قدمها تحتها من شدة التوتر ... و شعرت في هذه اللحظة أنها عروس جديدة ... لم يمسها رجل من قبل .....
حتى أن خوفها كان حقيقيا .... خجلها كان حقيقيا .... ارتباكها كان حقيقيا .....
أغلق حاتم الباب بجفاء و عيناه عليها .... ثم قال قبل أن يقترب بلهجة تحذير جافة
( لو بدأت هذا بيننا .... فلن يكون هناك رجعة بعدها ..... لا مزيد من الفراق ... لا مزيد من عبارة أريد أن ينتهي الأمر بسرعة ..... لأنني سأكون متمهلا ..... متمهلا جدا ..... فهل أنتِ مستعدة لذلك ؟!! ... )
ابتلعت كرمة ريقها بصعوبة ... لكنها أومأت برأسها ترتجف ....
لكنه لم يتسامح بعد ... بل قال بصوتٍ خافت لكن مخيف
( لو ذكر اسم طليقك بيننا مجددا .... أو حتى عبر طيفه خيالك ... سيكون عقابك شديدا يا كرمة .... و انا أعني ما أقول ...... )
همست كرمة بغباء و هي تنظر اليه بعينين متسعتين
(؛ و كيف ستعرف ما بخيالي ؟!! ............. )
اقترب منها ببطى و عيناه على عينيها .... الى أن وصل اليها فوقف أمامها ليمد يديه فجأة .... مزيحا الروب عن كتفيها بحركةٍ واحدةٍ جعلته يسقط أرضا عند قدميها وهو يقول ببساطة
( لأنني أنوي اقتحامه ............ )
ثم اتجه الى السرير أمام عينيها الذاهلتين و خلع ملابسه بسهولةٍ و يسر وهو ينظر اليها دون خجل ... بينما كانت هي فاغرة شفتيها بذهول الأطفال و صدمتهم مما يحدث ....
و ما أن استلقى على السرير حتى أشار اليها بإصبعه قائلا بجفاء
( تعالي ............. )
ابتلعت كرمة ريقها .... و اتجهت اليه بصمت لتستلقي بجواره و قلبها يخفق بعنف ... و ظلت منتظرة ... منتظرة .... الى أن فتحت عينيها مجددا و نظرت الى وجهه المتصلب و الغير متجاوب بحيرة و تساؤل ....
فقال بخشونة
( ستكملين الدور الذي بدأته يا كرمة ...... أجعليني أشعر برغبتك ..... و الا فانسي الأمر .... )
عادت كرمة لتبتلع رقيها حتى سعلت بقوة .... و ما أن رفعت يدها تهدىء من صدرها اللاهث بعنف حتى فتحت عينيها تنظر الى السقف بصمت و هي تعد من واحد حتى عشرة كي تهدىء نفسها .... و ما أن انتهت حتى اقتربت منه ببطىء لتنام على صدره ... مخفضة وجهها اليه تقبله بكل كيانها المتعب و المحروم عاطفيا .و هي تستلم للعذوبة التي طالما تسائلت عن فحواها منذ أن تزوجت هذا الشخص الذي حملها للتو في لحظة جنون فوق صدره ليسحقها بشوق مديرا رأسها ذات اليمين و ذات اليسار بقبلاته المسكرة في قوتها .... ناسيا فظاظته و كل تبجحه بأن تبادر هي !!!
.
أنت تقرأ
بعينك وعد. 🌺 بقلم تميمة نبيل 🌺
Randomوأقف أمامك بأعين متضرعة الأرنو اليك بنظرة تلتقطها عيناك من فورها توقف فقط توقف وخذ عينيك بعيدا نظراتك تقتلني وأيامي تضنيني والأمل بعيد بعينيك بحر متلاطم الأسرار ...