4

3.7K 89 1
                                    

  الفصل الرابع :
كانت تقف خلف منضدة البيع الرخامية بعد انصراف صاحبة المحل ظهرا كي تترك المحل في عهدتها كما تفعل كل يوم و في نفس الموعد ...
انحنت ملك تستند الى المنضدة و هي تلعب بهاتفها الذي يعد معظم اصدقائها و أهلها .... أو بمعنى أصح يضم جميع أصدقائها ....
حيث بنت لنفسها العديد من الصداقات الإلكترونية في هذا العالم الإفتراضي ... و باتت تتكلم طوال اليوم و تضحك و تلعب ... حتى انها بعد أن تترك هاتفها قليلا ... تظن بأنها قد ملأت المكان من حولها صخبا و ان الجميع استاؤو من كثرة ثرثرتها الإلكترونية و ذلك العالم الذي دفنت نفسها به و بنت منه عائلة واسعة ....
كانت تقف الآن على حالتها تلك ... منحنية الى المنضدة ... تطرق بساقها لحنا رقيقا و تدندنه بشفتيها الرقيقتين بينما تضحك من آن لآخر الى شاشة هاتفها العائلي ....
و ضفيرتها الذهبية الطويلة كانت منسدلة على كتفها لتستلقي براحةٍ على المنضدة أمامها ... في أعلاها مثبتة وردة جورية صفراء غريبة هذه المرة ....
إنها وردة بين الورود !! ......
وجهها الوردي ... و شعرها الطويل ذو الوردة ... كل ما بها يجعلها وردة بين الورود ....
سمعت ملك صوت الأجراس النسيمية على الباب تعلن عن دخول أحدهم ... فرفعت نظرها اليه , لتتسمر في وقفتها قليلا .... قبل أن تستقيم مبتسمة بخجل حذر ....
نظرت اليه تماما كالمرة السابقة ... و هو يتنقل ناظرا الى الورود , كفيه في جيبي بنطاله الجينز ... واضعا نظارته الداكنة فوق عينيه الرائعتين ....
يتعمد اظهار بأنه لا يلحظها .... فظلت واقفة مكانها تنتظر و ابتسامة تداعب زاوية شفتيها ...
الى أن لم يجد بدا من التقدم اليها ببطء .... يتظاهر بأنه لا يزال ينظر حوله .... فاتسعت ابتسامتها قليلا ... قليلا فقط ...
قبل أن يضطر مرغما الى أن يقف أمامها أخيرا ... موجهها وجهه اليها .... أخيرا !! .....
انتظر لحظة ... ثم لحظتين ... ثم ثلاث .... قبل أن يقول بخفوت من خلف زجاج نظارته الداكنه
( مساء الخير ....... )
همست ملك ببساطة
( لقد تأخرت اسبوعا ....... )
شعرت بأنه ملامحه قد تجمدت قليلا قبل أن يقول بحذر قلق
( عفوا !! ...... تأخرت !! .... على ماذا ؟؟ )
كانت تنظر اليه في عمق عينيه ببساطة ... ثم قالت باتزان مبتسم واثق
( جئت من اسبوع .... و طلبت باقة ورد , .... ثم قررت أن تعود مساء ذلك اليوم لتأخذها ..... لكنك لم تأتي من وقتها ..... )
فتح شافتيه قليلا و قد تجبست ملامحه ... ثم قال بصوت غريب
( انكِ ...... تتمتعين بذاكرةٍ قوية )
اشرق فمها الجميل ابتساما ...... ثم همست
( بل هي الأفضل ............ )
ابتسم ابتسامة شاحبة مهتزة قبل أن يهمس
( جيد ............. )
تابعت ملك بابتسامتها البراقة
( حين كنت صغيرة كانت معلمتي تدعوني بصاحبة الذاكرة الحديدية ....... )
عادت ابتسامته لتهتز و تفتر الي ان اختفت .... قبل أن يعاود الهمس دون ابتسامة
( هذا رائع ....... لكِ )
أومأت ملك بإبتسامة تكاد تكون متحدية براقة
( نعم هو رائع بالفعل .......... )
استمر الصمت بينهما للحظة قبل أن تشد ملك من كتفيها برشاقة لتقف منتصبة و يداها الرقيقتان على المنضدة أمامها لتقول بلهجة لها رائحة الورود
( اذن ....... هل أحضر لك باقتك اليوم أم ستنتظر لأسبوع آخر )
شعرت به مترددا ... مرتبكا ... على الرغم من مظاهر الثراء المحيطة به , الا أنه يبدو كطفلٍ ضائع ..... و خائف , لذا رق له قلبها الطيب ... فانتظرت مبتسمة لكي ...... يتخذ قراره !!
أخيرا قال بصوتٍ خافت يحاول أن يكون مازحا ....
( هل هذه محاولة جر قدم ؟؟!! ..............)
اشرقت ابتسامتها و ظهرت أسنانها الؤلؤية و هي تقول بقوة
( بالتأكيد ...... نحن نحاول كسب زبونا ... )
ابتسم بضيق و هو يومىء برأسه متفهما .... بينما عيناه المطرقتان تختلسان النظر اليها بين الحين و الآخر من خلف زجاج نظارته الداكن .... وهو يظن بأنها لا تلاحظهما ...
ثم قال اخيرا مقررا
( نعم أريد باقة ....... كبيرة ..... جميلة )
قالت ملك برقة دون أن تتعجله
( باقة من أي نوع ؟؟ ......... )
ظهر تردده جليا أكثر ... ثم قال وهو ينظر أرضا الي شيءٍ وهمي
( أريد باقة على ذوقك ........ )
اتسعت ابتسامتها اكثر ... على الرغم من الإحمرار الجميل الذي يزين وجنتيها , لكنها قالت ببساطة
( حسنا ....... لو ذكرت لي المناسبة , و مكانة الشخص الذي ستقدمها له , ربما اتمكن حينها من مساعدتك )
سمعته يتنفس بوضوح ... و حاجبيه ينعقدان محاولا التركيز على معلومةٍ معينة كي يستحضرها كي يدلو بها ...
فساعدته ملك تهمس
( هل هي لخطيبتك ؟؟ ..... حبيبتك ؟؟ ..... ام صديقتك ..... ام مجرد مجاملة اجتماعية ؟؟ )
ارتفعت عيناه اليها كما ارادت فابتسمت لهما , فقال مترددا ....
( لا ..... لرجل كبير ..... اممممممم ... مريض ..... شيء بسيط )
فكرت ملك بنها باقة مختلفة تماما عن تلك التي طلبها في المرة السابقة .... لكنها لم تظهر ذلك فأومأت لتهمس برقةٍ بطيئة
( و ما درجة قرابتك به ؟؟ ............ )
نظر اليها بقوةٍ تكاد نظراته ان تخترق زجاج النظارة الداكن فسارعت للقول بود
( تعلم أن ذلك يشكل فارقا في الباقة .... اليس كذلك ؟؟ ...... )
حين لم يرد و لم يخفض نظرته ذات الزجاج الداكن عن عينيها فتابعت بهمس
( أنا أتعامل مع الورود و كأنني أتعامل مع البشر ..... لكلا منها شخصيتها و طبيعتها و ....و درجة قربها الي من ستذهب اليه ...... )
ظل الصمت يحيط بهما قليلا .... قبل أن يقطعه قائلا بقتامة
( نعم ........ أستطيع تفهم ذلك ..... انه ..... في مثابة جدي ...... )
خفتت ابتسامتها قليلا ... لتهمس بعد فترة
( هذا لطيف ...... )
صمتت ثانية تنظر اليه لتجد أن نظرته قد اختفت تحت جفنيه المنخفضين ... المنشغلين عنها ...
فهمست متابعة ...
( خذ راحتك و أنا أعدها ..... دقائق و ستكون جاهزة )
أومأ برأسه دون أن يرد و دون أن ينظر اليها ... لبدأ رحلته المعتادة في التجول بالمكان دون حتى أن يهتم بخلع نظارته !! ....
بينما بدأت اصابعها الرقيقة في تجميع التيوليب الأبيض ذي السيقان الخضراء النضرة الطويلة ....تلفهها بورق أخضر واسع يشبه أوراق شجرة الموز ...
و أثناء لفها للباقة بورقٍ أبيض نصف شفاف كانت تنظر اليه بين الحين و الآخر ... يقف في آخر المحل , يعطيها ظهره ... ينظر من خلف كتفه مرة بعد مرة فيصدم بابتسامتها المنتظرة لإخلاساته
فيعيد نظره بعيدا بسرعة البرق ....
أخيرا ربطت الباقة بشريطين أخضر و ذهبي لامعين ... ثم أمسكت بها بين يديها و فوق صدرها كعروسٍ تنتظر ..... تنظر الي ظهره بحرية طالما أنه لا يريد أن يبادلها النظر .... و حين شعرت بأنها قد اكتفت لكن ليس من وجهه بعد نادت برقة
( باقتك جاهزة ............ )
تسمر قليلا لسماع صوتها .... ثم استدار اليها ببطء لتتجول عينيه فوقها متمهلة على ضفيرتها الطويلة النائمة
ثم أخذ يقترب منها ببطء حتى وصل اليها ... ليلقى نظرة على الباقة الرائعة قبل أن يلتقطها منها ببطء ... ثم همس
( إنها رائعة ........ )
ابتسمت أكثر هامسة مثل همسه
( أشكرك ............ )
اخرج من جيبه بطاقة مالية ذهبية يقدمها لها ... الا أنها ظلت تنظر اليها قليلا بصمت قبل أن ترفع عينيها اليه هامسة
( نحن لا نتعامل بها ........... )
أومأ برأسه قبل أن يخرج ثمن الباقة فأخذته منه تحرر وصلا ... لتجده بعد لحظة يمد ورقة مالية جديدة برائحة المصرف اليها على سطح المنضدة الرخامية .... فرفعت نظرها اليه متسائلة , ولوهلة شعرت بأنه الكلام يصعب لديه ... لكنه قال أخيرا بلا تعبير
( إنها لكِ ........ )
اشتدت ملامحها و تصلبت على الرغم من عدم ظهور اي تعبير على وجهها ... لكنها همست بأدب
( لا شكرا ..... لا آخذ إكراميات )
ظلت كفه مفرودة على الورقة المالية دون أن يتحرك ... ثم قالب بعد فترة بصوت فاتر يكاد يكون به برود العنجهية ... فقط يكاد .... لمن يعرف لهجته جيدا .....
( لا أعتقد ذلك ........... )
اشتدت ملامحها أكثر ... و ظهرت الكبرياء على ملامح عمرها الفتي و هي تقول بحزم
( آخذ ممن أقرر أن آخذ منه ..... لا أحد يجبرني على مالا أريده )
رفع ذقنه هو الآخر ... ليقول ببرود
( و قررتِ من مرةٍ واحدة فقط الا تقبلي بإكرامياتٍ مني ؟!! ........)
قالت بهدوء و تحدي بعد فترة صمت
( بل مرتين يا ....... سيد كريم )
التوت شفتيه في حركةٍ خاطفة لا إرادية حين شددت على حروف اسمه .... فتابعت بمودة مبتسمة حين لاحظت سكونه المفاجىء
( ذاكرتي الحديدية .............. )
أومأ بما يشبه ابتسامة لا معنى لها ..... قبل أن يسحب يده بالورقة المالية ليشدد قبضته على الباقة و كأنه يخنقها ...
ثم ابتعد خطوتين للخلف بظهره .... ناظرا اليها قبل أن يقول بخفوت
( شكرا ...................... )
لكن و ما أن ترتكته يبتعد حتى نادت وهي تميل على المنضدة الرخامية بيديها و جسدها بأبتسامةٍ مشرقة
( نتمنى رؤيتك مجددا ............. )
استدار اليها ... متراجعا دون ان يتوقف ... و من خلف زجاج نظارته الزجاجية ... رأت عيناه تبتسمان!!
قبل أن يرفع الباقة ملوحا بها بغرور وهو يستدير مجددا خارجا من الباب .... محدثا أصوات الأجراس من خلفه .... بينما بقت تنظر للباب المغلق و هي تتسائل ان كان سيتأخر اسبوعا هذه المرة ....
أو ربما قد اكتفى و قرر الا يأتي ابدا ........
.................................................. .................................................. ........................
نزلت من غرفتها بعد ساعتين من استيقاظها .... ساعتين و هي تقرر ان كانت ستخرج من حبسها الإنفرادي أم ستظل قابعة به ....
لذا ففي الأخير قررت الإفراج عن نفسها و خرجت بتكاسل ... انسانة أخرى ,.... و كانها مجهدة من الإنساة التي كانتها من قبل ....
لذا خرجت بقميصٍ فضفاض ... يعلو بنطالا قطنيا مريحا .... بينما تركت شعرها دون تصفيف أو تمويج خصلات ... فأصبح على طبيعته هشا طائرا مع نسيم الهواء دون أي شكل معين .... بالكاد يتعدى كتفيها ...
حتى شعرها المصبوغ كان مجهدا مثلها من استمرار صبغه و تمويجه ليصبح في صورة لفائف جذابة عصرية
وجهها المرهق ... نظفته تماما و خرجت به دون اي لونٍ اصطناعي عليه ....
لم تعلم بأنها قد ظهرت و كانها ابنة السادسة عشر .... فلقد كانت تلك هي منحة الطبيعة لها , الا أنها في نفس الوقت كانت الجاذب لأصحاب العقول المريضة .....
اتجهت شيراز الى مقهى الفندق ....تنوي الجلوس أمام البحر بصمت ... ترتاح ... فقط ترتاح علها تمحو المشاهد البغيضة من التقافز الى عقلها ....
جلست ببطء تنظر حولها بطرف عينيها ... ترى إن كان هناك من يتابعها متذكرا الصفعة التي تلقتها على الملأ بالأمس ....
سيكون من أسوأ أيامه حظا إن رأته اليوم ... أو أبدا ....
أيظن أنه بباقة ورد سيمحو فعلته الحقيرة !! ....
كان مصير ورداته القذرة هي مكب النفايات حيث تنتمي .... فقط فليفعل طيبا و لا يظهر أمامها كي لا تفتعل الفضائح مع إدارة الفندق ....
طلبت بالكاد قهوتها التي تعرفها حق المعرفة .... ثم استندت الى مقعدها تستسلم الى نسمات الهواء التي تربت على وجنتيها بنعومة فأغمضت عينيها لها تشعر بإحتياج قوي الى تلك المعاملة الحنونة ...
سمعت صوت قدح قهوتها يوضع على الطاولة أمامها ففتحت عينيها تنظر الي النادل الواقف بجوارها مبتسما ... فهمست بتردد و بشفتين متيبستين
( شكرا ........... )
الا أن آخر حروف الكلمة اختنقت في فمها قبل أن تخرج ما أن أبصرت الجلف الحيوان الذي صفعها بالأمس آتيا من بعيد .....
تشنجت عضلاتها و بدأت هرموناتها الشرسة المدافعة عن النفس في الإنتشار بأوصالها ... حتى بدأت شعيرات رأسها في الوقوف انتظارا ...
و اقسمت بداخلها بأنها سوف تصفعه مرة أخرى لو تجرأ على الإعتذار لها .... فاستقامت مستعدة منفوشة الشعريات الإستشعارية ....
الا أن نظرته اصطدمت بنظرتها في ذلك الوقت ..... فارتجت في أعماقها و هي ترى نظرة بأس قوية شملتها كلها في لمحةٍ واحدةٍ بها تهديد خفي من أن تفتعل أي مشهد ....
و شفتاه كذلك اشتدتا كملامح وجهه كلها .... و ما أن مر بها حتى نظر أمامه يتجاوزها يتجاهلها تماما !!....
ظلت شيراز مستقيمة في جلستها متشبثة بذراعي مقعدها بشراسة ... عاقدة حاجبيها بغضب غير مصدقة ...
حتى انها التفتت برأسها تنظر الي ظهره وهو يغادر ... دون أن يحترمها ولو بنظرة .....
همست بإنفعال داخلي
( ما باله هذا الأحمق ؟!! ........)
عادت تلتفت أمامها و هي تشعر بغليان الدم في عروقها ... و تدفق الغضب أضعافا ....
كيف تركت حقها بهذه البساطة ؟!!!
لماذا لم تطلب محاسبته ؟؟!!! ....
الحقير لم يعتذر لها و لم يحترمها حتى بنظرةٍ لائقة !!! .....
الا يعلم ممن كانت متزوجة ؟!! ..... زوجها السابق يستطيع أن يجعله يلعق الأرض استرحاما ...
لكن هذا أولا بعد أن يغفر لها ما فعلته به قبل الطلاق ....
من بعث اليها باقة الورود اذن ؟!!! ....
نهضت من مكانها بقوةٍ جعلتها تصطدم بحافة الطاولة فانسكبت قهوتها عليها الا أنها لم تعبأ بها و هي تندفع بهمجية الى بهو الفندق حيث موظف الإستقبال المهذب مرسوم الوجه يجلس مبتسما
لكن ابتسامته اختفت ما ان رآها مقبلة بصورةٍ تخبره بوضوح بأنها تنوي افتعال المشاكل .... بل و الفضائح لو أمكن ....
و بالفعل وصلت اليه شيراز ثم ضربت بقبضتيها على سطح منضدة الإستعلامات و هي تقول بحدة
( أريد أن أرى المسؤول هنا ........ )
اندفع المدير المسؤول عن العلاقات العامة يسألها بقلق و قد تعرف عليها من ليلة أمس فشحب وجهه و توترت ملامحه ....
( صباح الخير سيدتي ...... هل هناك من خطبٍ ما ؟؟ )
استدارت اليه شيراز بعنف و هي تقول
( ألازلت تسأل ؟؟ !! ...... أريد أن أتهم نزيل هنا بالتحرش ... و التهجم و الإعتداء )
اصبحت ملامح الرجل في حالةٍ يرثى لها ... و هي تذكر أخطر ثلاث كلمات قد تدمر سمعة فندق محترم و على الملأ .... فقال بنبرةٍ مهذبة
( اهدئي سيدتي ....... رجاءا و دعينا ... )
صرخت شيراز و قد فقدت صبرها
( أهدأ ؟!! ...... لقد رأيت ما حدث بالأمس بنفسك )
ارتجف الرجل الضخم المنمق و هو يرى بعض السائحين و قد بدأو بالإهتمام و الإنتباه للموقف .. فنظر اليها بقلق مترجيا
( ظننت أن الأمر قد تم حله وديا سيدتي ..... خاصة و قد انقضت الليلة على خير )
هتفت شيراز بحدة
( ظننت ؟!!! ..... ظننت ؟!! ...... أي فندق هذا ؟!! .... و هل أحل الأمر وديا مع متحرش ؟!! )
انتفض الرجل و هو يقول محاولا تهدئتها بشتى السبل
( سيدتي .... رجاءا لما لا نتجه الى مكتبي و دعينا نكمل حديثنا هناك ....)
هتفت شيراز
( نكمل حديثنا !! ..... نعم ولما لا تطلب لي قالب حلوى كي يطيب لنا الحديث و أنا أخبرك كيف مد يده و لمس صدري !!!...... )
رفع الرجل يديه طلبا للنجدة وقد احمر وجهه و شعر بأن الفضيحة قد بدأت بالفعل ... فقال مترجيا للمرة الأخيرة
( سيدتي أعدك أن تتم ترضيتك كما تأمرين فقط لنذهب الي مكتبي ..... رجاءا .... رجاءا ... )
كانت شيراز تلهث نارا و لهيبا بينما احمر وجهها غضبا من العدم ..... فلم تكن تلك هي حالتها حين استيقظت , لكن يبدو و كأن النيران التي تجيش في صدرها بين حين و آخر قد اندلعت و انتهى الأمر ... و لن يستطيع شيء منطقي أن يخمدها أبدا ....
استغل الرجل توترها و ارتجافها حنقا فمد ذراعه خلف ظهرها دون أن يلمسها و هو يدعوها مبتسما بترجي قائلا
( تفضلي سيدتي ..... رجاءا , و أعدك أن يتم كل ما تطلبينه ......)
ظلت تنظر اليه بغضب ناري أحمر و هي لا تعلم تحديدا خطوتها التالية ... الا أنها سارت أمامه الي حيث يشير فتنفس الرجل الصعداء خلف ظهرها و هو يجفف عرقه محاولا الإبتسام للسائحين الناظرين بإهتمام ...
الحمد لله أنها كانت تتحدث العربية ... خاصة مع موضوع ال ....!!!! .... احم ...
تنحنح الرجل بوجهٍ أحمر وهو يعدل سترته يتبعها بإحترام و ابتسامة لائقة ..... قلقة .....
دخلت شيراز الى الغرفة التي أشار اليها الرجل ثم تبعها مبتسما بقلق و هو يغلق الباب من خلفهما ...
فوقفت أمام المكتب الأنيق .... لتستدير اليه بغضب و هي تقول
( ها أنا قد أتيت الى هنا يا محترم ...... أخبرني كيف ستتصرف إزاء هذا الوضع )
قال الرجل بتهذيب مبالغ فيه و هو يستدير ليجلس خلف مكتبه
( تفضلي اجلسي سيدتي ..... )
ضربت شيراز الأرض بقدمها و هي تصرخ
( لن أجلس ....... اريد أن اعرف ما هي الإجراءات التي ستتخذها ضد هذا الحقير ....و الا سأتصرف أنا بنفسي )
قال الرجل مترجيا يكاد ان يجلسها بنفسه
( اجلسي سيدتي رجاءا .... و سنتفاهم ... رجاءا )
تأففت شيراز بصوتٍ عالٍ ثم رمت نفسها على الكرسي الجلدي امامه و هي تضع ساقا فوق اخرى بصلف و غرور ... غير مدركة انها ترتدي خف بحر مطاطي ... و ليست احدى احذيتها الأنيقة ذات الكعب العالي .!! ....
قال الرجل بلهجةٍ مدروسة
( ماذا تحبين أن تشربي ؟؟ ........ )
مالت شيراز الى سطح المكتب مندفعة بيديها و صدرها حتى ان الرجل تراجع قليلا وهو يعدل من رابطة عنقه قلقا منها ... فهي لا تبدو متزنة تماما ... و هي تقول بلهجة فحيح مهددة
( لا تختبر صبري طويلا .............. )
أومأ الرجل برأسه نصف إيمائة ... ثم قال مشبكا كفيه معا
( سيدتي ...... الوضع ليلة أمس كان به لبس و سوء تفاهم , و محاولة تضخيم الأمر لن تجدي )
هتفت شيراز بجنون
( سوء تفاهم !!! ....... هل هذا هو كل ما لديك ؟!!! .... حسنا دعني أخبرك بأنني سأضخمه و اضخمه و اضخمه حتى ينفجر في وجوهكم ...... )
عادت شيراز الي ظهر مقعدها و هي تلهث انفعالا و حنقا .... بينما تحول وجه الرجل داكنا وهو يقول بقلق
( هل تعرفين اسمه سيدتي أو هويته .......)
نظرت اليه شيراز بغضب و هي تهتف
( و من أين لي أن أعرفه ..... بالأمس كان اليوم الأول لي هنا .... )
رفع الرجل عينيه الي السماء شاكرا ... ثم عاد ليرسم قناع الحكمة على وجهه و هو يقول بإتزان
( حسنا سيدتي .... سنحاول معرفة من تقصدينه )
نظرت اليه بذهول وهي تهتف
( أنت تعرفه ..... لقد رأيته بنفسك ..... كنت متواجدا بالأمس .... )
رد الرجل بعينين تحيدان جانبا و فم متيبس
( لا ..... لم أره ...... )
هتفت شيراز و هي تضرب سطح المكتب
( أنت كاذب ..... بل رأيته .... )
قال الرجل و هو يجفف عرقه رغم مكيف الغرفة
( قضية تحرش .... انها مسألة خطيرة , لذا يجب التيقن من هوية من تدعين عليه بذلك .... )
ظلت تنظر اليه بذهول .... ثم صرخت بجنون
( تعال معي الآن و سنبحث عنه ...... و حين أراه سأقدمه اليك بكل سرور من مؤخرة ياقة قميصه النتن )
همس الرجل بداخله ... ياللهي .... يبدو أن اليوم لن ينتهي على خير .... الغوث .....
الا أنه لم يكمل تفكيره حتى اندفع صوت الباب وهو يفتح مصاحبا لصوتٍ قوي يعرفه جيدا ...
( لا داعي لتعبكم ...... فقد أتيت بنفسي .... )
استدارت رأس شيراز كطلقة رصاص .... تنظر بوحشية الى ذلك الهمجي مفتول العضلات الذي يقف بباب غرفة المكتب و الذي كاد أن يخلع لها رأسها بالأمس ....
بينما أغمض مدير العلاقات عينيه يأسا .....
قفزت شيراز واقفة و هي تصرخ قائلة
( و تتجرأ على القدوم الي هنا بنفسك ....... )
اقترب منها ببطىء و عيناه على عينيها الخضراوين الثائرتين ليقول بصوت هادىء مخيف
( أردت أن أوفر عليكِ عناء البحث طويلا ..... )
ظلت شيراز تنظر اليه قليلا بذهول ناري غاضب قبل أن تستدير الى المدير صارخة بجنون
( ها هو يقف أمامك ...... ارني كيف ستتصرف معه ؟!! )
ابتلع الرجل ريقه وهو يقول بلهجةٍ منذرة بالخطر و القلق
( سيدتي .... أنتِ تهجمتيِ عليه أولا ... لذا لا يمكنني أن أفعل شيئا إزاء هذا ... )
اتسعت عينا شيراز كقطةٍ متوحشة و هي تصرخ
( لأنه تحرش بي ..... أمامك و أمام جميع الناس )
ظل الرجل صامتا قليلا ... ثم قال أخيرا بصوتٍ مكتوم
( لم يكن ذلك تحرشا ........... )
ظلت تنظر اليه و هي تشعر بأن قلبها سيتوقف من شدة غضبها و سرعة نبضاته ... و على الرغم من معرفتها سابقا بأنه لم يكن تحرش ... الا أن هياج غضبها قد اشعل فتيله و انتهى الأمر ...
فاستدارت الي الواقف خلفها ينظر اليها بهدوء قناص محترف .... فهتفت بفقدان سيطرة
( أنت قذر ... حيوان ... حقير .... عفن ... )
قاطعها بصوتٍ هادىء يكاد يرسل قشعريرة في الأوصال من قوته
( و أنتِ عديمة التربية ...... )
اندفعت اليه في لحظةٍ خاطفة و قد فقدت على ذرة سيطرة على نفسها تنتوي صفعه من جديد ... الا أنه كان جاهزا لها هذه المرة فأمسك بمعصمها يثبته عاليا حتى صرخت ألما ... فهزها بقوةٍ و هو يقول بصرامة مخيفة
( هل تتوقين لصفعة أخرى ؟؟ ...... لأنني لن أتوانى عن تكرارها لو لزم الأمر .... )
أخذت شيراز تتلوى و تجذب معصمها من كفه الحديدية دون جدوى ... حتى بعد أن ضربت قدمه بقدمها ... لم يشعر بها و كأن قدمه فاقدة الإحساس مثله ....بينما المدير وقف خائفا من مكانه قائلا بترجي
( سيد وليد ..... تمالك نفسك رجاءا )
الا أن وليد لم يلتفت اليه و لم يتخلى عن معصمها بقوة ....
ظلت تلهث قليلا بعد أن وقفت مكانها ... ساكنة ... مجنونة المشاعر ... مرتجفة رغما عنها .,,حينها فقط قال بهدوء
( هل انتهيتِ ؟؟ ....... )
نظرت اليه بعينين خضراوين شرستين كارهتين دون أن ترد ... فترك معصمها أخيرا ...دون أن تترك عيناه عينيها
حينها ارتدت الى المدير من خلفها تهتف بلهجةٍ تكاد تكون نحيب على الرغم من شراستها
( اذن ماذا ستفعل ضده ؟؟ ...... أنا مصممة على تقديم شكواي و سأضيف اليها تهجمه علي الآن .... أمامك )
تنهد الرجل بقوة وهو يشعر بأن الأمور قد ازدادت سوءا ... فقرر اختصار المسافات ليقول بخفوت
( سيدتي ..... هناك لبس مؤكد , السيد وليد من المحال أن يتحرش بأي نزيلة هنا ... فهو أكبر مساهم في هذا الفندق ...... )
عم صمت ثقيل المكان .... بينما شيراز تنظر اليه بجنون مذهول صامت ... ثم همست أخيرا
( هكذا اذن !!!! ............. )
ثم نظرت خلفها الى وليد الذي كان يتأملها مليا مكتفا ذراعيه بغرور... فعادت بنظرها الى المدير و كأنها فأر صغير وقع في المصيدة .... ثم هتفت بقوة
( اذن سأقدم بلاغا لشرطة السياحة ..... و سأشن عليكم حربا لتكن فضيحة لن تنسوها أبدا .... و أنا لن أبقى في هذا الفندق القذر للحظةٍ واحدة ...... )
اتجهت شيراز الى الباب تتجاوز وليد بعنف دون أن تحاول أن تمسه .... بينما كان المدير يحاول اللحاق بها هاتفا
( انتظري سيدتي رجاءا .......)
الا أن وليد أمره بصرامة بالا يتبعها .... و لم تسمع شيراز المزيد و هي تخرج بجنون من المكتب .... متجهة الى غرفتها اللعينة .....
اخذت تضرب الزر الغبي للمصعد عدة مرات عله بذلك يسرع في النزول لكن دون جدوى .... بينما كانت في حالةٍ يرثى لها ... نفس حالة القهر المصاحب لغضب مجنون حين يتم التعدي عليها دون أن تتمكن من أخذ حقها ممن هو أقوى منها .... حالة الفأر المحاصر ....
عادت لتضرب زر المصعد مرة أخرى بقوةٍ أوشكت على خلعه من مكانه .... الى أن وصل أخيرا و فتح أبوابه ...فوجدت العامل الصغير يقف مبتسما لها فدخلت بعنف الي الداخل دون أن ترد له ابتسامته ...
لكن وما أن واجهت الباب المفتوح حتى شاهدت المدعو وليد آتيا الى نفس المصعد فامتدت يدها تلقائيا بثورةٍ تضرب رقم طابقها قبل أن تصل يد العامل اليه ....
لكن يد وليد امتدت كي تمنع انغلاق المصعد ... وهو ينظر اليها بصلابة خطيرة قبل أن يقول بهدوء آمر
( أخرج من المصعد من فضلك ....... )
خرج العامل الحائر دون مناقشة ... الا أن شيراز بدأت في الصراخ
( أخرج من هنا قبل أن أُخرج مخك من رأسك ...... )
و حاولت تجاوزه الا أن جسده القوي سد طريقها والباب ينغلق أمام عيني العامل المذهولتين ....
ما أن بدأ المصعد في الصعود ..... حتى وجدت شيراز نفسها اسيرة ذلك المكان الضيق مع رجلٍ ذو مكانةٍ و نفوذ .... و قد تهجم عليها بالفعل مرتين من قبل .... فتراجعت لا إراديا الى أن وصل ظهرها الى المرآة من خلفها ... بينما اتسعت عيناها قليلا و هي تحدق بعينيه و قد تسارعت دقات قلبها من نظرته المخيفة ....
ثم اتسعت أكثر و هي تجده يقترب منها خطوة أخرى فصار المكان أكثر ضيقا بصورة مخيفة ....
فتوقف على بعد خطوةٍ منها وهو يقول بصوتٍ هادىء مخيف
( أتظنين أنني لا أعرف من هن من نوعيتك ؟؟ ....... )
لم ترد شيراز و هي تنظر اليه متسعة العينين ... لاهثة الصدر .... بينما تابع هو مصمما
( من تظن نفسها المجال الوحيد لرؤية اي رجل في المكان .... متوهمة ان الجميع راغب في التحرش بها و مغازلتها ..... لا لشيء سوى لأن تشعر بأهميتها ..... )
وصل المصعد الي طابقها حاولت تجاوزه مسرعة الا انه عاد ليسد طريقها بسهولةٍ ضاربا على زر النزول مجددا فانغلق المصعد .... فرجعت للخلف ترتطم بالمرآة متسعة العينين بخوف و هي تصرخ
( هذا المصعد مراقب ........... )
ابتسم وليد بقوة و هو يجيب بهدوء
( أتظنيني لا أعلم ذلك ؟!! .............. )
ثم تابع بهدوء
( أتسائل لماذا تفتعلين كل هذا المشهد ؟؟ ..... ظننتك عدت لعقلك بالأمس و و ها أنتِ تكررين نفس المشهد الحقير )
لم ترد و هي تتنفس بصعوبة من ضيق المكان بهما ... بينما صمت هو قليلا يتأملها جليا قبل أن يقول بصرامة
( أرني أقصى ما يمكنك فعله ....... و سأكون سعيدا بل أكثر من سعيد بقص مخالب واحدة أخرى من مثيلاتك )
وصل المصعد للأسفل و فتح أبوابه أمام العامل الذي لا يزال يقف منتظرا بعينين مندهشتين .... حينها تراجع وليد مبتسما لها بهدوء قبل أن يخرج من المصعد ..... بينما بقت هي واقفة متشبثة بالمرآة ... و عيناها المتسعتان بدأت في تجميع سحابتين سريعتين من الدموع ....
فدخل العامل ينظر اليها بقلق وهو يقول
( هل أنت صاعدة سيدتي ؟...... سيدتي ؟؟ ..... )
نظرت اليه شيراز دون أن ترد .... ثم أومأت برأسها دون أن جد صوتا كي تهمس به ....
.................................................. .................................................. .............................
منذ ايامٍ وهي ترتدي حلة الصمت ... و كأنها قد امتثلت لكل أوامره ... و إن كان لا يصدق ذلك ....
تدخل كل يومٍ بقهوته التي اعتادها من يدها .... حتى صار مذاق القهوة غريبا من يدٍ غيرها .... و كأنها وضعت بها بعضا من وعدٍ بشيءٍ مجهول .... به القليل من غموض عينيها ....
نظر اليها بطرفِ عينيها .... يراقبها و هي تضع القدح امامه بصمتٍ و تهذيب ... ثم تليه بكوب الماء ...
و ها هي ترتدي نفس الفستان الذي كانت تدور به منذ أيام ...المكشوف الذراعين ...
و كأنها تتحداه تحدٍ صامت ... تسأله بعينيها إن كان يجرؤ على انتقادها من جديد .... الفستان يذهب و يأتي في يومٍ خاطف و كأنها تدلل نفسها
أما الحذاء الجديد فثابت ... و قد أصبح رفيق أيامها الدائم منذ أن ابتاعته ..... بنقوده !!....
صحيح أنها استحقت تلك النقود و صارت ملكا لها .... لكن شعور أنها ابتاعت شيئا ما بنقوده تبث بعروقه نشوة غريبة ....
فهل هي بسبب انتقام ساذج يجري في دمه من ذلٍ رآه فيما ما مضى من عبد الحميد العمري ؟ ....
أم أن للأمر حساب آخر .....
رفع ملفا من أمامه ... ثم نادى ما أن استدارت
( خذي هذا سلميه لعلا أثناء خروجك ........ )
توقفت مكانها لحظة ..... فظهرت شبه ابتسامه على شفتيه .... لكنها اختفت ما أن استدارت اليه ... ثم اخذت تقترب منه بخطواتٍ رقيقه فوق بساطه البارز و المعتاد أن يخفي صوت خطواتها فيغيظه أكثر ...
الحق يقال ... أن الحذاء جميل في قدمها .... شتان ما بين تلك الصورة و الصورة التي انطبعت في ذهنه عن أول مرةٍ رآها فيها ..... لا تزال أنيقة رقيقة ..... لكن شتان ما بين الحذائين ...
كانت تقترب ببطىء دون أن تنظر اليه..... ففكر ساخرا
" تتجنب النظر اليه منذ أيام ؟...... حسنا لا بأس بذلك "
وصلت اليه أخيرا فمدت يدها بهدوء تمسك بطرف الملف ... الا أنها ما أن همت بجذبه حتى وجدت بأنه لا يسمح لها !! .... عادت لتجذبه مرة أخرى , الا أن الأصابع الحديدية كانت مشددة على الطرف الآخر من الملف ...
حينها رفعت عينيها الى عينيه متسائلة .....
ابتسم بضراوةٍ بداخله هامسا
" نلت منكِ ..... "
لكن وجهه الحجري كان يخفي ما بداخله بمنتهى المهارة وهو يقول ناظرا الي عينيها التي لم يرها منذ عدة أيام
( ماذا قلت لكِ بشأن ثوبك ؟؟ ........ )
اتسعت عيناها قليلا .. بينما زادت ابتسامته الداخلية و التي لم تطل الى شفتيه ... فقالت بخفوت
( لم تقل شيئا ........ )
رفع حاجبا غامضا و هو يسألها بخطورة
( حقا ؟!! .......... )
ثم قال بصوتٍ صلب
( ألم أطلب منكِ الا ترتديه هنا مجددا ؟؟ ...........)
أتسعت عيناها أكثر .... و اتسعت ابتسامته الداخلية أكثر و أكثر ... ثم قالت بخفوت
( لا ...... لم تطلب ذلك ....... )
رد سيف بصوتٍ شديد البأس ...
( و لا تتذكرين من الأساس !! ....... كم هذا رائع !! ..... )
كان يراقب عينيها المتسعتين بحرية ... و هما تدوران يسارا قليلا و قد بدأ شرودهما في محاولة يائسة لإستعادة كل أوامره السابقة ... علها تعثر على الأمر المفقود الذي يمنعها من اعادة ارتداء هذا الفستان ....
لكنها لم تفلح ... فعادت الحدقتان الواسعتان اليه ... تستقر فوق عينيه المستقبلتين لهما براحة .... لحظتين قبل أن تقول بخفوت
( لا أتذكر أنك طلبت ذلك .... سيد سيف )
انتظر سيف للحظة قبل أن يقول بهدوء بطيء
( أنا لا أطلب ..... أنا آمر فقط )
ظلت تنظر اليه بملامح صامتة مهذبة ... قبل أن تقول بخفوت مهذب كذلك
( و هل أوامرك تتضمن ملابس الموظفات هنا ؟! ....... )
للحظات ظن بأنه لم يجيد سماع ما تفوهت به للتو .... فقال بهدوء يسبق عاصفة خطيرة وهو يمد رأسه للأمام قليلا
( عفوا !! ...... ماذا قلتِ للتو ؟؟ !! ....... )
لم ترد .... ظلت تنظر اليه بهدوء و قد تعبت من ذلك السباق الذي تجري به منذ أيام و هي تحاول جاهدة تجنب جميع استفزازه لها كي تخطىء فيصرفها من العمل بدافع الإنتقام الغبي الذي لا يتناسب مع مكانته أو عمره ...
فلينضج قليلا !! ..... لقد مر على الماضي القاتم بينه و بين والدها عمرٌ بأكمله ....
وهو لا يزال قابعا بين زواياه الخانقة ....
وهي لا تريد سوى أن تستفيد من محاولة انتقامه الواهية ببعض النقود التي تستند اليها لتعينها على الهرب ....
فهو بالنسبة لها غريب تماما ..... و إن كان يوجه اليها بعضا من سخافاته ... فهو لا يعلم بأنها قد تحملت من ساخافات أرباب العمل من قبل ما لا يتحمله هو شخصيا ....
صحيح أن جزئا بداخلها يؤلمها لسببٍ مجهول مع كل إساءة يوجهها لها .... لكنه ذلك الجزء أصغر من أن يدفعها للإستسلام لإعتباراتٍ معنوية تافهة ....
مثل استسلامه لتلك الإعتبارات على الرغم ن هالة القوة و السيطرة المحيطة به ....
لكنها الآن و بعد أن وصلت لآخر حدود سكونها أمامه .... و قالت ما قالت و حدث ما حدث .... لذا أخذت نفسا و هدأت من قلبها المرتجف و هي تقول بخفوت
( قلت .... هل أوامرك تتضمن ملابس الموظفات هنا ؟؟ ..... أنا أسأل فقط سيد سيف لأكون بمعرفةٍ بقوانين المكان
و كي أعرف الخلل الذي يشكو منه ثوبي .. كي أتجنب هذا الخلل في غيره من الملابس .... )
للحظات تمتعت برؤية نظرة ذهول لم تتطاول الى ملامحه ... فقط عيناه ذهلتا دون أن تتسعا حتى ... ثم بدأ الذهول يتحول الي شرارات الغضب ... حتى بدأت ملامحه في تشرب لونٍ قاتم ....
لذا شجعتها متعتها بهذه اللحظة على تهدئة قلبها ... و تجهيز نفسها لصرفها عن العمل ... لا بأس ... لقد صرفت من العمل لعددٍ غير محدود من المرات ....
انها فقط الوخزة الأولى من اليأس ثم تعود الحياة لمجراها ....
لكن سيف حين تكلم .... بدا هادئا على الرغم من أن صوته كان يطفو فوق حافة الخطر و هو يقول
( سأخبرك مما يشكو ثوبك يا وعد .... فإضافة الى أنه رديء الذوق و هذا شيء يخصك وحدك طالما ارتضيته ... لكنه أيضا يكاد يكون زيا يائسا في محاولةٍ مثيرةٍ للشفقة من جذب النظر .... دون اعتبار لطبيعة وظيفتك التي تحتم عليكِ التزام زيا معينا لا يكشف أي جزء منكِ بخلاف جميع الموظفات .... نظرا لتنقلك من مكتب لآخر ...في وظيفة تعتمد أساسا على الخدمة لا تحتمل محاولة فاشلة في التأنق ... كالتي ترتدي ثوب مسائي في صباحِ عملٍ شاق ....و سبق و أخبرتك بأن هذا المكان له واجهة يجب الحفاظ عليها ... )
كانت كلماته تتوالى الواحدة تلو الأخرى دون توقف ... بينما تحولت وعد الى تمثالٍ أخذ يتحجر مع كل كلمةٍ طائشة من كلماته يقذفها بقوةٍ فتصيب هدفها في مقتل ....
الى أن انتهى تماما و أرجع ظهره للخلف ينظر اليها ... متحققا من اصابة هدفه ....
كانت عيناها تلمعان ببريق دموع تريد القفز من مقلتيها ... لكنها كانت تسجنها بالقوة ...
شاهد حركة حلقها و هي تبتلع ريقها بصعوبة و كأنه عضلات عنقها متشنجة ... بينما ازداد احمرار وجهها ...
" على الأقل هذا الإنفعال أفضل من صمت الأيام الماضية .... فهي تبدو من عالم البشر الآن , و قد عادت عينيها الى حزنهما .... الي ذلك الرسم الدقيق الذي يليق بهما "
هدأ غضبه المفاجىء و عاد الى تأمله لعينيها ....ابتسم رغما عنه بداخله , لن ينكر أن عينيها جميلتين ... بل جميلتين للغاية خاصة في حزنهما .....
قال فجأة بهدوء
( رجاءا لو ستبكين ..... انتظري قليلا الى أن تخرجي من هنا , فأنا لا أحتمل الدراما في حيز تواجدي )
رفعت ذقنها قليلا لتقول بهدوء ناقض نظرة عينيها
( أنا لا أبكي ...... لقد رأيت الكثير من قبل و لم يكن البكاء كلمة يحتويها قاموسي الشخصي )
أغلقت شفتيها و شردت عيناها قليلا و هي تتابع سرا " الا حين أكون وحيدة ... حينها يكون البكاء صديقي "
شدت ظهرها و هي تقول بتهذيب
( آخر مرة ستراني بهذا الثوب سيد سيف ..... و يسرني أن أنقل رأيك الى الخياطة الخاصة بي )
ابتسم ابتسامة قاسية و صوت ساخر يهمس بداخله
" خسارة ..... " لكنه قال بخفوت
( اعتذارك مقبول ...... و من رأيي الخاص فالإستغناء عنها سيكون أفضل لكِ )
ابتسمت دون أدنى قدر من المرح .... ثم همست
( لا أفضل قطع رزقها ..... لكن ربما ستلتزم قدرها الحقيقي منذ الآن ..... عن اذنك )
ضمت الملف و الصينية الى صدرها و استدارت لتخرج ..... تشعر بالإختناق من .... حيزه تواجده !! ....
ذلك الحيز الملىء بالقتامة و الكره ..... حيز يضم أي شيء باستثناء السلام .....
( وعد ............. )
توقفت مكانها على صوته القوي مجددا ..... أغمضت عينيها و ظلت مكانها غير قادرة على الإستدارة اليه مجددا , لكنها في النهاية تمكنت من الإستدارة اليه بقوةٍ ما ... ثم همست
( تحت أمرك ...... )
أعجبته الكلمة و أعجبه رقتها في نطقها ..... الا أنه لم يسمح بالإعجاب المتزايد بالتنازل ... فقال بهدوء راقي
( الى ماذا تسعين ؟؟ ...... )
عقدت حاجبيها قليلا و هي تنظر اليه بعدم فهم .... قبل أن يأتي دورها لتهمس بنفس سؤاله
( عفوا ؟!! ................)
التوت شفتاه قليلا ... ثم قال
( كيف حال والدك ؟؟ ........... )
ارتجفت بشكلٍ ظاهر رغما عنها ....لم تصدق السؤال .... و لم تعرف بماذا ترد حقا .... تخشى اذا أجابته بأنه بخير , ينفعل و يطردها ..... فهو غبي وحده ... دون الحاجة لإستفزازه ....
أومأت برأسها إيماءة غبية ... لا تهدف لأي شيء .... و هي لا تزال تفكر بالإحجابة و كأنها في اختبار الثانوية العامة ... تبا له ....
قال سيف موفرا عليها حيرة هذه اللحظات لكن مع نبرةٍ تحمل الكثير من كبت الإزدراء
( بلغيه سلامي .......... )
اتسعت عيناها أكثر مما أثار المزيد من الرضا في نفسه ... و لم تستطع منع نفسها من الهمس بغباء
( حقا ؟!! .......... )
ابتسم سيف ابتسامةٍ متشكلةٍ مع قساوة وجهه وهو يقول بلهجة غريبة
( نعم حقا ....... )
اهتزت عضلة في وجنة وعد وهي لا تدري بماذا ترد ... فلم تجد بعد البحث سوى أن تهمس
( عن اذنك ........ )
أومأ لها برأسه دون أن يرد .... عيناه تتابعان استدارتها ... خطواتها البطيئة الخفيفة كالفراشة , بالثوب المرفوض !!....
كم يجعلها تبدو شهية بهية في نظر البعض ..... ترى من تعمد اختياره لها ؟!! .... أهي نفس خبيثة قابعة في الإنتظار لنتيجة ما تدير ...
اختفت ابتسامته مع اختفائها .... كم يغضبه أنها تتمكن كل مرة في أخراجه عن طوره دون أي جهدٍ منها ... تماما كوالدها .....
شرد بملامحٍ قاسية في تلك المرة التي تخللت عدة مقابلات بعد ماضٍ بعيد ... و هو ينظر اليه محتقرا يكاد يمنع قبضته بالكاد من أن تمتد الى فكه المتجعد ليهشمه ... ربما منحه بعض الرضا ...
نظراته الرمادية الداكنة ... ذات العينين الباردتين كالجليد ... بهما قساوة الزمن و خبث نفسٍ سكنها الجشع ....
ربما كان الزمن قد نال من قسمات وجهه الا أن عينيه كانت نفسها .... بنفس النظرة التي يمقتها ....
تذكر ابتسامته الساخرة على الرغم من رثاثة حاله .... ليقول فجأة بنبرةٍ بسيطة و كأنه يعرض عليه كوب من الشاي بعد كل ما كان
( لما لا تتزوج من ابنتي .... و تنسى الماضي بكل ما حمله )
تذكر حينها أن الذهول تملك منه ... مع صدمة اللحظة الأولى .... ذهول من الوقاحة التي لم يتخيلها يوما .... ثم بدأ في الإستهجان ببطء لينفجر في ضحكٍ عالٍ .... عالٍ جدا عله يزيح القليل مما يعتمل بنفسه ....
استمرت العينان الرماديتان المتغضنتان الزوايا في النظر اليه بسخرية أثناء ضحكه العالي دون أن تهتز او تجفل .... .... حتى انتهى تماما بعد عدد من الضحكات القصيرة الختامية مع بعض السعال ....
و أخيرا تمكن من النطق بخفوت بعد إجهاد الضحك العالي
( أنت حقا لا تنفك عن إبهاري ........ صدقني .. أنت تستحق الإعجاب )
لم تتخلى الملامح المتجعدة عن ابتسامتها الهادئة الساخرة ... و الواثقة ....ثم قال بصوته المقيت الهادىء ذو النبرة المستفزة .....
( أنت أولى بابنة خالك في النهاية ........ خاصة بعد أن نجحت في الوقوف على قدميك و تكوين حياتك بنجاح معقول)
هز سيف رأسه حينها مبتسما بذهول .... ثم نظر اليه أخيرا متأملا .... طويلا ....
يريد أن يطعنه ..... يؤلمه بقسوة ..... يثير لديه اي احساس بالكرامة او الآدمية .... فقال أخيرا ببساطة هادئة عفوية
( و مما تشكو ابنتك لتعرضها بتلك الطريقة البخسة ؟؟؟ ........ )
رفع حاجبا متفكرا قليلا ... أو متظاهرا بالتفكر ثم قال أخيرا ببساطة تماثل بساطة سيف
( انها غبية نوعا ما ..... لا قدرة لديها على اقتناص ما تريده .... تحارب بعينيها فقط ....دون عقلٍ أو عزيمة حقيقية ..... لكنها في النهاية تستطيع الالتفاف حول روح رجل كأمها ...... )
امتعضت شفتا سيف و شعر بتقزز حقيقي و هو يشعر بأنه يحادث قوادا لا أبا .... الا أنه أحب اللعبة ... بل عشق لعبة إيلامه ... هذا إن كان يمتلك دما و أعصابا كالبشر تجعله يتألم بمعجزةٍ ما .......
قال سيف بهدوء شديد .... شديد ...
( هل هي ....... جميلة ؟؟ ........ )
لم يرد عليه حينها .... بل ظل ينظر اليه في عمق عينيه .... فتابع سيف قائلا بثبات
( لا بد لرجل أعمال مثلي من معاينة أي بضاعةٍ قبل شرائها .... خاصة تلك البضائع التي تبدو جديدة خارجيا الا أنه سبق استهلاكها ...... )
برقت عيناه للحظةٍ ثم رد بصوته الأجش
( كم تبدو شبيها بخالك يا ولد ......... )
لا زال يتذكر كم شعر بثورةٍ عارمةٍ حين سمع تلك العبارة ..... و التي ضربته في مقتل ... و على الرغم من أنه شعر بالندم فور نطق تلك الكلمات القذره المضمون عن فتاة لا يعرفها و لم يرها من قبل .... حتى ولو كانت ابنة عبد الحميد نفسه ...
الا أن تصريحه هذا جعله يشعر بنارٍ سوداء أحرقت عروقه حين سرت بها .... فسيطر جاهدا على انفعاله , الا أنه لم يكن ماهرا كل المهارة و هو يندفع قائلا من بين أسنانه ....
( فقط في أحلامك المريضة ...... ليس هناك من البشر من يمكن وصفه بأنه يشبهك ,... و أحب أن أضيف غير شاكرا بأنني أفضل الزواج من خادمة على أن أدنس بيتي بدمٍ من نسلك ..... )
كان صدره يؤلمه حينها من شدة الغضب .... الغضب الجارف و هو يرى ابتسامة عبد الحميد المنتصرة و هو يراه يخرج عن أعصابه كما ينجح في ذلك دائما ....
قال عبد الحميد أخيرا
( اذن تذكر تلك الكلمات جيدا ...... لأنك حين تأتيني متوسلا راجيا كي أمنحها لك ..... ستكون النجوم أقرب لك )
ابتسم سيف حينها ذاهلا ... غير قادر على استيعابه !! .... يشك في أن يكون حكم السن جعله يختل , و إن كان لا يصدق بأن هذا الرجل من الممكن أن يختل أبدا ....
ناده يومها ... تماما كما نادى ابنته منذ دقيقة ... ليقول له
( الوظيفة لك إن كنت تريدها و هذا هو كل ما لدي لأمنحه لك ..... فكم أحب أن تحضر لي قهوتي كل صباح )
ابتسم عبد الحميد وهو يومىء برأسه دون أي شعور بالدونية ... ثم خرج من نفس الباب الذي خرجت منه ابنته للتو ....
تنهد سيف وهو يرجع رأسه للخلف مفكرا ....
" مجيئها الى هنا كان أكبر خطأ ...... كان قد صرف والدها في اشارة منه لصرف الماضي بأكمله , لكن الماضي عاد ليبعث اليه لعبة جديدة جميلة ..... يتحداه ان كان يجرؤ على عدم القبول بها ..... "
اخذ اصبعه يدور على حافة الفنجان الذي وضعته امامه منذ قليل ..... لعبته .....
.................................................. .................................................. ..........................
دخلت وعد الى غرفة السعاة صامتة .... واجمة .... و قد انحسرت الدموع بجهدٍ كي تنسكب على روحها المجهدة .... و عادت ملامحها الى شحوبها الرقيق الشفاف دون تعبير معين ...
نظر اليها علي ما أن دخلت بصمت دون أن تنظر اليه .... كان منظرها يوحي بوضوح بأنها قد تلقت تقريعا جديدا
انه لا يعلم لماذا السيد سيف قاسيا معها الى تلك الدرجة .... بالرغم من أنه طيب جدا مع الجميع و قد ساعده كثيرا من قبل ....
ووعد تبدو رقيقة و مهذبة و ليست أهلا للتقريع و الإهانة كعبد الحميد الذي كان يعمل هنا من قبلها .....
اقترب علي منها خطوة قبل أن يقول بخفوت
( وعد ...... هل ستظلين صامتة هكذا طويلا ؟؟ ...... )
لم ترد وعد و لم ترفع رأسها و هي تقوم بغسل بعض الأكواب الموضوعة ... فقال علي بوجوم
( لم أقصد أن أكون سببا في توجيه اللوم لكِ ....... لكن أنا .... أنا حقا سأكون سعيدا إن أصبحنا أصدقاء )
توقفت يداها عن العمل قليلا قبل أن تتنهد و تلتفت اليه بهدوء قائلة
( اسمعني جيدا يا علي ..... أنا لست هنا لتكوين صداقات ... أنا هنا لأنني أحتاج هذا العمل و بشدة ... و الا لما كنت ارتضيت به على الرغم من أنه لا يناسب مؤهلي ..... كما أنني عامة لست تلك الشخصية الودودة التي تتأقلم مع أصدقاء ...... ليست لي سوى صديقة واحدة و قد جمعت بيننا ظروفا معينة هي ما أنشأت صداقتنا ... لذا رجاءا لا تتسبب لي في المزيد من المتاعب .... فأنا حاليا في غنى عنها صدقني ..... )
عادت الى عملها مطرقة برأسها .... بينما شعر علي بوجومٍ أكبر ... و شعور بالكآبة لا يعلم سببه ....
عاد الى الأريكة البعيدة ينظر اليها بصمت .. تنهي عملها ثم تعد لها كوب من الشاي ... لتجلس صامتة ملتقطة جريدة اليوم و هي تتابع اعلانات الوظائف و بيدها قلما استعدادا للتصويب على أي وظيفة تراها مناسبة ...
انها ناوية على ترك العمل هنا !!!
نظر اليها بوجهٍ مكتئب ...... انها بالفعل تنوي الرحيل ما أن تجد الفرصة متاحة ....
سمع صوت دقة من هاتفه الجديد فرفعه ينظر الي رسالةٍ جديدة .... حينها حانت نظرة من وعد اليه عاقدة حاجبيها و هي ترى هاتفه باللمس في يده .... ولم تستطع من الهمس بدهشة
( ما هذا ؟!!! .........)
نظر اليها متفاجئا مبتسما من زوال صمتها .... ثم نظر منها الى هاتفه ليرفع رأسه الى وجهها مبتسما
( انه هاتفي الجديد ..... هل أعجبك ؟؟ .... )
ظلت وعد تنظر الى هاتفه و كأنه مخلوق فضائي غريب ... ثم هتفت باستنكار
( كيف طاوعك قلبك على دفع ثمنه ؟!! ....... )
رفع على حاجبيه مندهشا .. ثم قال مفسرا
( لقد اشتريته مستعملا ............ )
اتسعت عينا وعد بدهشةٍ و استنكار أكبر ثم هتفت بحدةٍ أكبر
( و إن يكن !!! ...... أنا لم أمتلك هاتفا يوما و لن يحدث هذا أبدا .... ما تلك الرفاهية الفارغة ؟؟ )
أوشك حاجبي علي أن يلتصقا بمقدمة شعره ... ثم قال بهدوء
( ترفقي بنفسك قليلا يا وعد ...... و تمتعي ببعض مباهج الحياة )
قالت وعد بصلابة و هي ترمي الجريدة جانبا
( أنا أمتع نفسي بكل المباهج التي لا تكلفني ثمن هذه اللعبة الحمقاء في يدك ..... شمس مشرقة ... سماء صافية ... رائحة البحر .... مجلات لا تجرحني في ثمنها .... قماش أصنع منه أجمل الثياب .... )
خفت صوتها في النهاية تماما حين وصلت الى ذكر كلمة الثياب فتذكرت كلام سيف عن ثوبها ..... في لحظةٍ واحدة ارتسم الحزن على وجهها وهي تنهض من مكانها بشرود تتجول في الغرفة الى أن وصلت للمرآة الصغيرة ... تستطيل كي تنظر الى الفستان و هي تمسك بياقته بيديها شاردة في تفصيله ....
بينما كان علي مندهشا أكثر و أكثر .... فنهض ممن مكانه سريعا يقول
( هل أنتِ من تخيطين ملابسك ؟؟!! ...... أنتِ رائعة بحق )
الا أن وعد لم تشاركهه اعجابه و قد فقدت ثقتها بعملها في لحظةٍ واحدة ...... لا عجب اذن من أنها كانت تخرج كل مرة من عند أحدى الخياطات مصطحبة معها نفس العبارة
" لدينا عاملات زائدات عن الحد .... أعتذر "
ربما كانت واثقة من نفسها الى حد الغرور و هي تظن بأنه من الممكن أن تمتهن الخياطة ....
استدارت الى علي دون ابتسام و بتعبير حزين لتهمس رغما عنها
( لا لست رائعة ..... ملابسي لا تليق بهذا المكان )
هتف علي و هو يقترب منها أكثر ... ليلتقط كفيها و يبسط ذراعيها في حركةٍ عفوية
( هل أنتِ مجنونة !!! ..... انظري الى ثوبك !! .... انه رااااائع .... )
ابتسمت وعد رغما عنها و هي تشعر بنفسها في حاجةٍ الى تلك الكلمات , لكنها سحبت كفيها من كفيه ببطء ...و هي تقول بخفوت و بوجهٍ محمر قليلا
( شكرا لك يا علي ...... و هاتفك رائع أيضا .... لم أقصد ان أحبط فرحتك به ..... )
رد علي مبتسما بخفوت
( قريبا سوف تحصلين على واحد أفضل منه ... و سيكون جديدا لا مستعمل )
ابتسمت وعد تمط شفتيها و هي تقول بتصميم صارم
( مستحيل ....... من يشقى في جمع المال لا يهون عليه أن يضيع منها قرشا واحدا )
ضحك علي مستسلما وهو يقول بيأس
( بخيلة ....... )
ردت عليه وعد و هي تستدير بعيدا عنه ( أحمق ...... )
الا أن جزءا من عقلها شرد فجأة و عل حين غفلة مع ملك !!
فهمست بداخلها " أين أنتِ يا ملك ؟!! .....اشتقت الى تضفير شعرك .... و اشتقت اليكِ .... جدا "
شعرت بالوجوم حين وجدت نفسها لم تفعل شيئا حيال الأمر منذ فترة .... هل بدأت تيأس ؟؟ ..... هل أرهقتها حياتها المجهدة فجعلتها تنسى ملك .... أو تتناساها مدهية أن الحياة ملهاة كبيرة .. تطحن من يدور بها !! ...
لا .... لن يهدأ لها بال ...و حتى لو كان الأمر يعد معجزة فسوف تقاتل من أجل تحقيقها .... لكن من أين لها أن تبدأ .... من أين ؟؟.....
.................................................. .................................................. .............................
اقتربت مهرة تتسلل بخفة من خلف أمها التي كانت تقشر بعض الخضروات ... لتهجم عليها تقبلها بشدة ... فانتفضت منيرة شاهقة قبل أن تنفجر ضحكا و هي تهتف
( توقفي عن تلك الحركة المعتوهة يا مهرة ... لقد كبرتِ عليها و قد كبر قلبي و سيتوقف في أحدى المرات )
امتعضت مهرة و هي تتعلق بكتفيها نائمة على ظهرها
( توقفي عن ذلك الكلام ...... لا أحبه )
ابتسمت منيرة و هي تتابع عملها ببساطة و كأنها معتادة على أن تظل مهرة متعلقة في ظهرها .... ثم قالت منيرة مازحة بتعجب بعد فترة
( كيف تمكنتِ من ترك الهاتف لبضع دقائق دون أن يكلمك حسام بها ...... )
قالت مهرة عاقدة حاجبيها وو جنتها ملتصقة بظهر أمها
( هذا الحسد ......هذا الحسد هو ما يتسبب لنا في كل شجاراتنا معا )
ثم قالت بضيق
( ألن ترتاحي قليلا .... أنتِ واقفة في المطبخ منذ وقت الإفطار .... )
انبعث صوت ناعم قوي النبرات من خلفها يقول
( و لما لا تساعدينها طالما أنتِ مرهفة الحس بهذا الشكل ؟ ........ )
رفعت مهرة رأسها تنظر الى ورد من خلفها .... فقالت بحرج
( أنا كنت لأفعل ..... لولا أنني مضطرة للخروج مع حسام حالا .... نريد أن نرى بعض الأشياء للبيت )
مطت ورد شفتيها مستهزئة و كأنها كانت تنتظر تلك الإجابة .... ثم دخلت المطبخ لتعد لها بعض الشاي ... فقالت مهرة منتهزة الفرصة
( و لما لا تساعدينها سيادتك ما دمتِ في إجازة اليوم ؟؟ .................... )
قالت ورد بهدوء دون أن تتكفل عناء الألتفات اليها
( أنا خارجة أنا أيضا ........ أم هناك مانع ربما ؟؟ .... )
قالت منيرة بحزم
( لا أريد مساعدة من أيا منكما ..... آآه لو كان سيف قد وافق على طلبي و أتى لي بتلك الفتاة لتساعدني )
قالت مهرة وهي تقضم قطعة حلوى
( أي فتاة ؟............ )
ردت منيرة متحسرة
( تلك التي نظفت البيت يوم قراءة الفاتحة لكِ ....... وعد )
توقفت يدا ورد عن العمل ثم استدارت ببطىء و قد انتعش انتباهها ... بينما هتفت مهرة كالأطفال
( انها فكرة مذهلة ...... أنا أريدها كذلك يا أمي ..... انها ذات ذوق و تستطيع ترتيب ثيابي و المحافظة عليها بل و يمكن انتقائها كذلك كلما خرجت ...... أريدها يا أمي .... أريدها ارجوك ِ ..... )
هزت منيرة رأسها يائسة و هي تقول
( سيف لم يقبل بذلك ...... بالرغم من أن الفتاة جميلة ... جميلة ... جميلة .... تفهم بمجرد الإشارة ... دون حتى الحاجة للنطق .... مرتبة و نظيفة ..... و مريحة للغاية ... بعكس ام ابراهيم .... )
هتفت مهرة مذكرة
( و أم صابر ..... و أم ربيع .... انهن حتى يتجرأن عليكِ و لا يفهمن أي شيء اطلاقا .... أمي أنا أريدها أرجوكِ )
في تلك اللحظة انبعث صوت ورد هادئا ناعما .... ناعما للغاية
( كم هي فكرة رائعة يا أمي ........ أنا أيضا موافقة عليها , بل و مصممة كذلك ...... )
عادت منيرة لتهز رأسها قائلة بيأس
( يا ليت كان بإمكاني اقناع سيف .... لقد رفض بشدة , من الواضح أن الفتاة سيجرحها هذا العرض بصفة دائمة فهي تبدو ابنة عائلة محترمة مرت بظروف صعبة )
تذمرت مهرة بحنق و هي مستمرة في أكل الحلوى .... بينما قالت ورد بهدوء بعد فترة
( حسنا أنا مضطرة للخروج الآن ..... فقد تأخرت ...... تأخرت كثيرا )
ثم استدارت لتخرج من المطبخ دون أن تمس كوب الشاي .... بينما سألت مهرة أمها
( الى أين ستذهب ورد ؟؟ ........... )
قالت منيرة بكآبة
( لا أعلم ........... )
قالت مهرة مندهشة ( لماذا لا تسألينها ؟؟ ...... أم أن تلك القوانين خاصة بي أنا وحدي ؟!! )
قالت منيرة بنبرة حزن دفينة
( قدري ظروف أختك يا مهرة ..... لا أحب أن أشعرها في تلك الفترة بأنها مراقبة أو مختنقة .... أختك كبرت على تلك المعاملة ..... )
مطت مهرة شفتيها غير مقتنعة تماما .... الا أن الأمر حين يأتي الى ورد فهي تفضل الا تزيد حزن أمها حزنا فوقه .................................................. .................................................. ...........................
دخلت ورد بهدوء الى مكتب علا ... ممسكة بحافظتها الكبيرة الأنيقة ... تختال بطلتها الغامضة , ... و ما أن رفعت علا وجهها و رأتها حتى قفزت واقفة تبتسم قائلة
( مرحبا آنسة ورد .... أنرتِ المكان بوجودك .... )
ابتسمت ورد بهدوء ثم قالت ببطء رزين
( كيف حالك يا علا .......... )
ردت علا بسرعة و تهذيب
( في خير حال يا آنسة ورد ....... )
سألتها ورد و هي تنظر الي باب مكتب سيف قائلة
( هل سيف بمكتبه ؟؟ ......... )
ردت علا
( نعم ...... تفضلي بالدخول , فلا أحد بالداخل سواه )
لكن ورد بقت واقفة مكانها قليلا ... ثم قالت بهدوء و كأنها تتذكر شيئا ما
( علا ...... كنت أريد أسألك عن حال الفتاة الجديدة التي جاءت للعمل هنا ...... اسمها وعد أممممممم )
قالت علا بتهذيب تكمل
( وعد عبد الحميد العمري ..... آنسة ورد , انها لطيفة و بخير حال .... الحقيقة أنني في البداية قلقت من تشابه لقب عائلتها مع لقب السيدة منيرة ... و ظننت بأنها قريبة للعائلة ولو من بعيد .... لكن السيد سيف بعد أن وظفها تأكدت من أنه مجرد تشابه أسماء ..... )
كان كل الكلام قد تضائل و اختفى بعد ذكر اسم " وعد ... عبد الحميد .... العمري "
و أصبح كل ما يليه مجرد ثرثرة لا قيمة لها ... ابتسمت ورد لعلا ابتسامة واهية ثم همست بدون وعي
( جيد ......... )
ثم نظرت الى باب مكتب سيف ببريق انتصار قبل ان تلتفت لعلا قائلة بهدوء و ابتسامة مشرقة
( اذن اراكِ فيما بعد يا علا فسأدخل لسيف الآن ....... )
لكنها و قبل أن تدخل استدارت الى علا تقول مبتسمة
( علا من فضلك اريد كوب عصير من أي نوع لو تكرمتِ ......... )
قالت علا بسرعة مبتسمة
( حالا آنسة ورد ......... )
طرقت ورد الباب طرقتين قبل أن تدخل قائلة بابتسامتها الناعمة
( هل سأعطلك لو أخذت من وقتك القليل ؟؟ ............. )
رفع سيف رأسه عن الورق أمامه ليفاجأ بوجود ورد .... فقال بعد لحظةٍ من استيعاب وجودها
( مرحبا ورد ...... ما تلك المفاجأة الجميلة ؟؟ ..... )
دخلت ورد تقول مبتسمة
( حقا ؟؟ .......... )
رد سيف مؤكدا
( بالطبع يا ورد ...... تعالي اجلسي و اخبريني بما تريدين )
اقتربت ورد منه ببطء تتأمله مليا قبل أن تجلس أمامه واضعة ساقا فوق الأخرى ثم قالت بهدوء
( اليوم أخذت أجازة و قررت أن أمضيها خارج البيت .... ففكرت أن أمر عليك و أبهج عيني برؤيتك هنا كالعادة )
ابتسم سيف قليلا و هو ينظر اليها ... حبها بقلبه يماثله حب مهرة تماما , حتى و إن كان لا يستطيع اظهار ذلك كما يظهره ببساطة لمهرة ....
قال سيف بصوتٍ خافت
( أريد أن أفعل شيئا يبهجك بحق أكثر من مجرد النظر الي ....... )
ابتسمت ورد بجمال و هي تقول
( صدقني ..... وجودي هنا هو أكثر ما يبهجني )
التقط سيف سماعه داخلية ثم قال
( ماذا تحبين أن تشربي ؟؟ ........... )
قالت بنعومة
( لقد طلبت عصير من علا بالفعل ........ )
اهتزت زاوية شفتيه قليلا قبل ان يضغط زرا .. ثم يقول بهدوء
؛( علا ..... اطلبي من علي عصير ورد من فضلك )
ردت علا بتهذيب
( لقد سبق و طلبته سيد سيف ......... )
وضع سيف السماعه بهدوء .... وهو يحك ذقنه بيده .... فقالت ورد تؤرجح ساقها
( ماذا تفعل ؟؟ ......... )
نظر اليها ليقول بعد لحظة
( اراجع عقدا هاما .... .... )
ابتسمت ورد و أومأت برأسها ..... و بعد دقيقتين من الحديث الهادىء بينهما عن أحوالها و عملها سمعا طرقا هادئا على الباب ... ثم دخلت وعد حاملة صينية عليها كوب العصير ...
أخذت ورد تراقبها بصمت .... و قد كان الصمت في الغرفة ثقيلا متوترا ....
وضعت وعد العصير أمامها بأدب ... لكن ما أن التقت عيناهما حتى ارتجف الكوب قليلا قبل أن تتركه , فقالت ورد قبل أن تغادر
( كيف حالك يا ........... )
أمسكت وعد الصينية أمام صدرها كدرعٍ واق ... فهمست بهدوء
( وعد ........... )
قالت ورد بنعومة
( آآه نعم وعد ..... أنساه دائما ..... )
كان سيف حذر الملامح كصقر متربص ينقل نظره بينهما .... بينما كانت عينا وعد تجري فوق فستانها بتدقيق , فزاد انعدام ثقة وعد بنفسها بعد كلام سيف صباحا ...
قالت ورد ببساطة
( أتتذكرين اسمي ؟؟ ......... )
ارتبكت وعد قليلا لكنها همست
( نعم آنسة ورد .... كاسمي وعد .... لكن مع استبدال العين بالراء .... )
سكتت تماما حين وجدت نفسها تثرثر بغباء ...انها تخاف منها ... تخاف منها بشدة ... تبدو كنمرة مستعدة للإنقضاض على أيا كان ..... فحثها فجأة دافع مجنون جعلها تلقي نظرة جانبية على سيف لا تعلم سببها .. فوجدت ابتسامة تلوى زاوية شفتيه ... بينما هو ناظزا الى الورقة في يده
انه يضحك عليها !! .... كلاهما يسخر منها ....
زمت وعد شفتيها و انقبض قلبها ....خاصة مع نظرة ورد التي فقدت كل أثر للطف مع بريقٍ مخيف فهمست بوجوم
( عن اذنكما ............. )
ثم خرجت تكاد تتعثر بقدميها .....
بقت أنظار سيف معلقة بالباب قليلا قبل أن يلتفت الى ورد قائلا بخفوت
( تفضلي ....... اشربي عصيرك )
ابتسمت ورد و هي تلتقط الكوب لترتشف منه رشفة واحدة .... و بعد فترة وقف سيف قائلا بهدوء
( سأتركك لدقيقة يا ورد ..... سأتوجه للشؤون القانونية ثم أعود حالا .... )
اومأت ورد دون أن تجيب ... فخرج سيف يتركها تنظر بشرود الى العصير البرتقالي في يدها ... و عيناها سارحتان في عالمٍ غير العالم ... و الكره الذي كانت تكبته منذ دقائق بدت كالساعات أصبح الآن كطوفان جارف عنيف يكتسحها دون رحمة .... تلك الصغيرة المرتبة التي تظن أن الحياة لا تزال مفتوحة أمامها !!! ....
امسكت بقلمٍ من أقلام سيف تنظر اليه في شرودها المؤلم .... ثم نزعت غطائه ....
و فجأة وضعت الغطاء على الصينية ثم أخذت توازن كوب العصير فوقه حتى بات قاعدة الكوب مستندة الى الغطاء .....
نهضت ورد من مكانها لتضغط نفس الزر الذي ضغطه سيف ثم قالت بهدوء
( علا ...... هل يمكنك استدعاء وعد من فضلك ..... شكرا )
ثم عادت ببطء لتجلس مكانها بكل هدوء ........ تنتظر و تنتظر .... عيناها تشردان و ترجعان .... تبرقان ثم ينطفىء نورهما ......
و خلال دقائق دخلت وعد بهدوء ... قلقة متوترة .... لكنها همست ببطىء
( تحت أمرك آنسة ورد ............ )
ظلت ورد تنظر اليها قليلا .... ثم قالت مبتسمة برقة
( نسيت أن أبلغك بأن أمي تبلغك سلامها و شكرها على مجهودك في ليلة خطبة أختي ....... )
ابتسمت وعد ابتسامة مهتزة ثم همست بارتباك
( شكرا لك و لها آنسة ورد ....... ذلك من فضلكما و مبارك للآنسة الصغيرة )
أمالت ورد رأسها لتقول بخيلاء
( و عندي عرض مميز ......... أمي مصرة غاية الإصرار على أن تعملي لدينا بصفة دائما ... )
للحظات طرفت عينا وعد ... و أظلم وجهها قليلا قبل أن تهمس مستفسرة
( أعمل !! ..... ماذا !!! ........ )
ردت ورد ببساطة
( تعملين لدينا في البيت ..... و الا فماذا تعملين غير هذا !! ..... )
أخذت وعد تشعر بنفس تزايد نبضات غضبها من جديد .... مع قوة السيطرة على النفس و الأصعب هي السيطرة على ملامحها ....
اهدئي يا وعد .... لقد مررتِ بما هو أسوأ .....
أنسيتِ حين كنتِ تأخذين مقاسات سيدة في الحي ثم جاء زوجها غاضبا لسببٍ ما فطردك من البيت !! .... لماذا ألمك الآن أشد قسوة ..... أنسيتِ إهانات صاحب المعرض ؟!! ...... فلماذا تؤلمك كرامتك الآن بتلك الفظاعة ....
ابتلعت وعد ريقها قبل أن تقول بخفوت و بصوت مرتجف
( أنا لست خادمة آنسة ورد ...... أنا جامعية و ابحث حاليا عن وظيفةٍ ثابتة ..... )
رفعت ورد حاجبا واحدا وهي تقول بلهجةٍ ممطوطة
( حقا !! ......... كم هذا لطيف .... و لم تجدي وظيفة مؤقتة غير هنا ؟!!! ..... )
طرفت عينا وعد قليلا ... قبل أن تهمس بخوف
( لا أفهم ............ )
قالت ورد بنعومة الزجاج
( لا بأس ....... عامة هذا من سوء حظنا بالتأكيد ..... )
ظلت وعد واقفة أمامها تشعر بدوارٍ و إجهاد يفوق الحد ..... ليلة أمس أمضتها في خياطةٍ طويلة .. طويلة ... لا تنتهي كي تنهي عمل ثوب مطلوبا منها من أحدى فتيات الحي و تريده قبل نهاية هذا الإسبوع ,.,...
لذا فرؤية تلك الآنسة ورد بعد ارهاق ليلة كهذه أمرا ليس من حسن حظها بالتأكيد ....
قال ورد اخيرا بهدوء
( من فضلك يا وعد خذي الصينية معك اثناء ذهابك ...... )
تنهدت وعد بداخلها لكنها همست بتهذيب
( حاضر ........... )
اقتربت وعد من جانب المكتب ... و مدت يدها تاخذ الصينية , ...... لكن و دون أن تدري ما حدث .. ما أن رفعت الصينية عدة انشات حتى وجدت الكوب و قد سقط على الصينية و منها الى سطح المكتب و قد انسكب نصف العصير على الصينية .. و النصف الآخر ....... فوق أوراق سيف !!! .....
ظلت وعد للحظات ناظرة بذهول الى المأساة أمامها .... تظن بأن ما حدث هو من وحي خيالها المجهد... و بعد عدة لحظات حين لم تختفي تلك الصورة ... همست بعدم استيعاب مذهول
( ماذا حدث ؟؟!!! ...... كيف ؟!!!! ...... لست ..... )
بدأ الإستيعاب في العمل ببطىءٍ شديد ... الا انه قفز لأقصى درجات الخطورة حين سمعت الصوت قوي النبرات يأتي من خلفها قائلا بحيرة
( ما الأمر ؟؟ ....... لماذا تقفين هنا ؟؟ ...... )
قفزت وعد من مكانها بقسوةٍ تستدير اليه و قد بدت في حالةٍ يائسةٍ من الرعب .. و أخذت تهذي بهمسٍ مرتعب بينما لا تزال متمسكة بالصينية التي اخذت تقطر على ثوبها بعد أن حولتها لدرعٍ واقٍ مجددا ....
كان سيف ينظر الي سيمات الرعب على وجهها و حاجبيه ينعقدان بشدةٍ تدريجيا ... الى أن انخفضت عيناه الى ثوبها الذي كان يستقبل قطراتٍ مجهولة المصدر .... فاقترب خطوة يقول بخفوت
( ماذا بكِ ؟؟ ......... )
الا أن وعد كانت قد وصلت الى أقصى درجةٍ من التعب و فقدان القدرة على التعامل مع الموقف فلم تستطع النطق الى أن وصل سيف الى المكتب فأبصر في نظرةٍ واحدة ما حدث فبدأت عيناه في الإشتعال .... ليهتف فجأة بغضب دون حدود
( ما هذا ؟!! ......هل أنتِ غبية ؟!!!!!)
و كانت كلماته هي آخر ما تحتاجه وعد كي تدور بها الدنيا و تزيغ عيناها و تضيع حدقتاها قبل ان تضيع منهما الرؤية لتسقط بين ذراعيه اللتين تلقاتها قبل أن تتلقاها الأرض ....
هتف سيف بقلق وهو يسندها بذراع بينما يربت على وجنتها بيده الأخرى
( وعد .... وعد ..... )
قالت ورد بعينين تبرقان
( إنها تتظاهر كي تهرب بطفولية ....... )
انحنى سيف واضعا ذراعه تحت ركبتي وعد ليحملها الى الأريكة هاتفا
( ورد ..... عودي الي البيت الآن رجاءا .... )
قالت ورد ببساطة و هي تراقب وعد بفضول
( قد تحتاجني .......... )
صرخ سيف ..
( الآن يا ورد .... رجاءا )
ابتسمت ورد و التقطت حافظتها الكبيرة ثم اتجهت الي الباب قبل أن تهمس بخفوت
( فرصة غير سيعدة ..... ربما مرة أخرى )
أبعد سيف شعر وعد عن وجهها و هو يربت على وجنتها بقوةٍ لدرجة أن احمرت وجنتها قليلا على الرغم من شحوب وجهها المخيف ... بينما أخذ يقول بتوتر
( وعد ..... وعد ..... )
دخلت علا من الباب الذي تركته ورد مفتوحا لتراقب المشهد بقلق و هي تقول
( ماذا حدث سيد سيف ..... ماذا بها .... )
قال سيف بتوتر
( لا أعلم ..... لا أعلم ... لماذا لا تفيق .... )
نهض من مكانه من حافة الاريكة الى مكتبه مسرعا ثم فتح أحد الأدراج ليخرج قنينة عطره التي يضعها هناك ثم عاد اليها لينثر من عطره القوي رذاذا على فكها قريبا من أنفها وهو يمسح وجهها بيده .... قائلا بتوتر
( وعد ..... وعد ........ )
فتحت عينيها بصعوبةٍ تطرف بهما قليلا ... و أول ما أن فتحت عينيها تماما حتى اصطدمت بعيناه تطالعناها بقوةٍ تكاد أن تعري روحها .... ارتجفت تحت أصابعه و هي تهمس بعدم فهم
( ماذا حدث ؟؟ ....... )
سحب سيف نفسا خشنا قبل أن يتنهد قائلا
( أنا ن يجب أن أسألك ..... ماذا حدث ؟؟ .... لقد سقطتِ أمامي للتو )
استدار سيف الى علا التي كانت واقفة تراقب المشهد بذهول فقال بلهجةٍ حازمة
( اطلبي من طبيب الشركة أن يأتي حالا ...... )
أومأت علا بسرعة ... ثم خرجت و هي كارهة أن تترك هذا المشهد ....
عاد سيف يلتفت الى وعد ... ينظر الى وجهها بنظراتٍ غريبة ... يده تمسح خصلات الشعر الأسود من وجهها دون توقف .... حتى بعد أن رجعت الى مقرها لم تتوقف يده عن حركتها ....
ارتجفت وعد بشدة وحاولت الإستقامة قائلة
( لا داعي ..... لا داعي أرجوك ..... انها حالة اعتدت عليها مصاحبة لفقر الدم .... )
حانت منها نظرة الى سطح مكتبه من خلف كتفه العريضة فارتجفت أكثر و أكثر حتى باتت تنتفض انتفاضاتٍ صغيرة و هي تتذكر ما فعلت ....
قال سيف بخشونةٍ أكثر
( هل تعانين من فقر الدم .... )
ابعدت نظرها ببطء عما خلف ظهره لتلتقي بعينيه الحادتين كشفرتين ... فهمست ترتجف ....
اللعنة !!! جسدها يرتجف بشدة تحت كفه .... وهو غير قادر على نزعها .... ماذا بها ؟!! .... ماذا فيها ؟؟؟ ...
هل القى عليها تعويذةٍ ما ليجعلها بمثل هذا التأثير اللعين عليه ؟!! ....
انخفضت عينيه الى شفتيها الزرقاوين المتشققتين .... بعد أن تحولتا في لحظةٍ واحدةٍ من لونهما الوردي ...
حاولت النهوض بحركةٍ واهية تنبهه فيها كي يبتعد ... الا انه ظل مكانه ... وجهه قريبا من وجهها يهمس بخشونة
( انتظري ..... سيصل الطبيب قريبا , انه يأتي من مكان قريب )
رفعت عيناها الحزينتان الى عينيه ... لتهمس مرتجفة
( لا داعي ..... أرجوك .... أريد مغادرة هذا المكان ..... لقد ..... تعبت )
التوت عضل بفكه .... الا ان ملامحه بقت على جمودها , ثم همس بنفس الخشونة متجاهلا طلبها
( انها ثاني مرة التقطك فيها بين ذراعي ... هل سقطتِ في المرة السابقة مغشيا عليكِ كذلك بسبب مرضك ؟؟ .... )
رمشت محاولة تذكر ما يقصده بصعوبة .... و ما ان استطاعت حتى همست بسرعة
( .ماذا ؟؟.. لا ... لا ... لقد تعثرت بدرجة سلم ......, و .... فقر الدم , لا يعتبر مرضا .... انه شيء عادي ... )
همس سيف بخشونة ... وجهه قريبا منها للغاية
( هذا في مخيلتك فقط ........ )
ارتجفت شفتاها قليلا تحت ناظريه الحادين .... فهمست بصوتٍ يكاد أن يكون نحيبا
( أرجوك .... أريد أن أنهض .... أريد أن ..... أغادر ...... )
لكنه لم يستجب ... و لم يبتعد .... فأعادت عينيها خلف ظهره , لترفع يدا مرتجفة الى فكها هامسة بلا وعي تقريبا
( أوراقك ......... )
همس سيف بعد فترة ذهولٍ منها يمتع نفسه قليلا بتأمل تعبيراتها الشفافة
( يوجد منها نسخا عدة في حاسوبي ........ )
الا ان وجهها لم يطمئن و كأنها لم تسمعه .... و لم تعودا عيناها من ضياعهما .....
"حافظي على حزنهما قدر استطاعتك .... و ابقي على انسدال جفنيهما كشمسين تقتربان من المغيب "

بعينك وعد. 🌺 بقلم تميمة نبيل 🌺حيث تعيش القصص. اكتشف الآن