57

3.5K 80 1
                                    

الفصل السابع و الخمسين :

لم تظن نفسها يوما قادرة على الإحساس بهذا الشعور الغريب من الأمان !!....
و هي تطفو على سطح الماء الرائق الساكن ... ناظرة الي السماء داكنة الزرقة دون ان تدفئها الشمس بعد ... تتخللها أطيافا وردية و أرجوانية ممتدة بخط طويل ...
كانت تشعر بنفسها تعوم فوق سحابةٍ في حلم بعيد عن واقعها .....
اصابعها متراخية على تلك الصفحة الناعمة .... تداعب تلك الحافة الرقيقة التي تفصلها عن السقوط حاملة وزنها بنعومة ....
فغرت شفتيها قليلا دون ابتسامةٍ واضحة ...
فما ينتابها لم يكن له دخل بالسعادة .... بل بالطفو بعيدا ... بعيدا عن كل الجنون الصاخب الذي ينتظرها على سطح الأرض حين تعود ....

تيار الماء البطىء كان يسحبها بعيدا .... و هي مستسلمة له تماما ... مسلمة له دفة اقتيادها ...
لكن يد رجولية أمسكت بأصابعها برفق ... تجذبها اليه كي لا تبتعد أكثر ....
فتنساق فوق السطح و كأن لا وزن لها كورقة شجر يحملها الماء ....
وصلت الى جذعه ترتطم به برقة دون أن تسقط فرفعت عينيها تنظر اليه برهبة!! ...
بدالها النظر طويلا بعينين قاتمتي العمق و هما تمران على كل منحنيات جسدها الصغير و المستلقي فوق صفحة الماء باسترخاء ... ثم قال بصوتٍ أجش خافت
( لا تذهبي بعيدا .......... )
فغرت شفتيها اكثر قليلا , و ارتعشتا للحظة .... قبل أن تهمس بخفوت
( لن أذهب لمكان ..... أنا هنا بجوارك ...... )
التوى حلقه قليلا و كأنه يقاوم تحشرج معين بتنفسه .... و كانت عيناها تتبع كل عضلة تتحرك به الى أن
رفعت رأسها أخيرا و أسقطت قدميها برفق حتى لامستا الأرض الرملية تحتها ... فاستقامت واقفة ...
كان سطح الماء يغطي صدرها ... بينما هو بالكاد يصل الى خصره ....
أخضعها لنفس تقييمه القاتم الشبه حزين ... قبل أن يقول بخفوت
( أنتِ قصيرة للغاية ........ )
اخفضت نظرها عنه و هي تنظر الى الفرق بين مستوى الماء لكل منهما , ثم لم تلبث أن ابتسمت رغم عنها و هي تهمس بخفوت متجنبة النظر الى عينيه
( بل أنت هو الضخم أكثر من اللازم ......... حجمانا لا يتلائمان أبدا ... )
ظل وليد صامتا قليلا قبل أن يقول بخفوت
( أشك في أن يكون بيننا ما هو متلائم .......... )
شعرت و كأنه قد لكمها للتو .... فأبعدت وجهها تنظر الى السماء متنافرة الألوان , قبل أن تهمس بوجع
( المكان هنا ..... مهيب جدا في هذا الوقت , .... السكون و الألوان غريبة .... و صوت ذلك الطائر البعيد , كل ذلك يشعرني بالرهبة ..... لكن بنفس الوقت شعور غريبة بالسكينة بداخلي ... و كأنني بعيدة عن كل صخب العالم , و كأن لا أحد قادر على أذيتي هنا ...... )
صمتت للحظة قبل أن تعاود النظر اليه رافعة وجهها ثم همست متابعة
( حتى أنت ............... )
ضاقت عيناه بصمت و اشتدت الخطوط حول فمه .... بينما همست بشرى بخفوت
( لم يعد حجمك الضخم يخيفني ........ لم يعد شبابك و قوتك يثيران اجفالي .... )
لم يستطع الرد ... بل أفلتت من بين شفتيه زفرة خافتة .... و كل جسده يتشنج بتوتر ...
تذكر لتوه تلك المرة التي حاصرها في المصعد .... حيث كان غاضبها منها بشدة جعلته يعمى للحظات عن رؤية رعبها و هي تتراجع حتى التصقت بظهرها بمرآة المصعد ... تتلفت يمينا و يسارا بعينيها باحثة عن أي مهرب في هذا المكان الضيق ....
يومها بدأت نظرته تتغير لها ... و بدأ بالتدريج يلحظ توترها من الرجال بشكل عام ...
ما لم يتخيله أو يصدقه ....
هو أن تكون قد تزوجت من ثلاث رجال !! ... و آخرهم سادي النزعة , لا يستخدم سوى الذل و الألم لمتعته المريضة ....
الآن فقط بدأ يستوعب خوفها من حجمه الضخم و شبابه كما تسميه ....
كان يريحها أن تكون هي المسيطرة على كائن وهن العظام ... رخو .... مريض الرغبات ...
كي تستطيع الخلاص وقت تشاء .....
لكن على الرغم من ذلك ... تناقض احتياجها لكل منهم .....
ربما كانت تمتلك الأمل في الزواج الأول بكل سذاجة ....
الا أنها أحبت الثاني , توسلت .... و بكت .... و تمسكت بساقه كي لا يتركها و هي تعرف معنى الأبوة للمرة الأولى ....
لكنه تركها بكل ضمير مرتاح وهو يظن أنه يحسن عملا بانقاذ عائلته .... بينما تلك التي امتص رحيق جمالها و شبابها لم تكن تساوي عنده أكثر من مجرد قيمتها مالا يعوضها ....
لذا كان اختيارها للثالث .... هو احتياجها للألم ... الذل .... القهر النفسي و الإهانة بكل أشكالها ....
كي تستطيع أن تدرب نفسها كالكلب الذي يقوم صاحبه بتدريبه الشراسة كي ينهش من هو أمامه دون ندم .....
أغمض عينيه للحظةٍ قبل أن يمد يداه ليحاوط بهما خصرها ... يجذبها اليه قليلا ... و الماء يترقرق بينهما بنعومةٍ كحلم بعيد كل البعد عن واقعهما ....
فتح عينيه لينظر الى عينيها الخضاروين .... تكادان أن تكونا تامتي الإستدارة !!! .....
بهما استجداء فطري ... لكن ما أن يمسها أحدهم بسوء حتى تتحول هذه الإستدارة الى ثنايا مدببة .. و ينقلب التوسل الى شراسةٍ مرعبة ....
رفع احدى يديه ليسكب بهما الماء على شعرها المبلل ... يرجعه للخلف وهو يمشطه بنعومة.... جعلتها ترتجف و هي تستند الى صدره ....
أخفضت وجهها أخيرا و هي تتجرأ و تستند بوجنتها الى عضلات صدره .... فلم يتحرك لإبعادها ...
حينها همست بخفوت يتناغم مع صوت حركة الماء الناعمة من حولهما ....
( وليد ..... تلك العطلة , ستظل من اجمل الذكريات التي سأحملها معي ..... )
كانت تسمع هدير قلبه بوضوح تحت وجنتها .... فابتسمت للصوت مغمضة عينيها بحنين يسبق الفراق ...
حينها قال وليد بصوتٍ أجشٍ خافت
( لا تكوني متطرفة المشاعر .... من بين كل الأيام كارثية الأحداث بيننا , ستظل هذه العطلة هي الأفظع ... )
ابتسمت أكثر رغم عنها , و لم تفتح عينيها .... و بدا و كأنه يعانقها رغم عنه .. يميل بها وهو يضمها الى صدره , دون ان يشعر ... دون ارادة منه تقريبا , و كأن لجسده رأي آخر ....
همست بشرى بصوتٍ لا يكاد أن يكون مسموعا
( بلى ......سأظل أحمل بداخلي بعض اللحظات الثمينة و أحافظ عليها ككنزٍ نفيس ....... مهما باعدت بيننا الحياة مستقبلا , سأظل شاكرة لك على هاذين اليومين لآخر عمري ..... )
مد وليد يده يمسك بذقنها ليرفع وجهها اليه .... و حينها تنهد بتعب .... ككل مرةٍ ينظر اليها ...
تلك الفتاة البسيطة ذات السحر الخاص ... سحر فطري غريب لا يكاد يتعرف على هويته تحديدا ....
بعد ان تخلصت من كل الأقنعة الشكلية و الشخصية ....
و بقت تحتها عارية الروح ... مهترئة النفس .....
بعينيها الخضراوين ذات النظرة القاتلة ...
بشعرها الرقيق الذي يمنحها الطفولة و البؤس .........
همس أخيرا بصوتٍ أجش .... جاف .....
( بشرى ....... أنا لا املك منع نفسي من أذيتك , بداخلي رغبة قاتلة في ايذائك أكثر و أنا أعرف بأنكِ تستحقين أن أصب عليكٍ جام غضبي و سخطي ...... لكن أكره ما تقومين بتحويلي اليه .... كشخصٍ أدنى من حيوان ........ و هو خارج تقريبا عن سيطرتي .... )
ارتجفت شفتاها رغم عنها .... و لسعتها دموع مفاجئة تريد الإنهمار من عينيها فتوجعها بصمت قاتل
و رغما عنه و رغم شروده ... ارتفع ابهامه عن ذقنها ليستقر على شفتها السفلى برفق كي يوقف ارتعاشها الواضح .....
ساد بينهما صمت كئيب ... لم يجد أي منهما ما يقوله للآخر و ظل الفراق يحوم بينهما .......
استطاعت النطق همسا أخيرا باختناق يكاد أن يكون ترجي .... من تحت ابهامه المستقر على شفتها
( ماذا لو أخبرتك بأنني موافقة ..... و أنه لا مانع لدي في التحمل !! ... أنا أمتلك قوة أكبر بكثير مما تتخيلها ..... )
اظلمت عينا وليد بقسوة و قال بصوتٍ غريب قاتم
( أنا لست رابح ذلك القذر الثالث بحياتك ...... و لن أكون ...... حتى لو رغبتِ أنتِ بذلك .... )
ارتجفت شفتيها أكثر ... و بدت غلالة الدموع تتزايد أمام عينيها , لكنها همست تقنعه بشتى الوسائل
( لكن ..... لكن ... انا لم أرك مثله أبدا , أعلم أنك غاضب .... و أنني خدعتك في البداية .... لذا من حقك أن تثور لكرامتك , أنا متقبلة هذا الأمر ...... )
هتف وليد فجأة بكبت و تشنج
( لكن أنا لا أتقبله ....... أنا لا أستطيع النظر الى نفسي بكل مرةٍ أضربك بها أو اهينك ...... )
رفعت يدها الى صدره المتشنج و هتفت همسا
( بعض البشر هذا هو قدرهم ....... استطيع تقبل بعضا من قسوتك , مقابل الأمان الذي أجده في بيتك ...... هذا اختياري فلا تظن انك ظالم ..... و تدعي تركي بهذه الحجة , هذا ليس عدلا .... )
ترك فمها ليمسك بذراعيها فجأة يكاد أن يرفعها على أطراف أصابعها وهو يقول من بين أسنانه ...
( إنه نفس الرجاء الذي رجوتِ به زوجك الثاني ..... بشرى أنتِ في حاجةٍ ماسة للمساعدة كي تتوقفي عن سلك نفس النمط بحياتك كل مرة ..... )
قالت بتوسل و كفاها تتشبثان بذراعيه كذلك
( ساعدني اذن ...... لكن لا تتركني , سأكون لك زوجة مطيعة بدرجةٍ لن تنالها و لو بحثت عنها بكل بيتٍ من بيوت العائلات كلها .... سأكون كما تريدني أن أكون ..... )
هزها قليلا و هو يقول بتشنج
( أنتِ لا تملكين التوقف عن بذاءة تصرفاتك و سلاطة لسانك أبدا .... انظري ماذا فعلتِ ليلة أمس .... كلما غضبتِ تلجأين الى احدى نزواتك .... تتلفظين بأقذع الألفاظ .. قد تضربين فتاة محترمة بحذائك , لا لشيء سوى لمجرد شك أحمق في خيالك .... و حين يزداد جنون غضبك تلجأين الى الرقص أو التصرفات المشبوهة و كأنك لا تحملين اسم رجل ....... انتِ لا تتغيرين ابدا ... كلما تقدمتِ خطوة , تتراجعين عشراتٍ غيرها ما أن تستائين ....... )
كانت تهز رأسها نفيا مع كلامه القاسي .... قبل حتى ان ينهيه ... و مع آخر كلماته هتفت بترجي و عيناها تدمعان بشدة
( هذا ليس عدلا أبدا ...... تركتني وحدي لساعاتٍ طويلة , و أنا أعاني من صدمة خبر الحمل وحدي ... لدرجة انني ظننت بأنك قد عدت و تركتني في الفندق و في مدينة غريبة وحدي ..... لأجدك بعد ذلك تتضاحك مع امرأة أخرى !! ..... كيف تريد أن يكون تصرفي ؟!! ..... )
عاد ليهتف همسا بصوتٍ بدا كالفحيح الغاضب وهو يهزها قليلا ...
( و كلما تصرفت تصرفا يغضبك تبادرين بإراقة المزيد من رجولتي ..... هذه هي أنتِ تماما , لا تخضعين لأي قيود أو قوانين ..... لا تمتثلين لأي احترام أو مبدأ ...... )
كانت الآن ترتجف بشدة و شفتيها ترتعشان ... أصابعها تنشب بعضلات ذراعيه كالمخالب الصغيرة ...
بينما لسانها فقد المزيد من الحجج .....
إنها لا تجد تفسير مقنع .... سوى أنها كذلك .... هذا هو شخصها .....
لا تعرف كيف تكون كباقي من عرفهن من النساء من قبل .....
نظر اليها وليد باستياء و هي ترتعش بشدة بين كفيه ... فقال بجفاء خافت
( يجب أن نخرج الآن من الماء ..... أنتِ ترتعشين و قد تصابين بالبرد .... )
رفعت بشرى وجهها تنظر اليه بحزنٍ يائس .... ثم حولت نظرها الى البعيد ناظرة الى السماء التي بدأ يغل عليها اللون الأزرق الشاحب بخجل ....
همست باختناق دون ان تنظر اليه
( الشمس سرعان أن تدفىء الماء ........... )
لم يدرك بأنه يجذبها اليه مجددا كي ترتاح على صدره برفق وهو يقول بخشونةٍ خافتة
( لا يجب أن تتعرضي للشمس .... هل نسيتِ بهذه السرعة ؟!! ..... )
رمشت بعينيها عدة مرات و هي تتجنب النظر اليه .. ثم رفعت يدها لتمسح دمعةٍ بظاهر اصبعها من زاوية عينها كي لا تتساقط على وجنتها ... ثم قالت بقنوط
( لا أهتم ........... )
شدد عليها وليد قليلا وهو يقول بجفاء
( يجب عليكِ الإهتمام منذ اليوم .... أنتِ تحملين طفلا الآن .... و مرضك قد يكون خطيرا عليه , الم تفكري بالأمر ؟!! ..... )
ظلت شاردة في البعيد طويلا و هي مستندة الى صدره القوي ... ثم قالت أخيرا بخفوت
( فكرت .... ساعة أو أكثر قليلا .... لم يتسنى لي التفكير طويلا .... أنا لا أعلم حتى ما علي فعله ؟!! ... لا دراية لي بمثل هذه الأمور أبدا .... لم أخالط أي أمهات ... لم يكن لي أي أمهات ... لم أقرأ كتابا عن الأمر أبدا .... لم اقرأ أي كتاب اصلا ...... )
صمتت قليلا وقد وجدت أنها لهجتها قد تحولت مع كل كلمة الى نبرة خالصة من اليأس ... و قد بدأ الرعب في الظهور في آخرها مما جعلها تصمت و عيناها تتسعان قليلا و هي تحاول التنفس بهدوء
" هل سأصبح أم حقا ؟!!! .....ماذا لو تركني اذن ؟؟ .."
كانت هذه هي العبارة التي سيطرت على تفكيرها فجأة ... مما جعل عينيها خائفتين و حدقتيها مهتزتين
فأخذت نفسا عميقا قبل أن ترفع عينيه اليه ثم قالت بعفوية كاذبة ...
( لكن عامة .. حتى القطط تلد تحمل و تلد في الطريق ...... و هي بالتأكيد ليست أكثر خبرة مني ... )
ظل وليد صامتا وهو ينظر اليها بملامح غريبة ... قبل أن يقول بصوتٍ قاتم به نوع من الترجي
( هلا صمتِ ؟؟ ...... كل ما تنطقين به يجعلني ....... )
هز رأسه قليلا وهو يتنهد بصعوبة .... فهمست بشرى و هي تريح كفيها على جانبي خصره الضامر العضلي , مقتربة منه
( يجعلك ماذا ؟؟ ......... )
كان يلمع بقطرات البحر ... تتساقط من شعره المبلل المصفف للخلف ... على عنقه و صدره , مما جعل منه ايقونة للشباب في نظرها ...
و تسائلت برعب ... كيف يمكن لشابٍ مثله أن يكمل حياته مع امرأة مثلها ؟!!! ....
العجيب في الأمر أنها معه تشعر بنفسها الأكثر خبرة ... و الأكبر عمرا ...
تشعر بنفسها حيزبون لعوب ... يكاد الشيب أن ينتشر في رأسها ....
ما رأته بحياتها يجعلها زهدت في الرجال بكل قذاراتهم ... الى أن اقتحم وليد حياتها ....
فجعل منها امرأة خبيرة أسقطت شابا في حبائلها .....
على الرغم من أنها أصغر منه سنا .... و تكاد أن تكون في نصف حجمه إن لم يكن أقل ...
لكن هذا هو الشعور الذي ينتابها أمامه ....
انه ..... شاب ذهبي مدلل ..... بداخله نبل , يقاومه بطاقات غضبه المتفجرة .....
شاهدت حلقه يتحرك بصعوبةٍ قبل ان يتلمس فكها .. و عنقها ... منحدرا بأصابعه الى ياقة الوشاح الشبكي و الذي ترتدي من تحته قميص قطني بلا أكتاف ...
تاهت نظرتها بحثا عمن يراقبهما بقلق فلم تجد سوى زوج من السائحين الأجانب كبار السن على مسافة بعيدة منهما ..
ابتلعت بشرى ريقها و ارتعشت اكثر تحت وطأة لمساته الشاردة و كأنه يستكشفها على مهل ...
و ما أن شعرت بأصابع قدميها تتكور في الرمال المبللة بارتعاش .. حتى همس أخيرا بصوتٍ أجش
( هيا ..... يكفي هذا .... )
صدر من بين شفتيها انين يائس و هي تتمسك في الأرض الرملية بأصابعها .... تريد البقاء معه طويلا .. تريد الاستناد الى صدره العمر بأكمله ... لا يفصل بينهما سوى المياه الرقراقة ...
الا أن وليد تهرب من عينيها وهو يمد يده ليلتقط كفها و يسحبها خلفه .. خارجا من الماء ....
و رغم حزنها على تلك اللحظات الثمينة التي تتسرب سريعا ... الا أنها شعرت بنفسها مراهقة صغيرة يجرها خلف شابا وسيما , مفتول العضلات ... يجذب الأنظار أينما ذهب ... و الأجمل أنها ليست مجفلة منه ...
بل تتأمل عضلات ظهره القوية .... تتألق بقطرات الماء اللامعة ....
و هناك أثر جرح صغير على جانبه الأيمن يزيده جاذبية و خطورة ....
لم تدرك أنها كانت تبتسم انبهارا بجسده الرياضي و الذي بدت كحشرة صغيرة خلفه !!! ....
ترك يدها ليلتقط احدى المناشف و أخذ يجفف جسده بها ... بينما هي تراقبه مكتفتة ذراعيها حول صدرها ترتجف من نسيم الصباح البارد ...
الا أنها لم تشعر بالبرد ... بل كانت منشغلة بالنظر الى وليد ...
رفع عينيه اليها فجأة ... ليجد نفسه عرضة لمراقبتها الصامتة الحديثة عليها مؤخرا ....
التوت زاوية شفتيه في شبه ابتسامة مدركة .... ثم قال أخيرا بصوتٍ خافت أجش
( تعالي لأجففك ......... )
اقتربت منه بطاعة دون أن ترفع عينيها عنه .... فالتقط منشفة كبيرة أخذ يجففها بها بقوةٍ و كأنه ينفضها نفضا ...
أو كأنه يجفف قطة مبللة وقعت في الماء لتوها ... و ما أن انتهى منها حتى رفعت وجهها المحمر تنظر اليه من بينِ هالة شعرها المشعث بعفوية حول وجهها ..
تلاقت نظراتهما عدة لحظات بصمت ... قبل أن يلفها بالمنشفةِ قائلا بخفوت
( دعي هذه حولك أثناء صعودنا ..... فملابسك ملتصقة بكِ تماما ... )
زمت شفتيها و هي تمسك بطرفي المنشفة من حولها قائلة بقنوط
( كيف سأصعد بهذا الشكل ؟!! .... منظري كالمتسولين !! ... )
التفت ينظر اليها مليا ... ثم قال بهدوء
( حسنا تبدين كالمشردين قليلا .... لكنك لم تصلي بعد الى درجة التسول ...... و لو اسرعنا الآن فقد نتمكن من الصعود قبل أن يراكِ احد ..... )
استدار عنها ليبتعد دون أن ينتظر منها الرد ... فلحقت به سريعا و صوت حفيف الرمال من تحت خفيها المطاطين يخبره بوجودها تماما .. تتعثر قليلا , ثم تسرع الخطا محاولة اللحاق به ...
لكنها لم ترى شبه الابتسامة المرتسمة على شفتيه ...
فمنظرها هذا يذكره بلجين أخته و هي في سن التاسعة فقط ....
كانت تنزل البحر بملابسها ثم تخرج بنفس المنظر متدثرة بمنشفة كبيرة و خف مطاطي ....
بأحد المصايف القديمة ... حيث كانت أسرته تتواجد هناك كل صيف ....
صخب الأطفال و تشرد منظرهم كان شبيها ببشرى تماما ..... و هكذا هي الآن , لم تتعدى كونها تشبه طفلة او مراهقة على الأكثر ....
وصل الى بهو الفندق .... و هي تتبعه بسرعة ....
الا أنهما توقفا حين ناداه موظف الاستعلامات .... فاتجه وليد اليه , حينها قال الموظف بتهذيب
( تم الحجز للسفر بالطائرة سيد وليد ..... غدا في الثانية عشر .... )
رفعت بشرى وجهها الشاحب مجفلة و هي تهمس دون تفكير
( بهذه السرعة ؟!! ......... )
رمقها وليد بنظرةٍ صامتة فأخفضت وجهها بوجوم ......
لكنها سمعته بوضوح قاسي ... يتمم بعض الإجراءات و يشكر الموظف ...
ثم انتفضت على صوته يقول بهدوء
( لقد انتهيت ..... هيا بنا ...... )
تبعته بقدمين متثاقلتين .... متخاذلتين ... مطرقة الرأس بإحباط ... و ما أن دخلا المصعد ...
حتى رفعت وجهها اليه لتقول بخفوت
( انتهت العطلة سريعا ........... )
رمقها طويلا , قبل ان يقول بجفاء خافت
( كان علينا السفر في وقتٍ أسرع من هذا ..... وضع الطفل غير سليم الآن و كل يوم تأخير به خطورة على الجنين ..... )
عادت لتطرق بوجهها و هي تجذب طرفي المنشفة معا هامسة بقنوط
( نعم ......... صحيح ..... و حينها ستتأكد من انني لم أخدعك بمسألة الحمل , حين تعرف أن نسبة حدوثه كانت ضئيلة جدا ..... )
قال وليد بفظاظة
( اعتقد أننا كنا قد انتهينا من هذا الأمر ..... لماذا نعيده مجددا ؟!! ..... )
رفعت وجهها الشاحب الحزين اليه و قالت بخفوت
( لكنك لم تخبرني بعد ..... هل تصدقني ؟!! قبل أن يؤكد لك الطبيب حين نعود ؟؟ ...... )
ظل ينظر الى عينيها طويلا ... قبل ان يقول أخيرا متنازلا بفظاظة و بدون رقة
( أصدقك ...... فقد أبديتِ استعدادا منقطع النظير في اجهاض الطفل ...... )
عضت على شفتيها و هي تهمس بفتور
( كان هذا قبل أن تعلن عن دعمك لي ............ انتابني الخوف في البداية , أما الآن فأنا سوف .... )
فتح المصعد أبوابه مما جعلها تصمت بوجوم و هي تنظر الى الممر الطويل أمامهما ذو البساط الأحمر الداكن الممتد ....
الا ان وليد مد يده يمسك المصعد ... يحول بين خروجها بذراعه وهو يقول باهتمام غامض
( تابعي ...... الآن ماذا ؟!! ...... )
رفعت وجهها تنظر اليه طويلا قبل أن تقول بخفوت مؤكدة
( الآن اتخذت قراري ..... سوف أحافظ على الطفل حتى لو تركتني ..... )
استمر الصمت بينهما طويلا .... فقال وليد دون أن يتحرك من مكانه
( و ما الذي غير رأيك ؟!! ......... )
عاودت بشرى النظر الى البساط الأحمر الطويل .... قبل أن تقول بخفوت هامسة
( هل يجب علينا الكلام هنا ؟!! .... لما لا تنتظر الى ان ندخل الى الجناح ؟!! .... )
صمت وليد عدة لحظات .... قبل أن يقول بهدوء
( أشك في أن نتمكن من الكلام ما أن ندخل ........... )
ارتفع حاجبيها و هي تسمع منه تلك الجملة المبهمة .... و رغما عنها أجفلت بعينيها الواسعتين و شعرت باللون الأحمر ينتشر على وجنتيها إن كانت قد أخطأت التفسير !!...
لذا سارعت بإخفاض وجهها و هي تهز كتفيها بارتباك ... ثم قالت بخفوت
( أظن ....... تذكرت أنني في بعض أيامٍ من حياتي , حين تذوقت طعم الرفاهية ..... شعرت بالإمتنان , لأمي .... لتلك المرأة التي أنجبتني .... كانت مراتٍ قليلة من الإمتنان , لكني شعرت بها .... فقد كان بإمكانها التخلص مني بسهولة .... لكنها مررت لي الحياة و لم تجهض تلك السعادة التي ظننتها بوقتها ..... )
صمتت قليلا و هي تشعر بنفسها ترتجف كثيرا .... لكنها تابعت هامسة
( لقد ارتكبنا نزوة .... كلانا ارتكب نزوة و له أسبابه التي تختلف عن أسباب الآخر .... لكن هذا ليس معناه أن أقتل فرصة هذا الطفل في الحياة .... يوما ما سيعرف أياما سعيدة .. و سيكون ممتنا أنني سمحت له بالحياة التي كتبت له .... ربما لن تكون الأفضل , لكنها ستظل أفضل من حياتي بكل تأكيد ...... )
ساد صمت طويل مشحون بينهما ..... وهو ينظر اليها بعينين حادتين ... محاصرا اياها بذراعه التي تمنع انغلاق باب المصعد ... بينما هي تقف ككائن متضائل مبلل و محتمي بمجرد منشفة ...
رفعت عينيها اليه فجأة .... ثم قالت بخفوت من حيث لا تعلم
( أظن أنني رأيت أمي من قبل ........... )
اتسعت عيناه و قد بدا مصدوما للحظة , الا أنه سارع بالسيطرة على نفسه وهو يقول بصوتٍ أجش
( كيف ؟؟ ...... و متى ؟؟ ....... )
ذهلت بأنها نطقت بهذه المعلومة أمامه .... تلك المعلومة التي لم يعرفها مخلوق سواه من قبل ...
ابتلعت غصة التوتر بحلقها ... ثم همست بتردد
( مجرد ظن ...... كانت هناك امرأة تصر على المجيء لرؤيتي خلف حواجز سور دار الرعاية ... كل مرة كنت أجد الحارس المسن يشير تجاهي ..... و كانت تنظر الي من بعيد , ثم ترحل ...... )
كان صدره يتنفس بسرعةٍ و انفعال , على عكس فتورها الميت ....
تابعت بشرى بخفوت اكبر
( كانت جميلة ...... خضراء العينين بوضوح , لكنها تبدو ...... تبدو كشيء اهترأ من كثرة الإستهلاك ... كان هذا انطباعي عنها كلما رأيتها .... كنت صغيرة و لم اتمكن من ربط علاقة تلك المرأة بي .... لذا لم أهتم ... الى أن جاء يوم و شاهدت المدير و احدى المشرفات يتشاجرون معها و يطردونها .... و من وقتها رحلت و لم أرها مجددا ..... )
صمتت برهبة غير مصدقة لما تفوهت به للتو ..... لكنها همست أخيرا و هي تهز كتفيها بلامبالاة
( رحلت قبل حتى أن أتاكد من ظني ....... لا أملك شيئا الآن سوى تلك الذكرى البعيدة .... )
رفعت عينيها الى وليد الذي كانت ملامحه شديدة التعقد و القتامة و هو يتنفس بسرعةٍ قليلا .... ثم قالت بفتور
( ملخص الأمر ..... انها كانت مهتمة نوعا ما ... هذا لو صدق ظني و كانت تلك المرأة هي أمي فعلا .... )
تحشرج نفس وليد وصوته وهو يقول بصوتٍ أجش خافت
( كيف كانت ؟؟ ........... )
لعقت بشرى شفتيها و هي تبعد نظرها بعيدا عنه .... ثم قالت بصوت شديد الخفوت
( كانت ... من النوع الذي لا تود أن تعرف عنه شيئا .... لا أظن أنها كانت من أصحاب الخطيئة الواحدة ....)
هتف وليد فجأة بقوة و غضب
( اخرسي ...... كيف يمكنك قول هذا من مجرد بضعة نظرات بعيدة ؟!! ......كيف لكِ أن تكوني بهذه القسوة ؟!! .... )
رفعت عينيها المتخاذلتين اليه و قد أذهلها ردة فعله .... ثم رفعت كتفها تقول
( من ذكرى الطريقة التي طردوها بها .... لا أملك سوى أن ...... )
هدر بها بقوة
( مجرد ذكرى قميئة تجعلك تتخيلين شيئا قد يكون ظالما ........ )
رمشت بشرى بعينيها و هي تنظر الي الممر الطويل أمامهما ... ثم همست بارتباك
( اخفض صوتك أرجوك ........... )
ارتبك هو الآخر وهو ينظر الى الممر من فوق ذراعه ... فقالت بشرى بخفوت
( ما الأمر يا وليد ؟؟ ...... لم تكن منصفا معي بتلك الصورة التي أراها الآن تجاه امرأة لا تعرف عنها سوى انها انجبت طفلة في الحرام !!...... هل تخشى الإعتراف بأن جدة طفلك قد تكون ..... )
مد يده فجأة ليقبض على فكها مسكتا فمها وهو يقول بلهجةٍ غريبة
( اصمتي ...... فقط اصمتي ....... لا أريد سماع المزيد منكِ ...... )
نظرت اليه بصمت من فوق كفه الكاتم لفمها ... و طال بهما النظر الى عيني بعضهما طويلا .. قبل أن تقول بشرى بخفوت و هي تهز وجهها كي يبعد يده
( لم يعرف مخلوقا ما ذكرته للتو .....لكنني وصلت الى المرحلة التي يجب أن أضع أمامك كل الحقائق .... مهما كانت ما هي الى مجرد ذكريات بالأبيض و الأسود ..... او ربما بالأسود فقط .... )
ارتجفت قليلا و هي تهمس
( أشعر بالبرد ...... ملابسي تحولت الى جليدٍ على جسدي .... )
أجفل وليد ثم ابعد ذراعه وهو يمد يده ليقبض على كفها قوةٍ وهو يقول بصوته الأجش
( تعالي ........ هيا .... )
لكن و قبل ان يخرج من المصعد اصطدم بزوج بدا عليهما الحب و الغرام وهما متمسكين بذراعي بعضهما ...
و من الواضح وضوح الشمس أنهما في شهر عسلهما .....
اعتذر وليد بخفوت ... وهو يسحب بشرى خلفه خارجا من المصعد , بينما هي في حالٍ شكلي لا تحسد عليه ..
ترتدي ملابسها المبللة و المغطاة بالرمال التي لوثت المصعد ... و تلتف حولها منشفة بحجمها تقريبا ....
بينما الفتاة الأخرى تبدو في قمة جمالها و اشراقها و هي متعلقة بذراع زوجها ...
خرجت بشرى خلف وليد ... الا انها رفعت وجهها تنظر مرة اخيرة الى تلك الفتاة الجميلة التي كانت تبتسم لزوجها وهو يبالها الابتسام بهيام ... قبل أن يغلق المصعد أبوابه على هذا المشهد أمام عينيها الخضراوين العميقتين .....
حين دخلا الى جناحهما ..... تحركت بشرى الى منتصف المكان بتوتر , مخفضة وجهها , متدثرة بمنشفتها ...
ثم رفعت عينيها تنظر الى وليد الذي كان واقفا على بعدٍ منها ... يراقبها دون أن يبعد عينيها عنها للحظة ...
فقالت أخيرا بارتباك
( يمكنك استخدام الحمام قبلي ........ )
لم تتحرك عضلة بوجهه و كأنه لم يسمعها ..... فرفعت عينيها اليه ببطىء و هي تتعثر في أنفاسها السريعة و رعشة البرد التي بدت و كأنها تتزايد و تتحول الى صقيع يجعلها تنتفض داخليا ...
خاصة وهو يبادلها النظر بتلك الطريقة ...
اقترب منها ببطىء و عيناه لا تتزحزحان عنها ... الى أن وصل اليها , فمد يده ليجذب المنشفة عنها و يرميها أرضا ...
و حين رفعت وجهها اليه بتوتر و شفتين ترتجفان .... قال لها بصوتٍ قاطع خافت
( ستأتين معي .......... )
لم تستطع الرد و هي تشعر بقلبها يهبط بين قدميها .... بينما هو يسحبها خلفه و كأنه يدحض كل ما كانت ترفضه سابقا .... أما هي فكانت مستسلمة تماما عن رضى تام ... و ليس عن بلادة شعور كما كانت سابقا ...
.................................................. .................................................. ......................
حين تململت في نومها و هي تشعر بمن يلاعب خصلات شعرها ...
سمعت صوتا أجشا باتت تعرف نبرته جيدا يهمس في أذنها
( يجب أن أخرج لأنجز ما أستطيع انجازه قبل السفر ...... لا تتحركي من هذه الغرفة , أحذرك يا بشرى فلقد رأيتِ ما حدث أمس .... كفى فضائح .... )
كانت متخمة من سيل المشاعر الصباحية التي داهمها بها ... حتى تحولت أطرافها الى عجينٍ لين متخدر ....
همهمت بشفتيها المتورمتين قليلا دون أن تفتح عينيها ...
فقال بخشونةٍ أكبر وهو يقبض على ذراعها العاري
( هل سمعتِ يا بشرى ؟؟ ...... إياكِ و البحث عني أو الخروج لأي مكان .... )
كان صوته يخترق وهنها الوردي الغائم كمنشارٍ قوي ... فتذمرت متمتمة بنفاذ صبر
( حسنا ..... حسنا ...... أخرج ........ )
ظل ينظر اليها قليلا .. و شعرها الفوضوي يغطي وجهها بالكامل كقطةٍ غزيرة الفراء ....
حينها رفع كفه ليبعد هذه الكتلة العسلية من شعرها عن وجهها ....
كان جفنيها منطبقين بشدة ... و فمها متكور و مفتوح قليلا و كأنها تلهث , بينما حاجبيها منعقدين بإرهاق ...
قال وليد بخفوت و كأنه يحادث نفسه
( أنتِ دافئة .... لكن حرارتك ليست مرتفعة .... )
همهمت بشرى قليلا دون أن تجد القدرة على فتح عينيها ... بينما وليد يتأملها طويلا , ..يتأمل كل حركة من شفتيها .. من انطباقة جفنيها ... يسمع النفس اللاهث الخارج من بين شفتيها ....
و كان بداخله شيء غريب يتولد تجاهها ... شيء لم يكن يريده أو يرغبه في تلك المرحلة بالذات ...
همس أخيرا بصوتٍ أكثر خفوتا
( هل انتِ متعبة ؟!! ............ )
همهمت بشرى بإجهاد دون ان تستيقظ
( هممممممم ......... )
كان بداخله ماردا يحثه على الإنضمام اليها .... و اقتحام هشاشتها مجددا , و الإرتواء من ذلك المزيج الخاص جدا من الرقة و الشراسة .... من اليأس و نظرة الرجاء التي يراها بعينيها دائما ...
كل تلك المشاعر تحوله الى رجل جائع ... يريد أن ينهل منها قدر استطاعته قبل أن تفرق بينهما الأيام بطريقة ما ......
أكثر ما يثير غيظه هو ان الغضب بداخله لا يزال متواجدا و مشتعلا ... لكن الكره لها بدأ في التراجع بصورةٍ أسرع مما تخيلها أو أرادها ....

بعينك وعد. 🌺 بقلم تميمة نبيل 🌺حيث تعيش القصص. اكتشف الآن