20

3.2K 87 2
                                    

الفصل العشرين :
في اليوم التالي
دخلت وعد الى محل الورود بخطواتٍ متوترة ....
تدفع الباب ذو الأسطوانات المعدنية الموسيقية ... فداهمتها رائحة الورود من كل مكان ....
و طارت عيناها بشوقٍ بحثا عن اميرتها الغاضبة الصغيرة ... لقد اشتاقت لها كثيرا .... اشتاقت لها اشتياقا لو ادركته ملك لسامحتها على الفور ...
لم تكن ملك واقفة عند منضدة البيع ....
لكن حركة مجفلة في نهاية المحل جعلت وعد تنظر اليها ... لتجد ملك مرتبكة الوجه آتية ناحيتها و هي تقول بتوتر
( وعد !! ..... يالها من مفاجأة !! .... كيف حالك ؟؟ .... )
نظرت وعد الي اختها التى وقفت متوترة و هي تفرك اصابعها معا ... و ضفيرتها الشقراء العسلية منسدلة على احدى كتفيها ببراءة ....
نعم هي ملك بجمالها و برائتها .... لكن بها شيء مختلف ....
اهتزازة جديدة بعينيها ... كانت غريبة على وعد ....
نظرت وعد خلف كتف ملك ... لتجد شابا نحيفا طويلا ... ذو شعر ناعم يعطيها ظهره وهو يمسك بعدة وردات ... غافلا عن وجود ملك ووعد ....
اعادت وعد عينيها الى ملك و قالت بخفوت
( انا بخير يا ملك ..... لقد اشتقت اليك جدا .... كيف حالك انتِ ؟؟ )
ظلت ملك تنظر اليها طويلا ... عيناها بعيني وعد بهما لمحة عتاب خفية ... لكنها ردت بخفوت و رأسها يميل للخلف قليلا ..
( أنا بخير ......... )
تقدمت منها وعد خطوة لتمسك بذراعها قائلة
( أريد أن أتكلم معك ....... )
عاد وجه ملك ليلتفت للخلف قليلا بارتباك .... ثم نظرت لوعد تقول بخفوت
( حسنا سأهاتفك الليلة ....... )
قالت وعد و هي تشدد على ذراعها
( بل الآن يا ملك ..... من فضلك .... )
نظرت وعد خلف كتف ملك .... الى الشاب الواقف بظهره , ثم همست لملك بقلق
( هل يضايقك هذا الشاب ؟!! ..... )
أسرعت ملك تهمس بطريقة ملفتة للنظر و دون أن تنظر الي المقصود ....
( لا ...... انه أحد الزبائن فقط ... )
نظرت وعد الي عينيها بتشكك .. ثم قالت بخفوت
( أين صاحبة المحل ؟........ )
ردت ملك بهدوء
( إنه وقت راحتها .... و هي تصعد لشقتها بنفس الxxxx .... لا تقلقي , لا شيء يدعو للقلق )
ثم لم تلبث أن اتجهت الى منضدة البيع , لتخرج مفتاحا من حافظتها الصغيرة ... أعطته الى وعد و هي تقول بخفوت ..
( أصعدي الى غرفتي و انتظريني هناك .... دقائق , سأنهي طلب هذا الزبون ثم ألحق بكِ )
ظلت وعد تنظر اليها بقلق عدة لحظات .... لكنها أومأت برأسها بإستسلام استدارت لتخرج بطء من المحل ....
وقفت ملك تنظر في إثرها قليلا ... ثم أسرعت الخطا فجأة الى الشاب الذي التفت اليها سريعا ...
فبادرته تقول بحدة
( أخرج من هنا حالا يا شادي ....... )
لم يبالي بحدتها وهو يقول بحدةٍ مماثلة , الا أن الشوق بها غالب
( أيام و أنا أطلب منكِ السماح يا ملك .... متى ستغفرين لي زلتي ؟؟ .... )
نظرت ملك اليه بقسوة , ثم قالت بعنف خافت
( تطاولك علي لم يكن مجرد زلة ..... اسمع يا شادي ... أو كريم ... أو أي اسم ستتخذه لاحقا ... على عكس ما تعتقده ... أنا لست من ذلك النوع الرخيص من الفتيات الذي تعرفه ..... كما أنني لم أعد الطفلة التي تجرب معها أولى رغبات رجولتك .... لقد كانت أياما وولت ...
لقد كبرت يا شادي و كبرت أنت ....... و تلك التصرفات لها مكان آخر و أناسا آخرين و لست أنا ..... )
هتف كريم بقوة و حرارة .... بينما عيناه تلمعان بصدق استشعرته و رأته رغما عنها
( الرخص ليس هو الصفة التي قد تقترب منكِ يوما يا ملك ..... أياكِ أن تكررينها مجددا ....
ملك أنتِ لا تعرفين قيمتك لدي .... بداخلي .... لقد راقبتك طويلا .... طويلا جدا و انتِ أمام عيني ... تكبرين و تزدادين جمالا يوما بعد يوم .... أحاول جاهدا البعد عنكِ و إخراجك من حياتي كما أخرجت الماضي .... لكنني لم أستطع .... فشلت و هزمت شر هزيمة ..... )
نظرت الي عينيه .... ماذا تخبره ؟؟ .... أنه من منذ أن عاد الى حياتها أصبح يحتل تفكيرها كله رغما عنها ....
لكن و ماذا بعد ؟!! ...... لم تعد الطفلة الضائعة التي تقبل منه كل ما يمنحه و كل ما يأخذه .... وهو لم يعد طفل .... لقد أصبح رجلا ..... رجلا ينظر اليها و كأنها أميرة من أميرات الكون ...
قالت ملك و هي ترف ذقنها ...
( ماذا تريد مني يا شادي ؟؟ ....... أنت لن تستطيع ادخالي الى حياتك و قد أدركت ذلك بنفسي , فماذا تجني من تلك الصلة ؟؟ ...... )
وقف ينظر اليها بوجوم طفل تائه ..... لم ينل ما يريده ... و رغما عنها أشفق قلبها عليه كما كانت تشعر دائما في طفولتهما .....
لكنها أرغمت نفسها الى النظر اليه بقوة و هي تتظاهر بالشجاعة .... الى أن قال كريم بخفوت و هو ينظر الي عينيها
( أنا لست محتاجا لأن أدخلك لحياتي يا ملك .... أنتِ جزء لم ينفصل عنها أبدا , رغم أنني حاولت العكس ... حاولت اخراجك دون جدوى ..... )
أخذت نفسا سريعا .... ثم كتفت ذراعيها و رفعت ذقنها و قالت
( أنت لم تجب على سؤالي ...... ماذا تريد مني يا شادي ؟؟ ..... )
أخفض رأسه .... و حينها علمت الجواب , علمت أنه أبعد مما تخيلت .... لكنه قال بهدوء
( أريدك أن تبقي بقربي يا ملك .... أن أبقى أنا بقربك و الا ترغميني على الإبتعاد عنكِ .... )
رفع عينيه الى عينيها .... و همس بقوة
( لا تبعديني عنكِ يا ملك .......... )
ظلت تنظر الي عينيه بقوة ..... دون أن تبدي الضعف الذي ينمو بداخلها , ثم قالت بعد فترة طويلة
( اخرج يا كريم ........ )
أظلمت عيناه .... و بهت وجهه ... لكنها تابعت بخفوت
( أختي تنتظرني .... و قد تعود في اي لحظة .... )
عاد الأمل ليطفو فوق ملامح وجهه البائسة ... فقال بجدية
( هل هذا معناه أن أراكِ فيما بعد ؟؟ .......... )
أدارت وجهها بعيدا عنه ..... و لم ترد ... بل زادت من تكتيف ذراعيها .... فابتسم من قلبه بمنتهى العنف النابض بصدره ....
فاقترب منها خطوة .... لكنها فرت للخلف و هي تقول بشدة
( أنا أحذرك يا شادي ..... لن أسمح لك بأن تتجاوز حدودك معي بعد الآن ... )
توقف مكانه و عيناه تتألقان ..... " بعد الآن " .... انها هي تلك الكلمة التي كان يرغب بسماعها منذ أن ظن أنه نجح في ابعادها عنه للأبدا ....
تألقت أسنانه من بين ابتسامته .... لكنها كانت تنظر اليه بصرامة ... ثم قالت بخفوت آمر
( أخرج ........ )
أمسك وردة جوري حمراء بساقٍ طويلة ..... ثم مدها اليها وهو يهمس
( سأراكِ قريبا ........ )
ظلت تنظر الى الورد بملامح قوية لفترة طويلة ... ثم لم تلبث أن مدت يدها تمسكها ببطء دون أن تلين ملامحها .... و ما أن ابتعد خارجا بقوة قبل أن يضعف و يتهور من جديد ...
حتى ابتسمت ملك رغما عنها ..... لم تكن تريد للابتسامة ان تشق طريقها الى شفتيها ... لكنها فعلت و ابتسمت بحزن .... لك الصبي يحتل مساحة قوية مسورة بسياجٍ متين في ذاكرتها ....
هذا ما اكتشفته ما ان عاد بعد سنوات من الفراق .....
شهقت بألم ... حين شعرت باحدى اشوالك الوردة تخز اصبعها و تدميه .... فنظرت الى نقطة الدم القانية و رفعتها الى فمها تمسحها و عيناها تشردان في الباب الزجاجي .... خلفه ....
.................................................. .................................................. ....................
دخلت ملك غرفتها ببطء ... فوجدت وعد وافقة تطالع أحدى رواياتها ....
وقفت تنظر اليها بصمت دون أن تنبهها الى دخولها ... تتمعن بها قليلا ....
انها لا تشبهها على الإطلاق ..... لا شبه بينهما قد يقنعها انها أختها بالفعل ..... او حتى كي يقنعها أنها هي نفسها وعد التي تركتها منذ سنوات ....
امعنت النظر بها .... انها جذابة ولا شك .... لها سحر غامض و حزين ...
متناسقة نحيفة .... ذات ملامح مرسومة في لوحةٍ معبرة ....
انها تشبه والدتها .... تلك المرأة التي يبقى منها مجرد طيف مشوش في ذاكرتها .... لكنها لم تختفِ تماما ... ووعد الواقفة الآن هي من تحييه ....
انها تشبه والدتها بشدة ....
رفعت وعد وجهها اليها فجأة .... و ظلت تنظر اليها للحظات بصمت ... ثم ابتسمت ...
همست وعد برقة
( اشتقت اليكِ .......... )
ردت ملك و هي تبتسم كذلك
( و أنا أيضا ............ )
وضعت وعد الرواية على السرير ... ثم اقتربت بحذر من ملك , الى ان وقفت امامها ... و فجأة أخذتها بين احضانها بقوة ....
تشنجت ملك للحظة ثم لم تلبث ان استسلمت و هي تضمها اليها بقوة ....
قالت وعد وهي تتنشق عطر شعرها الوردي ...
( زفافي غدا ........ )
ابتعدت ملك عنها بسرعة و هي تنظر الي عينيها .. ثم قالت بدهشة
( حقا ؟!! ........... )
أومأت وعد برأسها و هي تبتسم بحزن ... ثم قالت بخفوت و رجاء
( هل تسامحينني ..... و هل تبقين بقربي غدا , كي لا أكون وحيدة دون عائلة ؟؟ .... )
ظلت ملك تنظر اليها طويلا ..... ثم قالت بخفوت
؛( لماذا أخفيتِ عقد قرانك عني ؟؟!! ...... )
رفعت وعد عينيها الي ملك برجاء صامت .... لكن ملك تابعت بهدوء
( لو أردتِ أن تكون لكِ مثل تلك الخصوصية فأنا حقا لا أمانع .... هذا حقك و أنا لا أمتلك تلك السلطة عليكِ بعد سنوات طويلة من الفراق بيننا ..... نحن تقريبا نتعارف من جديد ....
لكن ما أتعجب منه فقط .... هو لماذا ؟!! ...... لماذا تسعين الي في لحظة ثم تبعديني بأخرى ؟؟ ...... )
صمتت ملك قليلا ... ثم أطرقت بوجهها لتقول بهدوء
( وعد ....... على الرغم من أن ذاكرتي لا تسعفني بالكثير مما حدث بعد رحيلك من الدار ... الا أنني أعرف شيئا واحد .... وهو أنني عانيت كثيرا , و تطلب الأمر مني فترة طويلة موجعة كي أتعافى من ذلك اليوم ..... أنا لا أريد أن أعيش تلك الحالة مجددا ...... أفضل البقاء على مسافة من كل من أعرفهم ...
مسافة جميلة راقية .... تجذبنا فيها الأحلام و المشاعر اللطيفة دون التعمق ثم الجرح مجددا ....
لقد بنيت حياتي بصعوبة .... و لا أريد أن أتألم من جديد ....
لذا صدقيني أنا ما كنت لأتطفل على حياتك أبدا ..... )
تأوهت وعد بشدة و هي ترفع يدها الى عينيها .... لتستدير بعيدا عن ملك ....
ظلت واقفة قليلا .... تتألم بداخلها بشدة ....
كيف تجعلها تفهم ؟!! ...... كيف تتمكن من جعلها تفهم و هي نفسها لا تفهم ؟!! ...
عادت لتلتفت الى ملك بعد عدة لحظات .... ثم اقتربت منها لتمسك بكفيها بين يديها و تقول ناظرة الي عينيها بقوة
( ملك ....... حين كنت أبحث عنكِ لسنواتٍ طويلة , لم أفكر أبعد من أن أراكِ .... أعثر عليكِ و أحتضنك .... و بعد أن وجدتك ... توقفت أمام نفسي و أنا أفكر بالصورة التي سترينني بها ... و هل كانت تماثل خيالك عني ؟؟ .... حينها صدمني الجواب ....
للحظة شعرت بالخزي من وضعي و من وظيفتي و من حالي في بيتي .... كنت أمر بمرحلة صعبة جدا بحياتي و لم أرغب أبدا في أن ترين الأسوأ منها .... )
همست ملك ما أن وقفت وعد عن الكلام بحزن
( و ما هو الأسوأ ؟!! ........... )
لم ترد وعد على الفور بل تنهدت بتعب ..... فتابعت ملك
( أنت ستتزوجين من رجلٍ رائع كما يبدو .... وهو حلم كل فتاة , فمما أنتِ محرجة ؟؟ ..... )
أخفضت وعد رأسها و بهتت ملامحها قليلا ....
و ظلت ملك تنظر اليها طويلا ... ثم قالت أخيرا و هي تشدد من قبضتيها بين يدي وعد
( سأحضر الزفاف ......... )
رفعت وعد وجهها الى ملك و همست بأمل
( حقا يا ملك ؟!! ....... )
ابتسمت ملك و هي تقول ببساطة
( طبعا ..... و من لكِ غيري ؟!! .... )
ارتعشت شفتي وعد .... و نظرت اليها بشرود و هي تهمس بداخلها
" لو ترينها الآن يا صفا .... و كم أصبحت جميلة و رقتها تسبي من ينظر اليها "
هزت وعد رأسها نفيا و هي تهمس باختناق
( لا أحد ..... ليس لي أحد سواكِ .... )
ثم ضمتها مرة أخرى بقوة الى قلبها ... و تركت لعينيها حرية الاظهار الدموع .....
.................................................. .................................................. ......................
كانت تسير متثاقلة عائدة من عملها .... تحمل بكلتا يديها كيسين ثقيلين من مشتروات البيت ....
شرودها أصبح عادة تلازمها مؤخرا ....
لكنه ليس شرود في الواقع , بل هو ضياع في تلك الهوة و الكابوس الذي أظلم حياتها السعيدة فجأة ...
لكن هل كانت حياتها سعيدة بالفعل ؟!! ....
الآن و بعد أن عاشت الكابوس .... تدرك أنها كانت سعيدة رغم كل الصعاب و اختلاف الطباع ...
كم تتمنى لو استيقظت من هذا الكابوس ... لتجد أن محمد عاد زوجها وحدها و حبيبها دون شريك ... و دون غدر مزق قلبها .....
كم تتمنى ان يكون كل ما حدث هو مجرد كابوس .... و حينها ستعمل على إصلاح حياتها بكل قوتها ....
انتفضت كرمة فجأة أثناء شرودها على يدٍ قوية تقبض على كفها لتنتزع الكيس الثقيل منها ...
فشهقت عاليا بخوف .... الا أنها لم تلبث أن أغلقت عينيها تتنفس بصعوبة ما أن أبصرت محمد و قد حمل عنها الكيس الثقيل ... ليأخذ الآخر كذلك ...
فتحت عينيها بصمت و هي تضع يدها على صدرها اللاهث ...
فقال محمد بخفوت
( لماذا كل هذا الخوف ؟!! ....... )
سارت كرمة ببطىء وهو يسير بجوارها ... ثم قالت بخفوت
( ظننتك متحرش ......... )
تصلبت ملامح محمد رغم ابتسامته الساخرة وهو يقول
( من في هذا الحي يجرؤ على التحرش بزوجتي !! ...... الكل هنا يعلم من هي زوجة محمد )
رفعت كرمة وجهها الى محمد لتهمس بلا روح
( حقا يا محمد ..... من هي زوجة محمد ؟!! ..... أنا نفسي لم أعد أعرف ... )
أظلمت عينا محمد و اهتزت عضلة في فكه الخشن الغير حليق .... لكنه لم يرد عليها لأنه لم يجد الجواب ... فاكتفى بأن نظر أمامه و سار بجانبها ببطء ...
و حين شعرت أن الطريق الطويل لا ينتهي .. قالت بخفوت
( الا عمل لديك ؟!! ......... )
رد محمد بخفوت دون أن ينظر اليها
( خرجت ساعة كي أراكِ ...... قلبي حدثني أنكِ تحملين شيئا ثقيلا و قد كنت محقا ... )
لم ترد كرمة ... فنظر اليها محمد بطرفِ عينيه ثم قال بخفوت
( لقد كانت مزحة ........ ألن تضحكي ؟؟ ... )
رفعت وجهها اليه بصمت ... ثم قالت بوجوم
( لم تكن مضحكة ........ )
فعقد حاجبيه وهو ينظر لعينيها ..... ثم ابتسم ... و اقسم بداخله أنها لو ابتسمت الآن فستكون قد سامحته ...
و لم يترك عينيها بتحدي ... الى أن ابتسمت بالفعل ... شبه ابتسامة حزينة ظهرت على شفتيها ....
فانتفض قلبه بصدره .... و همس بنشوة النصر
" أنتِ جزء مني يا كرمة .... مهما أخذك الغضب فأنتِ تظلين جزءا مني "
عادت كرمة لتخفض وجهها و تسير بصمت الى أن وصلا الي بيتهما ... فمدت يدها تخرج المفتاح من حقيبتها ثم فتحت الباب ... و التفتت اليه تمد يدها لتأخذ الأكياس من عند الباب ...
لكنه رفض أن يتركهم لها ...... و أبعد يديه ليقول بخشونة
( ألن تسمحي لي بالدخول ؟؟ ........ )
رفعت وجهها اليه بصمت ثم قالت بفتور
( انه بيتك كما ذكرتني سابقا ....... هل نسيت ؟؟ ... )
لكنه ظل واقفا ينظر اليها ثم قال
( لكني أريدك أن تدخليني .......... )
تنهدت بصمت و هي تنظر بعيدا .... لكنها ابتعدت عن الباب كي يدخل .. فتبعها صامتا
و ما أن أغلق الباب بقدمه .... حتى أسقط الأكياس أرضا ... وووقف مكانه ليقول فجأة و دون مقدمات
( أفعل أي شيء يا كرمة كي أستعيدك .... أستعيد كرمة طفلتي و حبيبتي التي لا تتعب مني و لا تكل ... التي تمتص تعبي و غضبي وترويني من روحها العذبة .... )
كتفت كرمة ذراعيها و استدارت اليه بينما أغروقت عيناها بدموعٍ حبيسة لم تسمح لها بالتساقط ....
ثم قالت بخفوت ميت
( و أنا أفعل أي شيء كي أستعيد حياتي قبل هذا الكابوس يا محمد ..... )
رفعت وجهها اليه .... و ابتسمت من بين دموعها بيأس و هي تهز كتفيها تهمس باختناق
( لكن قل لي كيف ؟؟!! ..... كيف ؟؟ ...... كيف يا محمد ؟؟ .... )
أخفضت وجهها تغطيه بكفيها و هي تهتف باكية بالسؤال الأبدي المفقود الجواب
( لماذا فعلت ذلك بنا يا محمد ؟؟ ..... بماذا قصرت في حقك ؟ ...... )
أخذت تبكي بخفوت و هو ينظر اليها ملتاعا ... ثم لم تلبث أن رفعت وجهها المحمر و المغرق بدموعها و هي تهتف بعذاب
( حتى لو قصرت .... حتى لو قصرت .... من منا كامل يا محمد ؟!! .... قومني و أخبرني مرة و اثنين و ثلاث .... لكن تحملني ...... لأن هذا هو الزواج ... أن نتحمل بعضنا البعض , كلا بشخصيته ... بحياته ... بطباعه .... لا أن تغدر بي مع أول بادرة ضعف ..... )
لم يستطع الرد وهو ينظر الي انهيارها الذي اصبح لا يراها الا مرافقا لها ....
هدأت نفسها قليلا... و اخذت نفسا مختنقا متحشرجا و هي تعض على شفتيها ببأس ... ثم نظرت اليه لتقول بصلابة
( لو كنت ....... لو كنت تريد طفلا من صلبك ,لكنت أعطيتك العذر , من كل قلبي المحب لك ....
لكن أنا و أنت نعلم أنه ليس السبب ....
كنت عائلتي الوحيدة يا محمد , و كنت أقدم تنازلا أعلم أنني تعودت عليه لدرجة أن تخيل طفل بجوارك يشعرني بالغيرة من أن ينال اهتمامك اكثر مني ....
و كنت سعيدة بالتنازل .... كنت سعيدة بالتضحية بأمومتي على الرغم من احتراق رحمي طلبا لها .... و أنا أظن أنني أهديك شيئا نفيسا يربطني بك اكثر و أكثر ....
لكنك أهديت هديتي لأخرى ....... منحت هديتي النفسية لاخرى يا محمد كي تشاركني التضحية ..... )
لم تتوقع أن يصرخ محمد فجأة بهياج وهو يستدير ليضرب زهرية ورود من الخزف و يسقطها أرضا لتتحطم في شظايا ....
( كفى ....... كفى ...... )
انتفضت كرمة و هي تبتعد الى الحائط ترفع كفيها الى وجهها رعب ....
لكنه اقترب منها بسرعة ليمسك بذراعيها بقوةٍ جعلتها تبعد كفيها عن وجهها و تشهق ألما ... بينما هو يهتف بجنون
( كفى يا كرمة .... الا تعلمين كم يقتلني هذا الموضوع ؟!! .... يحرقني حيا ... و أنتِ تنبشين الجرح بأظافرك .... )
صرخت كرمة منفعلة
( لم أتطرق الى الأمر ولو لمرة واحدة بعد أن خيرتني منذ سنوات و أمرتك حينها أن تصمت .... أتتذكر يا محمد ؟!! ... لم أعيد فتح الموضوع ولو لمرة واحدة .... )
هزها بشدة ليهتف بعذاب
( ليس الكلام هو كل السلاح يا كرمة ..... ليس الكلام .... تضحيتك كانت تظهر جلية مع كل تصرفاتك , مع تقدمك في درجات حياتك دون رغبة مني .... فقط بعينيكِ تتسائلين إن كنت أتجرأ على الوقوف بطريق أحلامك بعد تضحيتك لي .....
لم تكن لي الرغبة في عملك ... مثلي مثل أي زوج عادي ... طبيعي ... لا يرغب بعمل زوجته ...
لكنك بتضحيتك و عينيك ... فقط عينيكِ .... جعلتِ منها جريمة لا تغتفر .... و استمريتِ في التسابق أسرع و أسرع .... دون توقف ... و الهوة تتسع أكثر و أكثر .... )
كانت تهز رأسها نفيا و هي تبكي بصمت و تلهث بصعوبة .... و ما أن تمكنت من النطق حتى هتفت باختناق باكٍ و هي تغمض عينيها
( أنت ظالم ..... أنت ظالم يا محمد ..... لقد كان التفوق حلمي منذ طفولتي ... الإنجاب أو التضحية لم يكن لهما دخلا في الأمر ..... كنت أريدك أن تساندني كما ساندتك دائما .... فقط تساندني .... لكن أنت أيضا اعتربت تنازلك تضحية مقيتة ...... )
أسقطت وجهها و هي تبكي بعنف .... بينما هو ينظر اليها معذب الروح مفطور القلب ....
ثم اسقط كفيه عن ذراعيها هو الآخر ..... ووقف أمامها طويلا قبل أن يضم وجهها بكفيه يرفعه اليه و يطبع شفتيه على جبهتها و شعرها بقوة....ليغمض عينيه مع قبلةٍ أودعها كل يأسه و عذابه ... و حبه لها .....
ثم تركها ليخرج ...... و ما أن هدأت قليلا حتى رفعت وجهها تنظر الي البيت الخالي ... ثم نادت بلوعة
( محمد ...... محمد ...... لا تتركني الآن .... أرجوك ... )
.................................................. .................................................. ....................
استيقظت وعد صباحا في اليوم التالي ... تتمدد بنعومةٍ في سرير سيف ...
تنظر الي سقف الغرفة الأنيق بعينين متسعتين .... ثم لم تلبث أن همست بذهول
( اليوم يوم زفافي !!!! ...... )
فردت ذراعيها و ساقيها بذهول على امتداد السرير الواسع ... و كانت متأكدة من عدم وجود سيف قبل أن تفعل ...
فهو على ما يبدو قد قرر أن ينبذ نفسه من سريره و هي متواجدة ... لدرجة أنها أصبحت تتحمم كل ليلة حتى أوشكت على الإنكماش ... متشككة من أن تكون رائحتها هي السبب في ابتعاده ...
طالت يدها المفرودة ورقة صغيرة مطوية على الوسادة ...
فاستقامت بسرعة تفتحها ... لتقرأ رسالة سيف المختصرة
" اليوم أنتِ معفية من التدريب و لمدة شهر كامل .... و سيتم اعادته لكِ خصيصا ....
دللي نفسك اليوم .... ألم أخبرك من قبل ؟!!! ... اليوم يوم زفافنا !! ....
فستانك وصل و معلق بالدولاب .... و في الخامسة ستصلك خبيرة التجميل و تلك الأمور النسائية الغبية ....
أراكِ في الثامنة .. الى لقاء قريب بعد طول انتظار يا حرمنا المصون "
عضت على شفتيها بجنون و هي تبتسم ووجهها يحمر بشدة من كلماته السخيفة ....
لقد أصبحت ذات مخيلة شديدة الإنحراف لدرجة أن بضعة كلمات بسيطة كتلك تشعل أفكارها و تخيلاتها ....
رفعت كفها تغطي بها وجنتها المشتعلة و هي تبتسم ... ثم لم تلبث أن قفزت من السرير ... لتجري الى دولابه تفتحه ... و كاد بريق الماسات ان يخطف عينيها ...
متى احضره ؟!!
من المؤكد ليلة أمس بعد عودته متأخرا .....
تنهدت وعد بيأس لكنها ابتسمت للفستان قائلة بخفوت
( أهلا وسهلا ..... يبدو أنك ستكون رفيقي الليلة .... رغم أن ثمنك كان كفيلا بأن يشتري لي ماكينة خياطة حديثة ..... لكن يبدو أن مثل لا تعطني سمكة انما علمني الصيد بات مفهوما باليا في عهدنا هذا .... لذا أنا مجبرة على التقيد بالنفاق الإجتماعي و مجاراة المظاهر الزائفة .... لأنني ببساطة ...
سأتزوج من رجلٍ ثري ...... )
ظلت تنظر الى الفستان بخبث قليلا ... ثم استدارت جريا الى هاتفها .... تخرجه و تنظر اليه ....
لعل و عسى ....
لكن الوجوم رسم محياها ما أن وجدته خاليا باردا من المكالمة التي كانت تنتظرها ....
لذا سحبت ملابسها ببطء من الدولاب ... و سارت بتثاقل الى الحمام ....
بعد ساعة ... و بعد ان شعرت بأن التوتر و القلق و الترقب يحرقان أعصابها .... قررت النزول الى سكان هذا الكهف ....
نزلت وعد ببطء وتوجس على السلالم ...
ما أن تسمع صوتا حتى تستدير بسرعة خوفا من أن تكون المجنونة ورد خلفها و تدفعها من فوق درجات السلم ...
لكنها قابلت اللهو الخفي .... مهرة ...
كانت نازلة جريا من خلفها لدرجة أن وعد خافت و تمسكت بحاجز السلم ....
تباطئت سرعة مهرة ما أن رأت وعد على السلم ... و تجاوزتها ببطء و هي تنظر اليها بطرفِ عينيها ...
في الأيام السابقة أدركت وعد أن مهرة هي العضو المنفصل في ملكوت هذا البيت ...
لا تحيا سوى لنفسها .... و تقريبا كانت تتجنبها بصمت ...
لكن وعد هي من بادرتها تقول
( صباح الخير يا مهرة ......... )
توقفت مهرة قليلا ... تتلاعب بقدمها على درجةٍ نزولا .... تنظر بعيدا , لكن رغما عنها كانت تختلس النظر الي وعد .... فتابعت وعد بأمل
( لم يسبق لنا التحادث من قبل ..... سوى مرة ... اتتذكرين ليلة قراءة الفاتحة لكِ ؟؟ .... )
لم ترد مهرة بل نظرت بعيدا .... لكنها كانت واقفة مكانها ... لم تهبط السلم مما شجع وعد لتقول بسذاجة
( اليوم زفافي .... أنا و سيف ...... )
عضت شفتها و هي تقول لنفسها بغباء " ماهذا الغباء !! "
لكنها تداركت نفسها و قالت مبتسمة بمرح متوتر
( ماذا سترتدين ؟؟ ....... اسمعي ... لو أخبرتني فسأتنازل و أريكِ ثوب زفافي .... )
رأت وعد أصابع مهرة و هي تنقبض على حاجز السلم ... و هي تنظر في كل اتجاه الا عندها ....
لكنها كانت لا تزال واقفة .... لذا ابتسمت وعد و هي تهمس بأمل في أن تجد من يناصرها في هذا الكهف ...
( انه زفاف سيف ...... و أنتِ مدللته الوحيدة بجدارة , الا يتملكك الفضول لرؤية الفستان ؟؟ ..... )
لكنها التفتت الى وعد مبددة آمالها و هي تقول بخفوت
( أنتِ هنا رغما عنا ..... و أنا لن أسمح لنفسي بالتعامل مع من تتسبب في بكاء أمي كل ليلة ... )
رفعت وجهها الى لتقول
( نحن سنذهب الى حفل الزفاف .... كي لا نترك سيف بمفرده , لكني لا استطيع التعامل معك )
شعرت وعد بشيء يطعن صدرها ... لكنها أومأت برأسها متفهمة ... فظلت مهرة واقفة بتردد للحظة , ثم لم تلبث ان نزلت بسرعة ..... و بقت وعد مكانها تنظر بوجوم ...
لكنها نزلت بعد فترةٍ بملامح متجمدة .....
تمشي على غير هدى .... الى أن أبصرت مهرة تحتضن أمها من بعيد في المطبخ و هي تهمس لها بشيء تخفف عنها ,, و بالفعل ضحكت منيرة رغما عنها و هي تربت على شعرها ...
وقفت وعد من بعيد مستندة بيدها الى جدار الرواق .... تنظر بصمت الى ملامح منيرة الجميلة ....
كانت أجمل أم رأتها .... إنها حتى أجمل من صفا ....
سمعتها وعد تقول بحب
( ليلة زفافك يا مهرة تختلف ..... سأبكي أيضا , لكن من شدة فرحي , .... أعتقد أن لا أم ستكون أكثر مني سعادة و فخرا ..... و أنا أراكِ بجوار عريسك في ثوبك الأبيض .... )
حينها تعلقت مهرة بعنقها و هي تهمس لها بشيء ... بينما منيرة تغمض عينيها و هي تتلقفها بقوة في أحضانها .... انتظرت وعد مكانها دون حركة الى أن غادرت مهرة و شاهدتها تخرج بسرعة و هي تخبر أمها أنها ستذهب لمركز التجميل من الآن كي تستعد .....
و ما أن سمعت وعد صوت الباب يغلق ... حتى خرجت من مخبئها و اتجهت الى منيرة بصمت .... الى أن وقفت أمامها ....
نظرت منيرة الى وعد بصمت .... ثم لم تلبث أن استدارت بعيدا عنها و هي تعد فنجان قهوتها ...
و حين ظنت وعد أنها ستتجاهلها تماما ....قالت بجمود دون ان تستدير اليها
( هل جهزتِ نفسك ؟؟ ......... )
رفعت وعد وجهها الى ظهر منيرة بدهشة ... لكنها قالت بتوتر بعد فترة
( ليس هناك الكثير لأقوم به ...... انا فقط انتظر موعد الزفاف .... )
لم ترد منيرة عليها .... و بعد فترة قالت بخفوت
( هل ستسافران الى مكان ؟؟ .......... )
اتسعت عينا وعد ... لكنها ردت
( الحقيقة لا علم لي ...... لكن لا أظن ........ )
أومأت منيرة برأسها دون أن تستدير اليها .... فقالت وعد بتردد
( سيدة منيرة ....... أنا حقا آسفة ..... انا لا أريد أن أؤلمك أكثر ...... لكن أعدك أنني ......)
قاطعها صوت ورد يقول بهدوء من خلفها
( أنكِ ستظلين خادمة هنا ....... لا أكثر )
التفتت وعد الى ورد الواقفة تنظر اليها .... ثم تابعت ببرود
( خذي القهوة من أمي و حضريها لها ........ )
تدخلت منيرة تقول بقوة
( كفى يا ورد .......... )
الا أن ورد قالت ببرود جليدي ....
( بل ستحضره لكِ يا أمي ...... انها مجرد خادمة , و سيف حين أحضرها الى هنا كانت خادمة , و سيتزوجها لتكون ابنة عبد الحميد العمري خادمة .... )
رفعت وعد وجهها و هي تنظر الى ورد بقسوة ..... لكن ورد اقتربت منها , فتحفزت وعد تلقائيا ... الا ان ورد ضحكت بخفة و هي تقول
( لا تقلقي .... لن أتشابك معك بالأيدي , لا نريد أن تظهر عروس سيف الهزيلة بكدماتٍ في وجهها .... )
صمتت قليلا و هي تقترب أكثر ثم قالت بخفوت كالصقيع في الليل
( هل حقا تظنين أن سيف يعطيكِ قيمة ما ؟!! ..... ستكونين واهمة و غبية ... و أنا لا أظنك غبية أبدا ... لذا أفيقي يا ابنة عبد الحميد .... حاولي كسب رضانا و لا تتحديني .... أنتِ هنا لستِ أكثر من خادمة .... لكن لو عملتِ على توثيق مكانتك هنا من البداية فأنتِ من ستخسرين ..... ستظل أم سيف هي صاحبة البيت و أنتِ مجرد نزوة تجمع ما بين التسلية و الإنتقام من والدك .... )
توقفت عن الكلام ... ثم تابعت تبتسم بقسوة
( حضري قهوة أمي ....... كي لا نغضب سيف في ليلة زفافه منكِ و لا نعلم حينها كيف سيكون تصرفه )
هتفت منيرة بغضب
( كفى يا ورد ...... أنا لم أعد أتحمل هذا الجو في البيت , صدري أصبح منقبضا و قلبي على وشكِ الإستسلام للراحة أخيرا من كل ما أعيشه .... )
نظرت وعد الى منيرة بينما حلقها مسدود بألم .... و ملامحها جامدة كتمثال حجري ...
لكنها اقتربت تأخذ منها اناء القهوة ...فقالت منيرة بصرامة
( لا ...... اذهبي و الزمي غرفتك رجاءا , لا نريد مشاكل الليلة )
الا أن وعد قالت بصلابة لكن بتهذيب مبالغ فيه
( أنا مصرة ...... أنا لا أريد اغضاب سيف ..... لقد أخبرني من قبل أنك خط أحمر لديه )
صمتت منيرة و ارتخت أصابعها عن الإناء .... فأمسكت وعد به تعد القهوة و هي تتنفس بسرعة دون أن تستدير اليهما .... بينما وقفت ورد تنظر اليها بانتصار ....
و ما أن انتهت حتى صبت القهوة بهدوء في فنجان منيرة ... ثم قربته منه و هي تهمس باختناق
( تفضلي ......... )
و ما لبثت أن خرجت جريا من المطبخ و هي تشعر بنفسها يضيق ..... لكنها جرت وجرت على السلم صعودا .....
لتفتح الدولاب بقوة و تنتزع منه ثوب الزفاف في غطائه البلاستيك الشفاف ....
و ثنته على ذراعها .... بينما جهزت حقيبتها و هاتفها و نزلت مندفعة مجددا ... لتخرج من البيت بعنفوان ووقفت على أول الطريق و الفستان على ذراعها .. لتشير لأول سيارة أجرة ...
و ما أن رمت نفسها بداخلها ....حتى رفعت هاتفها تطلب رقم سيف ...
سمعت صوته العميق يأتيها بعاطفة مكبوتة ... الا أن تلك العاطفة لم تؤثر بها حاليا و هي تقول بقوة
( سيف ..... لقد أخذت الفستان و ذهبت الى بيتي ..... سأخرج معك من بيت والدي , إما هذا و إما لن أتتم الزواج ...... )
ثم أغلقت هاتفها بقوة ..... و ما أن اندفع الرنين الغاضب و المجنون ... حتى أغلقت الهتف نهائيا كي تريح نفسها ....
و جلست تنظر من النافذة بقسوة ..... الى البشر بمختلف اشكالهم ... الى الطرق و البيوت .....
الي حياتها الماضية و الآتية .....
.................................................. .................................................. ..................
وصلت وعد الي بيتها اخيرا ..... لتلقي فستانها بلا اهتمام لا يناسب قيمته الثمينة ....
ثم رمت نفسها كذلك على الأريكة .... تنظر الي سقف بيتها المشقق ...
و شتان ما بين سقفه و سقفها ...
حالتها صباحا و حالتها الآن .....
همست أخيرا بشفتين ترتجفان
( تعالي اليوم يا صفا بمعجزةٍ ما ..... تعالي و اسمعيهم من لسانك السليط , .... تعالي و اظهري لهم الحماة التي اتخيلها ..... ام العروس شديدة البأس ... تعالي و الجمي ألسنتهم جميعا ..... )
اخرجت هاتفها و فتحته تنظر الي الشاشة .... لكنها خلت من الرقم المنتظر ....
لم تتخيل يوما أنها ستتمنى رؤية أمها بكل هذا الشوق المثير للشفقة .... ربما لأنها أدركت أن الحياة قصيرة للغاية ... و ربما لأنها فعلا تحتاجها كي تدافع عنها ....
نظرت الى الهاتف بصمت ... سيف لم يتصل بها .... ترى هل أثارت جنونه بكل غباء ؟!! .......
.................................................. .................................................. .....................
وقفت كرمة أمام نفس الباب الكئيب و الذي حوي خلفه كل آلامها و جراح الخيانة .....
و تسائلت ... هل حقا الحجة التي أتت بها كافية ؟!! .... أم أن خروجه من البيت بالأمس كان موجعا لها بدرجةٍ لم تعد تتحملها ....
طرقت الباب بهدوء .... و بعد فترة فتح الباب لتجد نفسها وجها لوجه مع غريمتها ....
انتفضت علياء و نظرت بخوف الى كرمة التي كانت بدورها تنظر اليها بجفاء و كأنها لم تحفظ ملامحها بعد ....
استطاعت كرمة تبين رعبها بوضوح .... خاصة بعد رجائها الأخير ....
لكن كرمة أبت أن تريحها و هي تقول بصوتٍ خافت ميت ....
( هل محمد موجود ؟؟ .......... )
ابتلعت علياء ريقها .... لكنها أومأت برأسها بتردد و هي ترفع شالها فوق رأسها ذو الشعر الناعم ...
شعرها أسود ناعم الحرير المنسدل .... شديد النعومة لدرجة أن شعيراته تتطاير من فرط نعومنتها ...
انعقد حاجبي كرمة بألم و هي ترعى بصدرها نارا تحرقه من تخيل أصابع محمد تمر على ذلك الشعر الحريري ....
الا أنها قالت بصوتٍ مهتز خائف
( تفضلي ........... )
رفعت كرمة ذقنها و هي تقول ببرود
( سأكلمه من هنا .......... )
ظلت علياء تنظر اليها برجاء صامت ... ثم لم تلبث أن نادت عليه و هي تبتعد عن الباب ...
لم تمر لحظات حتى ظهر محمد بسرعة وهو ينظر اليها بقلق .... ثم قال
( كرمة !! ..... ماذا بكِ ؟!! ..... هل حدث شيء ؟!! ... )
أخذت كرمة نفسا مرتجفا كي تقوي نفسها . ثم قالت بفتور
( الليلة ..ليلة زفاف وعد , و قد أتيت كي أخبرك أنني سأذهب اليها الآن , كي تعرف أنني سأتأخر بالخارج ..... بما أنك .... بما أنك لست في البيت ... و لن تعرف )
عبس محمد بشدة وهو يتأملها .... لكنه قال بخفوت
( لم تخبريني من قبل ......... )
قالت كرمة بهدوء و هي تنظر الي عينيه بألم
( لم أكن بحالة تسمح لي بطلب الإذن قبل اليوم ..... اعذرني )
أخفض محمد وجهه قليلا ... لكنه قال بتردد
( و ستذهبين بدون زوجك ؟!! ...... )
رفعت كرمة وجهها تنظر اليه بوجهٍ ميت .... ثم لم تلبث أن قالت
( لن أستطيع يا محمد .... ليس زفاف وعد , لم أعد أستطيع رؤيتك دون أن أبكي .... و أنا لا أيد البكاء الليلة .... أرجوك حاول فقط أن تشعر بي ولو قليلا .... )
نظر اليها محمد بعتاب ثم قال بخفوت
( أنا لا أشعر بكِ يا كرمة ؟!! .......... )
أخذت نفسا آخر مرتجفا .... لكنها قالت
( ليس الآن يا محمد ..... ليس الآن ...... )
قال محمد بعد فترة
( سآتي لأصطحبك بعد الزفاف ........ )
قالت كرمة بتشنج
( لا داعي رجاءا ..... المكان راقي و آمن تماما , سأعود وحدي )
الا أن محمد قال بخشونة
( لن أتركك تعودين وحدك ليلا ....... و هذا أمر ...هاتي العنوان )
تنهدت بقسوة , الا أن صدرها كان ينبض بوجع .... ثم لم تلبث أن أخبرته بالعنوان , ثم انصرفت بسرعة كي تبكي وحدها .... في بيتها الخالي ....
.................................................. .................................................. ......................
جلست وعد أمام المرآة .... ترتدي فستانها المذهل ...
بينما كانت كرمة واقفة بجوارها ممسكة بخصلة من شعرها تصففها لها بالمجفف ... ثم قالت بغضب
( أنا حقا لا أفهمك ...... فستان كفستانك , و قاعة كقاعة زفافك .... و سيف احضر لكِ فريق تجميل مختص ... ثم تتركين كل ذلك و تجلسين هنا في بيتك البائس و أنا البائسة الأخرى أعمل بجنون كي أتمكن من إظهارك بشكلٍ يليق بفستانك الخرافي هذا !! ..... أنتِ حقا معقدة و يجب أن تتعالجي )
بينما كانت ملك في الخلف تضع باقة ورود الجوري البيضاء و الزهرية في اناء ماء و التي جهزتها بنفسها و بمنتهى الروعة لتكون باقة العروس ...
فهتفت كرمة بصرامة
( ملك ...... تعالي و امسكي خصلة أخرى من شعرها و افرديها بالمجفف الآخر الذي استعرناه )
أتت ملك لتنفذ الامر بمنتهى الطاعة ....
بينما بقت وعد مكانها تنظر الي المرآة بعينين متسعتين و خصلتين من شعرها مرفوعتين لليمين و اليسار و كأنها موصلة بأسلاك كهربية منها للفضاء الخارجي مباشرة ....
قالت وعد أخيرا برعب
( لقد غيرت رأيي ..... أنا لن أتزوج ...... )
توقفت كلا من كرمة و ملك عن العمل وهما تنظران اليها بذهول .... حتى أصبحت اللوحة كاملة من ثلاث فتيات موصلات بأسلاكٍ كهربية يتم صعقهن ....
و كانت كرمة أول من تداركت نفسها كعادتها و هي تقول مستفسرة قبل أن تتهور
( ماذا ياروح والدتك الغالية ؟!!! ........ )
قالت وعد بصوت أكثر تشنجا
( أنا لن أتزوج ..... لقد تهورت و رميت نفسي للأسود , لكني لازلت على البر .... و لن أتزوج )
انتفضت تحاول النهوض الا أن كلا من كرمة و ملك شددتا على خصلتيها بقوة كي لا تهرب فصرخت ألما ...
ثم أجلستها كرمة مكانها بالقوة و هي تنحني اليها و تقول بصرامة مخيفة
( الآن اسمعيني جيدا .... منذ شهور و أنت تتحامقين و تتغابين كيفما شئتِ .... تخطئين في حق ذاك .. و تجرحين ذلك و سامحناكِ .... لكن تريدين أن تفتعلي فضيحة الآن في ليلة زفافك لتشوهي سمعتك للأبد ... خاصة بعد ... أحم .... الفترة التي قضيتها في بيت زوجك .... لا والله لن أسمح لكِ .... أنا صلا معذبة بالسليقة و أكاد أتمنى من أجده متوفرا أمامي الآن لأنهش لحم وجهه بأظافري .... فلا تكوني أنتِ الضحية رجاءا ..... )
كانت وعد ترتجف على نحوٍ ملحوظ حتى ازرقت شفتاها بشدة ... و هي تنظر الى نفسها في المرآة بعينين متسعتين ... ثم همست
( ماهذا اللذي أفعله بنفسي يا كرمة ؟!! ...... كيف تحولت الي تلك المخلوقة الضعيفة !! ... و لماذا ؟!! ... )
ظلت كرمة تنظر اليها طويلا ... ثم لم تلبث أن قالت بخفوت
( ملك ..... اخرجي قليلا حبيبتي , أختك تحتاج فقط لإعادة تحميل برامج عقلها التالف ... )
ظلت ملك تنظر اليهما برعب و هي متشبثة بخصلة وعد كي لا تهرب منهما .... الا ان كرمة مدت يدها و قامت بتفكيك اصابعها بهدوء من على الخصلة ... ثم همست مبتسمة
( اذهبي الآن يا ملك و لا تخافي ..... )
خرجت ملك من الغرفة و أغلقت الباب خلفها ....فنظرت كرمة الى وعد , ثم جذبتها لتقف ... و أمسكت بكتفيها و هي تنظر الي صورتها في المرآة
ثم قالت بهدوء
( هل تحبينه ؟؟ ......... )
نظرت وعد الى صورتها في المرآة .... ثم همست بعصبية
( انه رائع .... طيب , حنون .... منحني اكثر مما احتجته ... و سيعطيني أكثر ... يشعرني بأنوثتي التي ظننت أنها تجمدت مع شدة التعب .... انه يؤثر بي و بشدة )
عادت كرمة لتسألها بهدوء
( هل تحبينه ؟؟ .......... )
وجمت وعت تماما و بهتت ملامحها لتقول فجأة
( أنا لا أعلم ما هو الحب ....... لم أجربه سابقا , كنت أظنه نوع من الرفاهية )
صمتت قليلا ... ثم همست بضياع
( لكني لا أحب نفسي و أنا معه .... بعد أن ينضب سيل المشاعر التي يغرقني بها )
ظلت كرمة تنظر الي وجه وعد الباهت .... ثم همست
( هل يمكنك التضحية به يوما ؟؟ ......... )
نظرت وعد الى عيني كرمة في المرآة بصدمة ..... و لم تدرك أنها تومىء بوجهها بحركة تكاد لا تكون مرئية ابدا .... لكن كرمة رأتها .... و تجاهلتها عن قصد ...
فقالت بجدية
( اسمعي يا وعد .... ليس حقيقي أنكِ لستِ على البر ... لأنه لم يتم علاقته الزوجية بكِ بعد و هذا واضح وضوح الشمس من غباء ملامحك .... لكنك وضعتِ نفسك في موقف لا تحسدين عليه ... و لا يمكنك التراجع الآن ... و الا لن يرحمك هو و لن ترحمك ألسنة الناس .... لذا تابعي زفافك و اتمي زواجك ... استمتعي بما يشعرك به ... و بكل ما يقدمه لكِ .... لكن ان اكتشفتِ يوم أنكِ بالفعل تخسرين , فانسحبي بهدوء و هو لن يستطيع ان يمنعك مهما حاول ... الطلاق ....ليس ... مستحيلا دائما و احيانا يكون افضل من مصائب اكبر )
نظرت وعد الى عيني كرمة تستمد منها قوتها .... ثم لم تلبث ان قالت بقوة
( ساعديني في خلع الفستان يا كرمة ........... )
.................................................. .................................................. ......................
وقف سيف في مدخل البيت الذي شهد أسوأ يوم بحياته ...
لم يستطع الصعود , كان يعلم أنه من الغضب ما قد يتسبب له في كارثة سيندم عليها فيما بعد ...
لكن مكالمة امه كانت العامل الوحيد الذي عمل على تهدئته قليلا ... و لكن ليس كليا ....
أن يأخذ وعد من هذا البيت تحديدا معززة مكرمة بفستانه الذي اشتراه بنقوده ... كان ذلك فوق احتماله ...
أما طريقة مخاطبتها له في الهاتف و أغلاقها الخط كان أمرا آخر ....
لم تكن من الحكمة كي تستفزه الليلة تحديدا ... خاصة وهو يحاول جاهدا السيطرة على قوة و عنف مشاعره تجاهها و التي لن تتحملها لو ترك لنفسه القيد ....
تنهد بقوة و غضب وهو واقف مستندا الي سيارته السوداء .... و المزينة بالورود الحمراء و البيضاء و شرائط التل بمهارة تليق بسيارة سيف الدين فؤاد رضوان ...
انتبه فجأة حين سمع صوت زغاريد عالية و أطفال تنزل جريا على سلالم البيت ... و نساء لا يعلمهم ينزلن بالزغاريد .... ثم .....
آه ها هي ملك الصغيرة ...
كانت تبدو رائعة بفستان بسيط حريري وردي و قد تركت شعرها الطويل بحرية دون أن تضفره .... فبدا كأمواج و أمواج ذهبية واصلة الى خصرها .....
كانت تبدو كحورية البحر بجدارة .... الا أن سيف لم يكن في شدة تركيزه مع ملك حاليا وهو ينتظر وعد أن تظهر ...
و ها هي ..... آآه لا .... انها كرمة التي تأكل كآخر يوم في عمرها ....
كانت جميلة كذلك في فستان أزرق داكن متسع بانسياب فوق جسدها .... لكنه لم يستطع التركيز معها حاليا ...
و ها هي ..... آآآه لا .... حسنا انه الأستاذ صلاح ينزل السلم بعصاه ... درجة .... درجتين ... ثلاث ...
العمر سينتهي قبل أن ينهي الاستاذ صلاح نزول السلم ....
و ها قد انتهى ....
لتظهر فجأة ... انتفض صدر سيف بعنف وهو يستقبلها بعينيه .... لكنهما لم تلبثا أن اتسعتا بذهول وهو يراها بفستان آخر ... غريب ...
فستان ضيق من الدانتيل بالكامل ..... حتى ركبتيها ... ثم ينسدل بأذيال متسعة من التل الأبيض ..
له أكام طويلة حتى كفيها من الدانتيل ... لكنه لم يخفي كتفيها و ذراعيها تماما ...
كانت نحيلة كعارضات الأزياء فيه ... و شعرها !!!
شعرها كان منسدلا على احدى كتفيها و مموجا !! غير ما اعتاده تماما .... و تعلوه خمار العروس و الذي ما هو الا خمار ملقى على رأسها دون تاج ....
كانت برية للغاية .... و كأن الزفاف سيتم في الغابة ...
لكنها كانت !! .... مذهلة .... مذهلة بكل معنى الكلمة !! ....
وصلت اليه .... و عيناها بعينيه .... و للحظاتٍ طويلة عمهما الصمت وحدهما بعيدا عن صخب من حولهما ....
و حين تحرك سيف ... لم يفعل سوى أن مد ذراعه , فتعلقت به تلقائيا ... و كأنها تطلب منه الأمان ....
انحنى اليها ليهمس بانفعال عاطفي
( أين فستانك ؟؟ ........... )
ردت بشجاعة ...
( قررت أن أهديك الفستان الذي قمت بخياطته بنفسي ....... )
اتسعت عيناه بذهول و عاد لينظر اليها كلها ... حتى احمر وجهها و تمنت لو كانت قد خاطته أوسع قليلا ...
الا أنه أخذ نفسا عميقا ليقول بصدمة
( هيا نغادر قبل أن افاجأ بالمزيد .......... )
لكنها تسمرت في الأرض تهمس بعناد
( ألم يعجبك ؟؟ ........... )
نظر اليها مجددا .... فوقع قلبها بين قدميها .... يا رب لا تجعله يسخر مني أو يجرحني ... يا رب ...
فقال سيف هامسا بانفعال جارف
( انه .............. )
تنهدت وعد بارتياح و ثقة و ابتسمت .... فقد حصلت على شهادة الجودة .... ال "إنه " الخاصة بسيف
فهمست برقة
( هيا بنا ....... أنا مستعدة )
نظر الي عينيها بعمق ... فتألقت عيناها ردا ....
و ما أن جذبها الي السيارة حتى استدارت الى صلاح قبلا ... و هتفت
( أبي يا عم صلاح ....... )
رد عليها بفرح
(اذهبي يا فتاة و لا تخافي ..... )
رفعت وعد وجهها الي سيف الذي نظر لها بعينين تحترقان ... تماما كاحتراق عضلاته المتشنجة
.................................................. .................................................. ...................
حين وقفت وعد امام القاعة بدأت اضواء التصوير تغمرهما.... و ذهلت من عدد المتواجدين
لقد حضرت منيرة ... و حضرت مهرة .... لكن بالتأكيد لم تحضر ورد .....
كان صوت الزفة صاخبا ..... فتشبثت بسيف بتشنج و همست بشيء
فانحنى سيف اليها قائلا ( ماذا ؟!! ...... )
فهمست في اذنه بخوف ( أنا خائفة ..... لم أقابل هذا الجمع من قبل )
رفع يده يربت على كفها المتعلقة بذراعه و همس لأذنها بصوته العميق
( لا تخافي .... أنا بجوارك ... دائما )
فابتسمت له بارتجاف ... و ازدادت تشبثا به و لم يكن هو ليمانع أبدا ......
ساعة واحدة مرت و كانت وعد قد نست خوفها لتندمج بأروع و أجمل حفل زفاف سمعت عنه يوما ...
لم تكن تصدق ان ترقص !! ....
وعد عبد الحميد العمري كانت ترقص بينما كان سيف ينظر اليها غاضبا يأمرها بعينيه أن تتوقف ... لكنها اليوم كانت ملكة .... و كانت الأضواء مسلطة عليها ....
الجميع يتهاتف كي يصورها ....
لم يكن حفل الزفاف يقتصر على المقربين ... لكن تلك المناسبة الاجتماعية كانت اقرب الى واجب يتم فيه احترام و دعوة المعارف من دائرة العمل ....
لكنها الآن شعرت بسعادة لا توصف و هي محط اهتمام الجميع لأول مرة في عمرها ...
حتى أنها سمعت تهامس بعض الناس عن مصمم هذا الفستان الغريب الذي لا يشبه في بساطته فساتين الزفاف التقليدية ....
لم تصدق أنها أنهته ... و ارتدته ... و ان الناس تتسائل عنه ....
طاقة .... طاقة جبارة انبثقت في عروقها جعلتها تتمايل و تتراقص بينما سيف يقف أمامها غاضبا ...
و ما أن صدح صوت موسيقى بطيئة حتى جذبها اليه بقوة .... و كانت المرة الثانية التي يتمايلان فيها بعد موسيقى الزفاف البطيئة الأولى ....
أغمضت وعد عينيها و هي تلهث ملتصقة بصدر سيف ... و الذي كان بدوره يتنفس عطرها ... جمالها ... نعومتها وهو يحتضن جسدها النحيل بين ذراعيه ... و كفيه تضغطان ظهرها و خصرها و كأنه يريد أن يحفرها وشما على صدره .....
احنى سيف رأسه ليهمس في أذنها
( أنتِ لي ....... )
أغمضت عينيها و لم تشعر بأنها تومىء برأسها .... لكنه لم يرضا بذلك فهمس لها بعاطفةٍ جبارة أشعلت شوقها
( قوليها ........ )
رفعت وجهها الى أذنه تهمس باستسلام
( أنا لك ........ )
تنفس بعمق حتى شعرت بصدره يسحقها و كم أشعرها ذلك بالحياة .... و الجنون ....
.................................................. .................................................. .....................
كانت كرمة جالسة على احدى الطاولات ... تنظربحزن الى سيف ووعد وهما يتمايلان في عالم آخر غير العالم الصاخب المحيط بهما .... تتسائل إن كان من الممكن أن ينفصل هاذان الإثنان بالفعل ....
العقل يقول نعم .... و العين تكذبه .....
تنهدت بحزن .... كم كانت بعيدة بأميالٍ عن جو العشق المحيط بهما ... و كم كانت مشتاقة لمحمد في تلك اللحظة بالذات
سمعت فجأة صوت رجولي قوي جذاب يقول بهدوء
( هل تسمح لي سيدتي بمشاركتها الطاولة ؟؟ ..... )
رفعت كرمة وجهها بذهول ... لتجد نفسها تنظر الى .... حاتم ....
و الذي كان يقف أمامها مبتسما بتعبير غامض ... و عينين تبرقان ....
كان وسيما بصفة خاصة عن كل المرات التي رأته فيها سابقا ...بحلته السوداء و قميصه الاسود المماثل دون ربطة عنق .... واضعا كفه في جيب بنطاله ... ينظر اليها و كأنه شرد في شيء ما بعيد جعله يبتسم ابتسامة لم ترها من قبل ...
هتفت كرمة بدهشة
( حاتم !! ...... ماذا تفعل هنا ؟.... هل أنت مدعو ؟!! ... )
رد عليها مبتسما و عيناه تلاحقان عينيها
( بل تسللت من السور كي أحصل على عشاء فاخر مجاني .... )
ابتسمت كرمة و هي تقول بدهشة
( كن جديا .......... ما اللذي أتى بك ؟!! ... )
قال حاتم بهدوء
( هل يمكنني الجلوس قبلا ؟؟ ...... )
أشارت كرمة الى المقعد المقابل و قالت مبتسمة
( تفضل طبعا ....... )
و ما أن جلس حتى قالت بسرعة
( اخبرني كيف أتيت ؟؟ ....... )
مد يده يمسح شيئا وهميا عن سترته بخيلاء وهو يقول
( في سيارتي ........ )
تأففت كرمة .... و هي تتراجع في كرسيها ... " ما بال الرجال اصبحوا ظرفاء و يحبون القاء القفشات !! ... الا يعلمون أنه لا وجود لرجل طريف أبدا مهما حاولوا ؟!! .... "
قالت كرمة بقوة
( انطق يا حاتم أو أبتعد من هنا ...... أنا مُستفزة دون الحاجة للمزيد )
ظل يتأملها طويلا ......
بالأمس وهو يجلس ببيته متكاسلا مفكرا بها دون ان يحرم على نفسه حرية الفكر وهو يحرم عليها حرية التواصل معها بشكلٍ اقوى يتعدى زمالة العمل ...
في تلك اللحظة بالذات سمع رنين هاتفه ... و ما ان نظر اليه حتى تدافعت نبضات قلبه بشكل يتناقض مع سنوات عمره المحترمة المقام ....
فرد عليها متأكد أن في الأمر خطأ ما .....
لكنها كانت هي بالفعل ... كان صوتها المبتسم دون الحاجة للتأكد من ابتسامة شفتيها ...
كانت كرمة ....
لا يزال يتذكر احساسه وهو يرجع رأسه للخلف مغمضا عينيه كي يستمتع بعذوبة صوتها على هاتفه للمرة الأولى ....
كانت قبلة الحياة له ... و كم كانت قصيرة حين اخبرته بنعومةٍ معتذرة انها لن تتمكن من حضور اجتماع عميل هام معه اليوم لأنها ستكون مشغولة مع صديقتها في تحضيرها لعرسها ....
و انتهت المكالمة سريعا ... لكن ببضع كلمات عرف أن الزفاف الضخم ما هو الا زفاف سيف الدين فؤاد رضوان
و بسرعةٍ تذكر ان في مكتبه بطاقة دعوة مهملة عليها نفس الإسم ..... لتبرق عيناه بتألق ...
قال حاتم بهدوء وهو يرجع ظهره للخلف ناظرا اليها
( حضرت بناءا على دعوة ....... )
رفعت كرمة حاجبيها بدهشة و هي تقول
( لم أكن أعلم أتك تعرف سيف الدين فؤاد !!! .... )
صمت طويلا وهو يتأمل جمالها .... كم كانت سخية دافئة , متفجرة الأنوثة بشكل يوجع الضمير ...
شعرها المرفوع بشكل أنيق أظهر كمال وجهها ... كيف يمنع الرجل نفسه من النظر اليها !!
و متى كانت الدناءة احدى خصاله!! ....
تنهد بقوة ليقول بهدوء لا يمتلكه
( في الواقع ..... لا أعرفه إطلاقا ... بطاقة الدعوة اتت الى مكتبي موجهة الى السيد مدير الفرع عماد .... )
فغرت كرمة شفتيها بذهول و اتسعت عيناها للحظة .... ثم لم تلبث ان أرجعت رأسها للخلف ضاحكة بصوتٍ عالٍ جذب بعض الأنظار اليها ....
هذا كثير .... والله هذا كثير ...
وجمت ملامحه و اتختفى الهزل منها وهو يراقب بهجة الروح تشتعل مرحا ... و كم كانت ضحكاتها شحيحة ...
لها جمال ضحكة ... لم يسمعه من قبل ...
و كم ود لو يصرخ فيمن ينظرون اليها بجنون و يسحق انوفهم بقبضته ... ليلتزم كلا منهم موقعه و ينظر في طاولته ....
هل جن للنهاية !!! .... يغار من صوتِ ضحكتها ... و هي التي تبيت في احضان رجلٍ يمتلكها كل ليلة و الحق كله حقه ....
اظلمت عينا حاتم و الألم المبرح بداخله يتوحش.....
اخذت كرمة تسعل و هي تخرج منديلا من حقيبتها الصغيرة لتمسح به طرفي عينيها الجميلتين قبل أن تفسد زينتها من دموع الضحك ...
ثم قالت بذعر مرح
( لا أصدق أن شخص بمكانتك يتطفل على زفاف هو ليس مدعو له !!!! ...... )
ابتسم حاتم قليلا مع انحناءة عينيه المتأملتين لها .... ثم قال بهدوء
( رغبت في حضوره ....... سمعت أن طعام محضر على أعلى المستويات لذا ودتت لو اجرب بنفسي )
ابتسمت بتألق و هي تستطيل قليلا لتنظر خلف كتفه ... ثم عادت لتقول
( بصراحة لا ألومك ... فأنا في انتظار " البوفيه " من قبل أن يبدأ الزفاف )
ظل ينظر اليها طويلا دون أن يبتسم ثم قال أخيرا بجدية
( كرمة ........... ستأكلين الليلة حتى تزهدي في الطعام كله و تعلمي أن في الحياة متعا أخرى غيره )
نظرت اليه بذهول , ثم لم تلبث أن ضحكت وهي تقول
( ياللهي .... ياللفضيحة , سمعتي في الأكل أصبحت معروفة )
قال حاتم بهدوء و جدية
( يكفي أن أخبرك بأن اقتصاد البلد قد تأثر بتزايد شهيتك )
مطت كرمة شفتيها و هي تقول بغضب
( حسنا هذه قلة أدب .... لست شرهة لتلك الدرجة )
رفع حاتم كفه الى صدره وهو يقول بكل صدق
( إنها الحقيقة دون تزييف ...... )
نظرت كرمة الى وعد التي كادت تغفو على صدر سيف ... فابتسمت ... و هي تفكر بأن الحمقاء كادت أن تدمر الليلة .... ليلة عمرها .... سواء نجح الزواج أم فشل .... ستكون ليلة عمرها .....
تنهدت كرمة بصمت مثقل و قد اختفت ابتسامتها تماما .... ياللهي ما أصعب ما تحياه الآن .....
بينما كان حاتم يراقب تبدل ملامحها من الشرق الى الغرب في لحظة واحدة ... و أوشك على أن يقتحم رأسها ليعلم بماذا تفكر حاليا
فاستغل تنهيدتها ليقول بهدوء
( ما سر تلك التنهيدة الحزينة ؟؟ ...... )
نظرت اليه كرمة طويلا .... وهو بداخله يحثها " تكلمي ..... تكلمي "
و تكلمت .... و ياليتها ما تكلمت ... فقد همست بصوتٍ ميت
( حاتم ..... أعتقد ...... أعتقد .... أنني سأترك العمل , بل أظنني سأفعل .... )
لم يعلم أن الحكم بالإعدام يمكن أن ينفذ بكلمة إعتقاد !! ....
ظل ينظر اليها دون تعبير يطرأعلى وجهه الجامد .... بينما عيناه اشتعلتا و جنون الغضب طاف على سطحهما ... و بعد لحظةٍ واحدة قال بصوتٍ لا يقبل الشك
( لن أسمح لكِ ...... )
رفعت اليه عينين مذهولتين .... ثم همست بعدم استيعاب
( عفوا !! .... )
كرر حاتم مجددا بنفس الثقة
( قلت لن أسمح لكِ ...... حين يصادف الإنسان شخصا مميزا أوشك على تحقيق المستحيل ... ثم يجده في لحظة أخرى يتخذ قرارا يفسد كل ما حققه ليس لشيء سوى لانه يمر بكبوة عارضة .... حينها الواجب يحتم سرعة التدخل ولو بالقوة )
كانت كرمة تستمع اليه باهتمام رغم أن كلامه يقتلها قتلا .... إن ما تفعله و كأنها تتخلى عن أحد أطفالها ...
لكنها قالت بخفوت لشخص .... كانت محتاجة لشخصٍ كي يسمع ....
( بيتي يحتاجني يا حاتم ....... قد أخسر حلمي و المستحيل الذي ذكرته ... لكن خسارة بيتي تعني خسارة حياتي ..... )
لا .... ما قالته سابقا لم يكن الإعدام .... بل الإعدام هو ما قالته تاليا .....
شعر بمرضٍ خبيث يحرق أحشاءه و هو يستمع اليها .... ثم نظر كلاهما الى العروسان وهما يتمايلان على موسيقى أخرى ناعمة ... و كأن العالم لهما وحدهما .....
نظر اليها مرة أخيرة .... الى ذلك الوجه الجميل الذي تصفعه يدا همجية وهو لا يقوى على الحراك ....
تلك الوجنة التي يزرق لونها ... و يبقى هو مشتاقا لأن ...... يقبلها مواسيا ....
قال فجأة بصوتٍ ملتهب كالجحيم ...
( سأحضر لكِ ما تشربينه .......... انتظري هنا )
أومأت كرمة برأسها دون أن تنظر اليه ... بل كانت عيناها مثبتتان على سيف ووعد ....
و بعد أن مر نصف الأغنية ... شدها قلبها لأن تنظر في الإتجاه المعاكس ... و كم كان ذهولها حين رأت محمد واقفا من بعيد يتلفت يمينا و يسارا ....
فهمست باسمه بذهول العاشقين ... و نهضت على الفور تقترب منه ...
كان منظره متناقض مع كل ما يحيط به .... ببنطاله الجينز و قميصه المربعات ... و ذقنه الغير حليقة ...
لكنه يظل الأكثر وسامة على الإطلاق ....
اقتربت كرمة منه خطوة خطوة ... و مع كل خطوة تتغضن ملامحها ألما ...
الى أن وصلت اليه .... فأبصرها ... ليقف مكانه و تبتسم عيناه .... بينما وجهه الخشن الحبيب مصمت التعابير ...
كان هو من تكلم قبل أن تنهال عليه بالتقريع فقال بخفوت
( لم أستطع تركك وحيدة ..... )
ارتجفت شفتيها ... و اغروقت عينيها بالدموع لكنه هتف هامسا وهو يرفع يده الى شفتيها يهدىء من ارتجافهما غير آبه بأحمر شفاهها الذي لطخ أصابعه
( لا تبكي .... لم آتي الى هنا كي أبكيكِ )
أومأت برأسها لكنها لم تجد القدرة على الكلام .... شعرت أن الكلام قد يخنقها .....
فهمس وهو ينظر اليها بحنان
( هل ترقصين ؟؟ ........ )
فغرت شفتيها بصدمة ثم همست
( لم نفعلها في زفافنا ..... هل تعرف الرقص ؟؟ ... )
ابتسم وهو يقول بحنان
( لا أريد سوى أن أتمايل معك في مكاننا كما يفعلون .... )
ارتجفت شفتاها أكثر ... لكنها أومأت برأسها ....
ستترك ما بينهما الآن ... و تتنعم بتلك اللحظة ... ستنسى قميصه ذو المربعات و تنعم بتلك اللحظة ....
ستنسى علياء و تنسى عملها .... و تنعم بتلك اللحظة ....
الا أن محمد كان له رأيا آخر .....
فقد انحنى ليهمس في اذنيها
( سأفعل أي شيء كي تعود حياتنا يا كرمة ..... أي شيء )
شردت كرمة بعيدا و هي تميل اليه بأنوثة .... ثم لم تلبث أن همست لنفسها بقسوة
" آسفة يا علياء .... ليس ذنبي أنكِ أخذتِ شيئا ليس من حقك "
أغمضت عينيها كوعد و هي تنام على صدر محمد .... يضمها اليه و يشعل شوقها بشكلٍ لم تحققه معاشرته لها في المرة الأخيرة ...
أحيانا تكون اللمسة لها تأثير السحر .... حين يلمس بها شريك الروح قلب شريكه ....
وقف حاتم مكانه ممسكا بكأسين من الشراب ..... وهو ينظر الي المشهد الذي قصف صدره برصاصة ... لكن شيئا لم يظهر على ملامحه وهو يطالعهما بعينين ميتتين ....
حبيبته بين ذراعي آخر !! ... مرة أخرى يجذبه النكران بعيدا ... و يفصل بينها و بين أخرى ينتهكها غيره بالحلال .... اي عذابٍ هذا !! ....
و فجأة ارتفعت العينان الخشنتان لتصطدمان بعيني حاتم ......
و توقف الزمن بينهما .... تماما كما كانت كرمة تقف بينهما في تلك اللحظة تائهة بحب , لا تدرك تشنج صدر زوجها ..... فقد نمت البذرة .... بذرة الجنون ... و الشك .....
.................................................. .................................................. ...................
وقف مكانه يشرب من كأسه بهدوء ... وهو ينظر بحزن الى العروسين .....
و ابتسم ..... عيناه العميقتي السواد تغضنت زاويتاهما بألم .....
ملامحه الرجولية الوسيمة كانت جذابة في شرودها ... و كأنه وجه نسي طعم الفرح منذ قديم الأزل ....
لقد كره الأفراح و الأعراس .... و لا يعلم لماذا عاود حضورها مجددا ......
لقد نبذ كل ما له علاقة بالفرح ..... منذ أن بات الفرح يوجعه .....
السنوات تمر بطيئة .... بطيئة .....
لم يكن مستعدا الى تلك الموجة الذهبية القصيرة التي ضربته بجنون أثناء جريها !! ...
انتبه فجأة وهو ينفض يده من قطرات الشراب ... ليرفع عينيه الى فتاة .... ذات شعرٍ كأمواج الذهب يتألق تحت أضواء القاعة بجنون وهو يلامس خصرها !! ....
كانت قد استدارت اليه و هي ترفع يدها الى فمها بذعر بينما الأمواج الذهبية تناثرت على كتفيها و ظهرها بعشوائية .... و اتسعت عيناها العسليتين و هي تهتف من تحت يدها
( أنا آسفة ....... أنا آسفة جدا ....... )
لم يرد .... فقط أومأ برأسه دون أن تتغير ملامحه الرصينة الجدية و .... الحزينة ....
ثم راقبها و هي تجري لتقف مع عدة فتيات خلف العروس ....
التفت على صوت صديقٍ له
( هيا يا رائف لنغادر ....... لقد فعلنا الواجب و هنئنا العريس , لقد سئمت تلك المناسبات )
أومأ رائف برأسه ليبتعد معه ... لكن ليس قبل أن يلتفت و يلقى نظرة على الأمواج الذهبية السابحة فوق الثوب الحريري ......
أستعدت وعد ... ثم همست لنفسها ... واحد اثنان ثلاثة .... امسكيها يا ملك .... امسكي باقتك ...
و ما أن ألقت وعد الباقة ...
حتى سقطت في يد ملك مباشرة ....
ليست مهرة التي لم تقاوم أغراء اللحظة ... و ليست أيا من المدعوات المتهافتات على الباقة ...
لكنها كانت ملك ... ابتسمت وعد بسعادة ... و هي تفكر
" ملك هي من ستتزوج أولا ..... و حتى أنها ستكون قبل مهرة "
.................................................. .................................................. ..................
جلست وعد على حافة سرير جناح الفندق الذي حجزه سيف .....
كانت مطرقة برأسها و هي تفرك أصابعها بتوتر ....
عيناها سابحتان في ذكرى تلك الليلة .... ليلة كانت بها ملكة .... ربما للمرة الأولى و الأخيرة ....
لكنها تكفيها .... لقد حقق لها سيف أقصى ما كانت تتخيله في أكثر أحلامها جنونا ....
تعلم أن الزفاف كان الغرض منه اجتماعي بحت .... لكن يكفيها أنه كان على شرفها هي ......
أخذت وعد نفسا مرتجفا و هي تنظر الى باب الغرفة المغلق و الموصل الى قاعة الجناح ....
" ماذا يفعل كل ذلك الوقت ؟!! ..... ألن يأتي ؟!! .... "
عادت الأرتجافات و الإنتفاضات تنتابها من جديد .... لماذا يوترها بهذا الشكل ؟؟ .... لماذا لا يأتي و يشبع احساسها الأنثوي قبل أن يتركها فريسة التفكير من جديد ....
مر وقت لا بأس به فزفرت وعد بغضب و هي تنهض من مكانها ببطء ... تسير على أطراف أصابعها الى أن وصلت للباب المغلق .... فألصقت أذنها عليه .... و فجأة سمعت صوت يقترب
فجرت بسرعة عائدة الي السرير كي تجلس عليه لكنها من توترها أخطئت مكان حافة السرير ... فجلست على الهواء لتسقط أرضا على مؤخرتها بكل قوة ...
تأوهت وعد فسمعت صوت طرق على الباب وصوت سيف يقول بقلق
( وعد !! .... هل أنتِ بخير ؟!! .... )
نهضت بسرعة و هي تتأوه بصمت ممسكة بظهرها ...... لتجلس مجددا على حافة السرير ثم قالت بصوتٍ حاولت جعله هادئا
( نعم ..... أنا بخير .... تفضل ... )
دخل سيف ببطء الى الغرفة .... ثم توقف بوجوم وهو ينظر اليها ....
انها بالفعل عارضة أزياء الليلة .....
نحيفة ... جالسة بأناقة على حافة الفراش ... شعرها المموج مجموع على كتفها و كأنه يستفزه ....
وجهها مزين ببراعة و رقة في ذات الوقت .... لكن عينيها الرماديتين كانتا مرسومتين بالأسود الصريح ....
تنظران اليه بصمت .... مترقبتان .... تلمعان ....... إنها تريده ...
اللعنة ... قد تكون خائفة , لكنها تريده .....
أغمض عينيه للحظة ......
" يا رب أحاول أن أكون هادئا متأنيا ... فماذا أفعل ؟!! .... لو أصابها الضرر هذه المرة ستكون في مقتل .... لي و ليس لها "
دخل سيف عدة خطوات ..... ثم قال بخفوت
( كنت أريد أخذ ملابس نومي ....... )
لم ترد وعد وتنظر اليه بعينيها الواسعتين .... وهو يفتح أحدى الخزائن ليخرج منها بيجاما حريرية سوداء ....
ارتفع حاجباها بصمت .... سوداء !! .... يالها من ليلةٍ بيضاء من البداية !!
لقد أخذ السترة !!! .... لقد أخذ السترة !! .....
تطلعت اليه وقد خلع سترتة حلته ... و رابطة عنقه ... و فتح معظم أزرار قميصه ... فتاهت عيناها للحظات على مرأى صدره ... الا أنها اكتشفت أنه يراقبها بوجوم .....
فاحمر وجهها و انخفض في لحظة واحدة .....
و حين استرقت النظر اليه مجددا رأت طيف وهو يخرج مندفعا من الغرفة !
بهتت ملامح وعد و خفتت ارتجافات ترقبها تماما .... و أصابها الإحباط ....
و حين طال بها الإنتظار ... قررت التمرد على الوضع ... فنهضت من مكانها و خرجت اليه ...
لكنها فوجئت به يجلس على ذراع مقعد وثير ...ينظر الى الليل الذي تنيره أضواء المدينة ليلا ...
ظلت تنظر اليه طويلا ..... ثم همست أخيرا بخفوت
( سيف ! ...... )
نهض بسرعة ما أن سمع صوتها و قال بصوته العميق
( هل تريدين شيئا ؟؟ ...... )
" سلامتك !!! " ........
لكنها قالت بجمود
( ماذا سأرتدي ؟!! ..... انت أخربتني أنك أعددت كل شيء )
اقترب منها ببطء و عينيه بعينيها ... الى أن وصل اليها .... فأمسك يدها بقوة و سحبها خلفه ....
لم تكن تدري أنها تبتسم ... و أن امساك يده ليدها فعل بها الأعاجيب ....
وصل بها الى الدولاب ففتحه و أخرج منه قميص نوم أبيض حريري طويل .... و مده اليها بصمت وهو ينظر اليه و كأنه يناجيه بحسرة ....
نظرت وعد الى القميص دون أن تمسكه ... و دون أن تترك يد سيف الممسكة بيدها ....
ثم رفعت عينيها الى سيف تهمس برقة
( إنه رائع ........... )
لكن أنفاسه تحشرجت بقوة ..... فترك يدها و قال بتوتر
( سأتركك الآن ........ كي .... ارتديه فقط )
خرج سيف مسرعا دون أن ينسى أن يغلق الباب خلفه .... بينما وقفت وعد واجمة ...
ثم اتجهت الى المرآة تنظر الي نفسها بصمت .... إنها بالفعل تبدو جميلة ...
فردت خمار العرس بيديها على اتساعه ... و ابتسمت لنفسها .....ثم همست
( الليلة كانت من أجمل ليالي عمرك يا وعد ..... فلا تسمحي له بافسادها .... لم يعد البر... برا .... و لم يعد للخوف معنى ..... إنه زوجك شئت أم أبيت ..... لقد منحك كل ما لم تتخيلينه أبدا .... , فامنحيه ما تمناه )
لذا تركت خمارها , ثم خرجت من الغرفة .... و هذه المرة وجدته يجلس مرتميا على الأريكة بوجوم شاردا أمامه ....
رفع رأسه ينظر اليها ثم قال بانفعال ليس في محله
( ماذا الآن ؟!!! ......... )
انحنت عيناها بطفولية ..... ثم همست بحزن
( لا أستطيع فتح سحاب الفستان بمفردي ..... )
رقت ملامح سيف فجأة على الرغم من اشتعال عينيه .... فقال لها بخفوت رقيق
( تعالي ........... )
اقتربت وعد منه ببطء حتى وقفت أمامه .... فقال لها بصوت شديد الخشونة و التحشرج
( اهبطي على ركبتيكِ كي أفتحه لكِ ....... )
لكن وعد لم تنزل أرضا على ركبتيها .... بل جلست على ركبتيه بخجل ووجهها يحمر بضراوة ...
همس سيف بتأوه جارف
( وعد ........... )
رفعت عينيها الخجولتين اليه ... لتهمس ببراءة
( نعم ............ )
أنفاسه لفحت وجهها الساخن .... لكنه قال و يده تشرد رغما عنه فوق خصرها النحيف ..
؛( أنا أخشى عليكِ من نفسي ...... أخشى الا أكون بالصبر الذي تتوقعينه مني ... بداخلي طوفان كاسح يخيفني قبل أن يخيفك ..... )
ابتسمت وعد على الرغم من صدرها اللاهث بعنف ... ثم همست
( هل تحاول أن تخيفني ؟؟!! ........ )
ابتسم رغما عنه لعينيها الجميلتين ..... ثم همس بهدير لاهب
( ربما أحاول أن أخيف نفسي ....... )
مدت وعد يدها تلمس صدره برقة أشعلت النيران في حلقاتٍ مجنونةٍ دارت بداخله ثم همست بوداعة
( اذن كف عن المحاولة ........ لأنني أريد ذلك ... و منذ فترة طويلة )
اختفت الإبتسامه من وجهه و برقت عيناه بشكلٍ مخيف .... لكنها لم تخاف .... و ابتسمت له مشجعة ...
فاستقام يهمس مجددا بجنون اسمها
( وعد ........ )
لكنها قالت بمرح
( هل تعرف كيفية عمل تنفس صناعي ؟!! ..... انها من الإسعافات الأولية التي نصح بها الطبيب بعد أن فضحتنا المرة السابقة ......آآآآآه )
لم تتمكن من المتابعة بعد أن هجم عليها يكتسحها بكل جنونه الجارف و الذي اشتعل بهما معها ....
فانتزع منها خمار الزفاف بقوة ليرميه أرضا ..... و الأكيد بعدها أنه ساعدها في فتح السحاب .....
و كان مصير الفستان الذي عذب عينيها ليالٍ طويلة من السهر و التعب ... أن ارتمى منزويا بعيدا وحيدا يتيما في أحد أركان الجناح .... مع القميص الذي اختاره لها .....
.................................................. .................................................. ......................
نهضت كرمة من نومها صباحا و هي تتململ في فراشها بسعادة و حب ....
ليلة امس قضتها بين ذراعي محمد و كأنها هي العروس .... لقد بثته كل ما تستطيعه من أشواق كي تعيده اليها ...
كان همجيا كعادته ... لكن أشواقه و أشواقها مجتمعة غلبتهما و انتصرت على الواقع ....
مدت يدها تبحث عنه في السرير , الا إنها لم تجده ..... فنهضت بوجه محمر مشع و ارتدت أجمل قميص نوم لديها .... محمد لن يغادر من هنا الى شقة غريمتها أبدا .....
خرجت بعد فترة و هي تتألق بقميص نومٍ أرجواني قصير رائع .... هو أيضا من تفصيل وعد ....
لكنه جعلها تبدو في منتهى الروعة ....
و ما أن وجدته جالسا على احد الكراسي بصمت .... ابتسمت تهمس
( صباح الخير ........ ليس مسموحا لك النهوض بدوني )
مدت يدها اليه تدعوه بإغراء .... لكنه نظر اليها نظرة أجفلتها و قال بصوتٍ جاف صلب
( لا عمل اليوم يا كرمة ... و لا غد .... و لا أي يوم .... و هذه المرة قراري لارجعة فيه .... لو خرجت من باب هذا البيت للعمل ستكونين طالق .....)
فغرت كرمة شفتيها بذهول ... و ملأت الصدمة وجهها
لقد أقسم عليها بالطلاق !! ......
لكنها لم ترى هاتفها بيده
.................................................. .................................................. ......................
وقفت وعد أمام مرآة الغرفة صباحا ....
بعد أن خرجت من الحمام بالقوة و هي تضحك كالمجنونة ........ ...
رفعت كفيها الى وجنتيها المشتعلتين و هي تنظر الي نفسها مبهورة ... مندسة داخل روب الحمام الأبيض الكبير يكاد يبتلعها ....
أغمضت عينيها تلهث بجنون .... حتى شكلها تغير .... توردها الآن أظهرها و كأنها أكثر نساء العالم أنوثة و إغراءا .....
همست بوله دون أن تفتح عينيها
( سيف !!! ............ )
لكن رنين هاتفها جعلها تنتفض بقوة مخرجا إياها من ذكرى الحلم الذي عاشته ليلة أمس
فنظرت عابسة الى أحد الأدراج و الذي وضعت به هاتفها ليلة أمس ....
استدارت تنظر الي باب الحمام حيث سمعت صوت خرير الماء قويا ... ففتحت الدرج لتنظر الى الرقم اللذي يطلبها ...
فغرت وعد شفتيها و سقطت جالسة على الفراش .... إنه أحد أرقامها !!!! ... إنها حية !!! .....
أخذت نفسا مرتجفا و الصدمة تملأ كيانها ... ثم لم تلبث أن ردت بتردد همسا
( نعم ....... )
الا أن الصوت الذي وصلها كان صوت رجل .... صوتا رخيما بدرجةٍ لم تسمعها قبلا ...
( أنتِ الآنسة وعد عبد الحميد العمري ؟؟ ..... )
ابتلعت ريقها و همست بترقب مجددا
( نعم ........... )
سمعت صوت تنفس خشن ... ثم طلب غريب
( اذن من فضلك ... أحتاج الى اثبات شخصيتك أو قدومك الى هنا بنفسك )
عبست وعد بشدة ... من هذا الفظ قليل الذوق ؟!! ... فقالت بصلابة
( عفوا لو سمحت ..... من أنت كي أثبت لك شخصيتي ؟!! ..... )
ساد صمت متوتر قليلا ... لكنه عاد ليقول بفظاظة ....
( أعتقد أنكِ أنتِ من تركتِ رسالة كي نهاتفك ... و الآن أنا أحتاج لإثبات شخصيتك )
هتفت وعد بحنق من ذلك المخلوق المستفز
( من أنت أصلا ؟!!! .......... )
رد عليها بحدة مماثلة
( أنا يوسف الشهاوي ... ابن المرحوم عبد الله الشهاوي .... و الذي كان زوج السيدة والدتك رحمها الله و أنا الآن احتاج لإثبات شخصيتك لإتمام اجراءات ميراثك المتأخر عن السيدة صفا والدتك .... )
صمتت وعد تماما و هي تنظر اللى اللا مكان و بداخلها يهمس بلا روح
" لقد ماتت بالفعل ...... "
و كان هاتفها يهتف بفظاظة
( آنسة وعد ...... آنسة وعد ...... )
لكنه لم يحصل على رد .... فالرقم المطلوب تم غلقه .......
.

بعينك وعد. 🌺 بقلم تميمة نبيل 🌺حيث تعيش القصص. اكتشف الآن