الفصل السادس و الثلاثين :
( هل يمكنك على الأقل النظر الي ؟!! ....... حاتم ..... حاتم ..... )
كان غاضب ... و بشدة ..... استطاعت الشعور بغضبه واضحا حتى أنه كاد يلفحها بوهجهه الحارق ....
لقد أكملا اليوم في شبه خصام ..... على الاقل من ناحيته هو , ....
منذ أن كانت جالسة في مكتبه و عرضت عليه اقتراحها المتهور ...... وهو يبدو كالمجنون الصامت المكبوت .....
العبارة الوحيدة التى هدر بها ... بذهولٍ يحمل ذبذبات الخطر
( ماذا ؟؟!! ........... هل أنتِ في كامل قواكِ العقلية ؟!!! ..... )
لتبدأ بعدها في محاولة الإقناع التي حفظتها عن ظهر قلب .... الا أنه رد بآخر كلمات سمعتها منه اليوم
( سنتكلم في البيت .......... و أنصحك ألا تجادليني حاليا يا كرمة ...... )
من ذلك الوقت و الوضع الصامت بينهما توتر و تأزم و اضطرت الى الذهاب لمتابعة عملها كارهة الى أن انتهت اليوم ....
و حين كانت تلملم أغراضها بوجهٍ واجم شاحب .... شعرت بقوةٍ تأمرها بأن ترفع وجهها في التو .. و ما أن فعلت حتى وجدت حاتمي يقف في اطار باب مكتبها المفتوح ....
صامتا ينظر اليها نظرة غريبة ... بوجهٍ جامد و عينين ثاقبتين .... تكادان أن تخترقا روحها و تعريها من صلابتها الزائفة ....
ابتلعت ريقها و هي تبتسم له ابتسامة مهتزة .... الا أنه لم يرد لها الإبتسامة , بل وقف مكانه ينظر اليها بنفس النظرة عدة لحظات قبل أن يقول بجفاء
( هيا لنغادر ........... )
ثم انتظر الى أن أقتربت منه ببطىء و قلبها يخفق بعنف و ما أن وصلت اليه مطرقة الرأس حتى مد يده ليمسك بكفها بقوةٍ لم تسمح لها بالمقاومة ... ليجذبها معه خارجا بثبات دون أن ينظر اليها ...
و كانت خطواته متسارعة يكاد غضبه يحفرها في الأرض حفرا و هي تهرول خلفه محاولة مواكبة خطوات غضبه ....
فهمست بتردد و هي تشعر بالإحراج من نظرات الجميع
( حاتم ...... الجميع ينظرون الينا , اترك يدي )
الا أنه لم يرد ... و كان ان استشعرت غضبه لا يزال قويا , دون أن يظهر ذرة منه .... فهمست مجددا و هي تركض خطوة حتى وصلت لكتفه فارتفعت على اطراف اصابعها و هي تهمس
( هل يمكنك على الأقل النظر الي ؟!! ....... حاتم ..... حاتم ..... )
لكنه لم يرد .... بل تابع بطريقه بصمت الى أن وصلا سيارته , ففتح لها الباب و ترك يدها دون أن يضغط عليها كما اعتاد ان يفعل ...
كانت تعلم أن له طريقة معينة في الامساك بيدها ... لا يعلمها غيرها , فقبل أن يترك يدها كل مرة , كان ابهامه يتحسس نبض رسغها ... ليتركها بعدها على مضض ...
جلست كرمة بوجوم .. و هي تراه يدور حول المقدمة ليجلس مكانه صافقا الباب خلفه ...
مرت الدقائق بهما صامتة و هي تنظر اليه بقلق ... كانت الحكمة تحتم عليها الا تنطق بشيء في تلك اللحظة الى أن يهدأ ... و بالفعل التزمت الصمت عدة دقائق اضافية , قبل أن يحثها غبائها المعتاد على أن تهتف بنفاذ صبر غير قادرة على تحمل ثقل هذا السكون البغيض
( على الأقل رد يا حاتم ...... لا أطيق حرب الأعصاب تلك .... )
نظر اليها نظرة أجفلتها و جعلتها تتراجع بأدب و هي تقول بصوت خافت وديع ... مهتز قليلا
( كان مجرد اقتراح يا حاتم ......... هل رأيتني على متن الطائرة مثلا ؟!! ......)
اشتعلت عيناه بصورةٍ مخيفة ... فابتلعت ريقها و هي تشعر بأنها تزيد الأمر سوءا بكل لحظة ....
ثم نظرت أمامها بصمت ....
اذن ماذا ؟!! .... هل هكذا سيكون الأمر دائما ؟!! .... ارهاب فكري و مصادرة آراء !! .....
التفتت اليه و هي تقول بمزيد من جرعة غباء نادرة
( هلا رددت على من فضلك ........ أبسط حقوقي أن أعلم لماذا تتم مصادرة اقتراح يخص حياتي ..... )
و ياليتها ما كانت ضغطت عليه تلك الضغطة الأخيرة .... فقد كانت القشة التي يحتاجها كي ينفجر بها ... فصرخ بغضب وهو يضرب المقود بقبضته ...
( أبسط حقوقك تناليه بعد أن تدركين أولا ما هي واجباتك .... أنتِ زوجة .... و هناك كائن يطلق عليه لقب زوجك إن كنتِ نسيتِ ذلك ....... )
هتفت كرمة بقوة
( أنا لم أنسى ...... إنها فقط فرصة سبق و تناقشنا بها .... لكن هذه المرة أريدك فقط أن تنظر اليها من باب المصلحة ..... )
التفت اليها بعنف... فتراجعت الى الخلف قليلا و هي ترى أن غضبه يتزايد بصورة غير مسيطر عليها .... و ما أن أعاد وجهه الى الطريق حتى شتم بقوة وهو يتفادى سيارة كانت تميل اليهما بغباء ...
شهقت كرمة و هي تتمسك بقعدها بكلتا كفيها ... هامسة و هي تغمض عينيها مودعة عمرها ...
( ياللهي .... ربما .... من الأفضل لوقمنا بتأجيل النقاش حتى نصل للبيت ..... )
الا أن الوقت قد تأخر جدا على محاولة التفكير بتعقل ... حين هدر حاتم بقوة
( يوم تناقشنا كنتِ امرأة غير متزوجة ....... و مع ذلك رفضت ذلك الإقتراح رفضا باتا , فكيف تفكرين الآن .. مجرد التفكير في الأمر ..... )
نظرت اليه كرمة و هي تهتف مدافعة
( الأمر ليس بمثل تلك الخطورة يا حاتم ..... أن أسافر لنيل فرصة عمل أفضل و أطور من نفسي .... العديد من الأسر تحيا بطبيعية رغم سفر الزوجة ....... هناك عطلات و أعياد .......)
رفع حاتم رأسه عاليا و هو يصدر صوت استهجان و احتقار ... هاتفا بسخرية
( عطلات و أعياد !!!! ........ ربما يتعين علي اذن أن أحمل بجيبي رزنامة الأعياد و العطلات الرسمية كي أعرف المواعيد التي سأجتمع فيها بكِ ....... )
احمر وجه كرمة قليلا من لهجته السوقية و معانيها الواضحة .....
لكنها تكلمت بجدية و قوة تدافع عبثا عن وجهة نظرها البائسة
( سأعود اليكما في العديد من الأجازات ... و أنتما قد تأتيان الي حين ترغبان في السفر للترفيه .... سنقضي معا أوقاتا رائعة..... العديد من الأسر تحيا بتلك الصورة يا حاتم ... و أنا لا أراه عيبا ابدا ..... )
صرخ حاتم بغضب و جنون و هو يضرب المقود مجددا
( العديد من الأسر المحتاجة لذلك يا كرمة ...... حين لا يكون هناك بديلا غير دخل الزوجة ..... )
هزت كرمة رأسها نفيا بقوة و هي تهتف
( لا يا حاتم ..... ليس الإحتياج شرطا , ... العديد من الأزواج يسمحون بسفر زوجاتهم طلبا لفرصة عمل او دراسة أفضل ..... فقط فكر في الأمر .... )
برقت عيناه غضبا و احمرتا بهياج و هو يصرخ
( أفكر !! ... أفكر !! ..... مجرد عرض هذا الإقتراح هو إهانة الى .... الى زواجنا الذي عليك البدء في محاولة احترامه ...... )
هتفت كرمة
( لا تصرخ ......... )
صرخ حاتم بجنون
( أنا لا أصرخ ........ )
حينها صرخت هي
( بلى أنت تصرخ ........ )
شتم حاتم بقوة وهو ينظر من نافذته حين توقفت السيارة عند اشارة مرور حمراء .... فلاحظ أن هناك أسرة كاملة ينظرون اليهما من سيارة مجاورة متوقفة .... فنظر اليهما حاتم بقوةٍ عدة لحظات قبل أن يهتف بحدة
( ماذا ؟ّ!! ....... )
حينها التفت كل أفراد الأسرة ناظرين أمامهم بسرعة ..... فهمست كرمة و هي تلهث و كأنها عائدة من سباق للجري
( ياللهي !! ........ هذا رائع ..... هذا فعلا رائع ...... )
التفت ينظر اليها بقوة و لهيب غضبه يكاد أن يصهر بشرتها بجنونه ... و فتح فمه ينوي الصراخ مجددا ... الا أنه عاد يصمت و هو ينظر اليها متنفسا بسرعة ....
ينظر الى انحناءات جانب وجهها .... تلك التي يرسمها الحزن و القلق .... و شفتها التي لا تزال تعض عليها .... ابتلاعها ريقها و حركة حلقها اللاارادية .....
ظل ينظر اليها طويلا بصمت قاتم ...... الى زوجته .....
ثم قال أخيرا بصوت جاف .... متباعد ...
( ربما تمكنتِ بكرم أخلاق اخباري عن سبب عرض هذا الإقتراح مجددا !! ..... )
التفتت تنظر اليه بتوتر ... و كان وجهه القاتم مخيفا , الغريب أنها تخافه في كثير من الأحيان .... على الرغم من أنه يقضي ايامه منذ تزوجا وهو يحاول تبديد خوفها منه .... الا أنها تخافه ... و كأنها تنظر الى السطح الهادىء فوق بركان ملتهب ....
أطرقت كرمة برأسها و هي تتلاعب بأصابعها بعصبية .... ثم قالت بخفوت
( لقد راسلني السيد مراد مجددا ..... يعرض علي فرصة العمر في الإنتقال و العمل في فرعنا بالخارج .... لقد طلب منه ترشيح أحدا و هو يرشحني بقوة ...... )
كانت ملامحه تتجمد أكثر ... تتصلب .... و عيناه تهدران بنظراتٍ غير مقروءة ....
ثم قال بصوت جامد .... غامض ....
( مراد راسلك و عرض عليكِ هذا العرض مجددا !!! .... على الرغم من معرفته بزواجنا !! و أننا لا زلنا حتى فيما يطلق عليه العامة و المرفهون اسم شهر العسل !!..... )
توترت ملامحها أكثر و هي تنظر من نافذتها ... و منها الى أصابعها مجددا ... ثم قالت بخفوت
( السيد مراد عملي جدا .... و أنت تعلم ذلك ...... لقد استشعر توتري خلال الأيام الماضية و قد حثني في رسالته الأخيرة على انتهاز الفرصة من أجل حياتنا .. و عملي ... و كل شيء .... )
كان ينظر اليها مبهوتا .....و استمر الصمت بينهما طويلا الى أن سمع صوت اطلاق أبواق السيارات عاليا ... فنظر أمامه الى أن أدرك بأن الإشارة قد تحولت الى خضراء ... فاندفع متحركا بسيارته , ناظرا أمامه ببأس و صلابة ... و بعد عدة دقائق قال بصوت خافت غريب دون أن ينظر اليها
( هل تتراسلين مع مراد باستمرار ؟؟ ........ )
نظرت اليه بسرعة ... ثم ردت بعد عدة لحظات
( نعم منذ أن سافر .... هو يراسلني على البريد الالكتروني ... يطمئن علي و يخبرني عنه ..... , الا تفعل أنت نفس الشيء و الكثير من العاملين بالمصرف ؟!! .... )
لم يرد حاتم ... و لم ينظر اليها ... لكنه قال بعد فترة
( وهو يعلم بأنكِ تعانين التوتر من حياتك الجديدة .. و عملك ؟!! .... يناقشك بها و ينصحك !! .... )
نظرت اليه بوجه شاحب ساكن طويلا ... ثم قالت بفتور
( ليست معلومات خاصة ..... مجرد أن السيد مراد منذ ان عملت معه في المصرف يهتم لأمري ... و كثيرا ما كان يسديني النصح ....... )
صمتت تنظر الى جانب وجهه الغير مقروء .... ثم قالت بصوت غريب
( يمكنك قراءة بريدي كله ......... )
لم يرد حاتم .... بل باتت ملامحه صامتة غريبة أكثر فأكثر .... و كانت كرمة تتأمله طويلا الى أن قالت أخيرا بصوت جامد
( أنت لا تثق بي ........ )
نظر اليها فجأة بتعبير وجهه الغريب ... ثم عاد ينظر امامه دون ان يرد عليها , فقالت بنفس الجمود
( نعم أنت لا تثق بي .... اعطني سبب واحد يجعلك تثق بي ؟؟ .... فما هي فترة معرفتك بي كي تثق بي حين أتعامل مع رجال آخرين !! ........... أنا لست تلك الزوجة التي تليق بك .... لست الزوجة التي تربت ببيت متماسك و عائلة قوية .... لست الزوجة التي تثير فخرك و ثقتك بها بناءا على حياتها الفاشلة التي سبقت معرفتك بها ...... )
ظل صامتا طويلا .. قبل أن يقول أخيرا بصوتٍ أجوف رنينه يكاد يضرب اذنها
( أنصحك بأن تتوقفي الآن يا كرمة ..... فأنا غاضب .... و بشدة ..... )
ارتجفت شفتيها قليلا و نظرت من نافذتها تلعن غبائها ككل يوم .... بينما ارهاق روحها يكاد أن يصيبها بالإغماء .... اليوم كان رهيب الضغط عليها .... بل كان يوما عصيبا ....
نظرت اليه بتردد .... و دون تفكير وجدت فطرتها تأمرها بأن تمد يدها لتمسك بيده الحرة و الموضوعة على فخذه القوي .....
انخفضت عينا حاتم الى يدها الممسكة بيدها ... ثم عادتا للنظر الى الطريق ....
حينها همست كرمة بداخلها بيأس و ترجي
" تحسس نبضي كما تفعل دائما ...... أرجوك .... قم بتلك الحركة الغبية الآن .... أرجووووك "
ظلت يده جامدة باردة لعدة لحظات .... و قبل أن تيأس وجدت كفه يستدير ليتلقى يدها براحته ... فضغط عليها ببطء و رفق ... بينما تحرك ابهامه على نبضها ... وهو شارد بعيد عنها بذهنه ... لكن جسده كان له رأي آخر ... فقد ظل بجوارها .. يتفاعل معها ... يشعر بألمها ... يمنحها الإشارة بأنه هنا و سيظل هنا ...
ظلت كرمة تنظر الى يده طويلا ... قبل أن تنفرج شفتيها عن ابتسامة مرتجفة .... مطمئنة ...
و حينها سكنت و هي قادرة أخيرا على الصمت .... دون قذف تلك حجرا تلو آخر بلسانها الذي يحتاج لقصه .....
وصلا الى البيت .... فأوقف حاتم السيارة و اضطر الى ترك يدها فشعرت بشعور غريب من البرد ....
و قبل أن تكلمه كان قد خرج من السيارة في صمت.... ليتركها بها بإهمال ....
خرجت كرمة خلفه و هي تناديه بقوة
( حاتم !! ......... )
لكنه لم يرد و لم يلتفت اليها و استمر في طريقه الى أن دخل البيت في صمت ..... فوقفت كرمة في الحديقة واجمة ... بائسة ....
حينها انبعث صوت من خلفها يقول بهدوء
( لا تخبريني بأنكما تشاجرتما مجددا !!! ......... )
انتفضت كرمة و هي تنظر الى محمد الذي كان يقف في آخر الحديقة ممسكا بكرته ينظر اليها بفضول
....
و حين ظلت صامتة ... ضحك وهو يهز رأسه قائلا بيأس
( لقد ضربتما الرقم القياسي في عدد الشجارات ..... لقد تفوقتِ على علاقته بأمي في مقدار شجاركما .... )
عقدت كرمة حاجبيها قليلا و هي تقول بيأس
( حقا ؟!! .......... )
رد محمد يقول ببساطة وهو يضرب الكرة في الأرض عدة مرات
( صدقا ....... أنا أتكلم لمصلحتك ليس أكثر ... )
انحنى كتفاها بإنهزام ...و ظلت واقفة بيأس مكانها فقال محمد بهدوء
( ماذا فعلتِ ؟......... )
رفعت وجهها اليه ثم هتفت ملوحة بذراعيها
( و لماذا تفترض أنني السبب ؟!! ..... نفس النظرة الذكورية المتسلطة ... اليس من المحتمل أن يكون هو من أغضبني ؟!! ....... )
رفع محمد احدى حاجبيه وهو يمسك بكرته تحت ذراعه ....ثم قال ببساطة
( لن يكون الأمر غريبا على حاتم ... فهو قادر على دفع الطيور الى الهجرة المبكرة عن موعدها ... لكن بالنظر الى حركة حدقتي عينيكِ المهتزة بقلق ... و حركات جسدك الغير مسيطر عليها .... بخلاف صوتك الرفيع و الذي جعل أسناني تقشعر للتو .... كلها اشارات تنم عن احساسك بالذنب ..... )
عاد كتفاها لينخفضا بإنهزام مجددا و هي تضع قناع المسكنة متأوهة بخفوت .... فقال محمد بهدوء
( لن تثيري تعاطفي بتلك الحركات على فكرة ..... لما لا تخبريني بما فعلتهِ ببساطة ؟؟ ..... )
عادت كرمة لتتنهد بيأس و هي تقول بغيظ
( أنت مستفز مثل والدك تماما ....... )
قال محمد وهو يرمي اليها بالكرة
( قوانين الوراثة ............. )
التقطت كرمة الكرة و هي تتأوه بعد أن ضربت معدتها بقوة ... فقالت بغضب
( و يبدو أنني سأتحملها كلها قانونا قانونا ........... )
قال محمد بنفاذ صبر
( هيا يا كمرة ..... فرغي طاقتك في ضرب الكرة و أخبريني بالمصيبة الجديدة التي تسببتِ بها .... )
تنهدت كرمة قبل أن تفك أزرار سترتها السوداء الأنيقة ثم خلعتها لتلقيها على اقرب مقعد خيرزاني ... و بقت بالقميص الأبيض الحريري ... ثم رمت بحذائيها لتتمتع ببرودى العشب الأخضر الندي ....
فألقت اليه الكرة ليتلقاها بسهولة ... و انحنت للأمام تقول بامتعاض
( رجاءا حاول الحفاظ على خريطة وجهي هذه المرة في ترتيبها السليم يا محمد .... اتفقنا ؟؟ .... )
و كالعادة لم تكن قد أكملت عبارتها قبل أن تنطلق الكرة كمدفعية لتضربها مباشرة في صدرها ...
تأوهت كرمة و صرخت عاليا
( محمد !!! ........ توقف عن ذلك الغباء في الضرب , سينتهي بي الأمر مصابة بعاهة مستديمة !! ... )
هتف محمد بدهشة
( حاولي صدها بدلا من تضيع الوقت في الثرثرة !!! .... أنا حتى أصوبها اليكِ مباشرة الى أن تتعلمي كيفية الصد ... فماذا أفعل بعد !! ..... انتِ فاشلة كرويا بطريقة ميؤوس منها .... )
ألقت اليه بالكرة بغضب ....ثم انحنت مجددا و هي تشير اليه بيديها كي يركل الكرة ... الا أنه قال هاتفا أولا
( اذن ...... ماذا فعلتِ ؟؟ ......... )
مطت شفتيها بتوتر قليلا ثم هتفت قائلة
( لقد أغضبت والدك بشدة ............. )
رفع محمد حاجبيه وهو يهتف مذهولا
( حقا !!! ...... لولا أن أخبرتني بذلك للتو , لما كنت حزرت أبدا .... خاصة و أن دخوله الساحر الى البيت تسبب في بث ذبذبات طاقة سلبية مما جعل الجو مكهربا ..... )
عقدت حاجبيها و هي ترفع يديها لتقول
( ماذا تقول ؟!! ....... اركل الكرة و أنت صامت يا محمد رجاءا .... )
ركل اليها الكرة ... لكنها كانت قد اصيبت بالرعب منها فضمت كفيها و هي تنكمش على نفسها في اللحظة الأخيرة ... هاتفة بذعر
( " يا ماما " !! ....... )
فضربت الكرة ذراعها مما جعلها تتأوه عاليا و هي تدلك ذراعها قافزة من شدة الغضب و الألم ...
بينما انحنى محمد على نفسه ضاحكا بشدة وهو يضرب ساقه بيده غير قادرا على التوقف ...
ثم قال بهيستيريا ضحك و عيناه تدمعان
( ياللهي !! ....... أنتِ أسوأ من تلك الفتاة جودي ...... )
وقفت كرمة مكانها عابسة و هي تدلك ذراعها ... ثم قالت بغضب
( و من هي جودي تلك أيضا ؟!! ........... )
ارتبك محمد قليلا ... بدرجة غير ملحوظة الا لعين خبيرة .... لكنه هز كتفه وهو يقول بلامبالاة
( فتاة جديدة التحقت بصفنا مؤخرا ..... لكنها فاشلة مثلك بدرجة تثير سخرية الجميع منها .... انها مدللة و انثوية جدا ... تكاد تكون مصنوعة من البسكويت مثلك .... و كلما أخافها شيء تهتف بكلمة " ماما " مثلك تماما .... )
توقفت كرمة عن تدليك ذراعها و هي ترفع احدى حاجبيها لتقول باهتمام
( حقا !!! ...... و هل أنت تسخر منها مثل الجميع ؟!! .... )
هتف محمد عاقدا حاجبيه مدافعا
( كلا بالطبع ....... لقد أسقطها بالأمس مجموعة من الأولاد ... فجلست على ركبتيها تبكي و هي تغطي وجهها بسذاجة .... منتهى السذاجة مما جعلهم يزيدون الضحك ..... لكنني أرغمت نفسي على لملمة أغراضها و مساعدتها حتى وقفت ...... أنا أكره تلك التصرفات الأنثوية الغبية جدا ..... )
ابتسمت كرمة ببطىء و هي تنظر الى ذلك الصبي الوسيم .... ياللهي انه وسيم للغاية بشعره الأسود الناعم و بشرته البيضاء المشربة بلفحة الشمس .... و فكرت بأنه يوما ما سيكون شديد الوسامة بدرجةٍ ستوجع معها قلوب الفتيات .... كوالده تماما !! ...
اختفت ابتسامة كرمة و أجفلت بشدة و هي تصل بتفكيرها عند تلك النقطة ..... انها تتغزل بجمال زوجها !! ... بإمكانها أن تتأمله براحة و حرية .... بقميصه أو حتى بدون ..... بامكانها أن تتخلل خصلات شعره الناعم بأصابعها و تتمتع به .....
فغرت شفتيها قليلا و هي تتنفس باضطراب ..... ووجهها يحمر بإثارة غريبة ....
لقد شعرت بالغيرة الطفولية للحظة من تلك الفتاة الصغيرة التي أمسك محمد بيدها كي ينهضها ... لتجد نفسها فجأة تتذكر رجائها الصامت في السيارة لأن يتلمس حاتم نبضها !! .....
رفعت كرمة يدها كي تتلمس وجنتها الملتهبة .... و يدها الأخرى كانت تلوح امام وجهها علها تحصل على بعض النسيم الذي يبرد من اشتعال وجنتيها ....
ضحكت قليلا بغباء ودون صوت و هي تشرد بعينيها بعيدا للحظات .... ثم لم تلبث أن انتبهت لنفسها و هي تتنحنح مجلية نفسها المتحشرج ....
وضعت كرمة يديها في خصرها و هي تقول ببساطة
( أنت معجب بها ............ )
رفع محمد وجهه اليها وهو ينظر اليها بارتباك ... ثم لم يلبث أن هتف باستنكار
( لا !!! .......طبعا لا أنا أبغض الضعف و الدلال التافه ...... لقد أخبرتك للتو .... أنا أكره التصرفات الأنثوية .... بصراحة الفتيات كائنات لا فائدة لها في المجتمع و من الأفضل لو قمنا بحذفهن ...... من الحياة عامة ... )
كان ينطق الكلمة الأخيرة بصوت خافت حتى اختفى صوته بتوتر و هو يذهب كي يلتقط الكرة ....
بينما قالت كرمة بهدوء مقلدة لهجته
( كنت لأصدقك ..... لولا حركات جسدك المتوترة ... و اهتزاز حدقتي عينيك بحول مفاجىء ..... و صوتك الرفيع الذي أوقف شعر رأسي ...... )
عبس محمد وهو يقول بجدية
( لا أجد هذا الأمر مضحكا ....... أنا لست معجبا بها و الفتيات عامة يثرن غضبي بشدة .... )
قالت كرمة متخصرة و هي تمايل بدلال قليلا
( أنت تزيد التأكيد بدرجة مبالغ فيها ...... أداءك رديء جدا بصراحة ..... )
هتف محمد بغيظ
( اهتمي بمشاكلك مع حاتم و اخرجي من رأسي .......... )
رفعت احدى حاجبيها و هي تقول
( هل هي جميلة ؟!! ........... )
هتف محمد قائلا بقوة
( مطلقا ..... إنها تشبه الكتكوت منزوع الريش ....... )
تأوهت كرمة و هي تقول بأسف
( أوووه ...... يا صغيرة و مسكينة ... الا تمتلك شعر ؟!! .... لابد أن هذا مثير للشفقة جدا .... )
هتف محمد سريعا
( شعرها يتجاوز خصرها ..... المقص لم يمسه يوما ....... )
تألقت ابتسامة كرمة و هي تراه يرتبك و يصمت ... ثم قال بخشونة
( سمعتها تقول ذلك ............ )
سألته كرمة ببساطة مدعية قلة الإهتمام
( ربما ليس ناعما !! ......... )
أجابها بوجوم
( لم ألمسه ...... لكنه يبدو كالحرير ..... )
صمت قليلا ثم تأوه وهو يقول بخفوت
( و رائحته !!! ...... )
رفعت كرمة احدى حاجبيها بارتياب و هي تقول
( رائحته ؟!!! ....... هل أنت واثق بأنك ساعدتها على النهوض فقط ؟!! ....... )
قال محمد بتذمر
( رائحته قوية جدا ...... ماذا تفعلن كي تكون رائحة شعركن بتلك القوة ؟!! ..... نحن أيضا نتحمم يوميا و مع ذلك لا تبدو رائحة شعورنا بمثل تلك القوة !! ..... )
لحق حاجب كرمة بالآخر ارتفاعا و هي تسمعه متوجسة ...
هذا الولد متحرش صغير ..... لا تفسير آخر ..... هل كل الأولاد في مثل سنه يلتفتون الى مثل تلك التفاصيل , ام انه يعاني من خلل ذكوري انحرافي مبكر ؟!! .....
عضت كرمة على جانب شفتها السفلى بخبث .... ثم قررت أن ترحمه من ارتباكه حاليا على أن تطرق الى الموضوع لاحقا ... قبل أن تقع الفأس في الرأس ....
الولد في سن خطر و يجب أن تمارس سلطتها كزوجة أب متسلطة متحكمة .......
ثم قالت بهدوء
( هيا .... اركل الكرة , لكن رجاءا حكم ضميرك اولا قبل أن تفعل ..... )
و ضع محمد الكرة أرضا ... ثم ابتعد خطوة ليركلها بقوة ... فاندفعت لمعدتها مجددا حتى سقطت أرضا على ركبتها متأوهة و هي تضم ذراعيها الى بطنها هاتفة بغضب
( سأمزق كرتك تلك ...... سأمزقها بأقدم سكين بارد ...آآآآه .... )
جرى محمد اليها ثم انحنى جالسا القرفصاء الى جوارها وهو يربت على وجهها قائلا بقلق
( هل أنتِ بخير يا كمرة ؟!!! ....... قد تكوني مصابة بنزيف داخلي و قد نفقدك في أي لحظة .... )
رفعت اليه وجهها المتألم الغاضب .. ثم قالت بحقد من بين أسنانها
( يا رب ... يا رب تقفد كرتك أولا تحت اطارات حافلة هوجاء ....... دعوة من عمق قلبي .... )
ابتسم محمد وهو يقول
( أنتِ حقودة جدا ....... بالمناسبة , لم تخبريني بعد بالمصيبة التي فعلتها ..... )
اختفى غضبها قليلا .... و مكثت أرضا على ركبتيها كتلك الفتاة جودي و التي لم تراها .... بينما ملامحها اكتست حيرة و حزنا ... ثم قالت متنهدة
( أتتني فرصة للعمل بالخارج .......... )
لم تتوقع ان تبهت ملامح محمد وهو ينظر اليها بوجوم صامت تماما .... ثم قال بصوت أجوف
( هل ستتطلقان ؟!! ....... بهذه السرعة ؟!! .....)
نظرت اليه كرمة متفاجأة بردة فعله ... لكنها قالت بحيرة
( لا طبعا ....... ما الذي جلب الفكرة لرأسك ؟؟!! ...... انها مجرد فرصة عمل , لأسافر و آتي اليكما في الأجازات ...... )
أومأ محمد برأسه متفهما .... الا أن الفتور و الوجوم لم يغادرا وجهه وهو يقول بلا تعبير
( جيد ........ )
نظرت اليه كرمة بدهشة وهي تراه يخفض رأسه يتلاعب بالكرة بين يديه وهو جالسا القرفصاء أمامها .....
و ببطىء بدأت ابتسامة دهشة و حيرة ... تتجلى على شفتيها تدريجيا حتى شملت وجهها كله بإشراق و هي تنظر الى وجهه المطرق .... المحبط ! ....
كانت تبدو في تلك اللحظة جميلة مشرقة كما لم تبدو منذ سنواتٍ طويلة .... جدا .....
ضربته فجأة على ذراعه و هي تقول
( اسمع ........ أنا أتضور جوعا , هيا لنعد الغذاء سريعا قبل أن يخرج والدك من الحمام صارخا طلبا للطعام و نحن في غنى عن المزيد من غضبه في تلك اللحظة ..... )
قال محمد بفتور دون أن ينظر اليها
( حاتم لا يصرخ بسبب الأكل ..... قد يصرخ لأشياء أخرى , لكن ليس الأكل ... )
رفعت حاجبيها و هي تقول بامتعاض
( أخبرني عن ذلك ...... فلقد بدأت أكتشف أنه من النوع الذي يصرخ ..... )
صمتت ثم نظرت اليه بسعادة غريبة غير مفسرة و قالت ببراءة و دلال .... و لمحة غيرة من المدعوة جودي
( حسنا ..... هيا قم و ساعدني على الوقوف ...... من فضلك يا محمد )
كانت كلمة " من فضلك " تقطر عسلا من بين شفتيها و هي ترغب بالشعور بشهامة ذلك الولد الوسيم موجهة اليها وحدها .... و لتنتظر المدعوة جودي قليلا ....
نهض من مكانه ... فمد لها يده , فأمسكتها بسعادة وهو ينهضها واقفة ببساطة .....
فجذبت رأسه اليها وهي تعبث بشعره بمرح قائلة
( شعرك جميييييل ....... و أكاد أراهن أنه أجمل من شعر المدعوة جودي ألف مرة .... )
تذمر محمد وهو يجذب رأسه من بين يديها ... لينفض شعره الناعم الذي تراجع للخلف و الأمام بنعومةٍ و حيوية ... ثم هتف بغيظ
( توقفي عن حركات الفتيات تلك... لا أطيقها ... , ثم توقفي عن ذكر جودي , لأن اسمها يثير أعصابي ... )
ابتسمت كرمة ابتسامة واسعة بخبث و هي تجذبه اليها تتأبط ذراعه مفكرة دون صوت
" اسمها اللذي يثير أعصابك حقا ؟!! .... أم رائحة شعرها ؟!! ..... فعلا من شابه أباه فما ظلم ! "
وصلا الي المطبخ ..... لكنها تسمرت مكانها و هي ترى أمينة واقفة به تعد اللمسات النهائية من طعام الغذاء ... فقال محمد بهدوء
( آآه ..... نسيت أن أخبرك , مفاجأة ..... لقد عادت أمينة اليوم ..... )
همست كرمة بوجوم و هي تنظر اليها
( حقا !! ........... ما أجمل ذلك ! .... )
رفعت أمينة رأسها تنظر اليهما لتقول
( سيدة كرمة ..... مرحبا , أرجو أن تكون حالتك قد تحسنت ...... )
رفعت كرمة حاجب شرير و هي تقول بصوت خفيض
( أي حالة بالضبط !! ............. )
نظرت أمينة الى ملامح الشر على وجهها ... فقالت بهدوء
( لا شيء ...... ارى أنكِ في خير حال ...... سررت برؤيتك مجددا .... )
ثم التفتت الى ما تفعله و هي تتذمر من بين أسنانها
" أي حالة !! .... لما لا تخبرينا انتِ عن البكاء الهيستيري و حالة النكد ... و هذيانك المستمر ليل نهار ...
بعشر سنوات ... عشر سنوات .... اهيء اهيء اهيييييء ... عشر سنوات ..... "
اقتربت كرمة عدة خطوات و هي تميل برأسها بينما يبدو على وجهها ملامح التهديد قائلة
( هل تكلمينني يا أمينة ؟!! ........ )
رفعت أمينة وجهها الى كرمة و قالت ببراءة
( لا سيدة كرمة .... انا أدندن فقط أثناء عملي ...... )
نظرت كرمة بغضب الى ما تفعله أمينة .... ثم قالت بقوة
( لم يكن هناك داعٍ لأن تتعبي نفسك يا أمينة ...... فأنا كنت سأحضر الغذاء ... )
نظرت اليها أمينة ... ثم الى ساعة المطبخ .... فقالت بهدوء
( كنتِ ستبدئين الآن ؟!! ....... لقد بحثت في المبرد علني أجد طعام سبق اعداده فلم أجد .... لكن لا تقلقي . جيد انكِ لم تفعلي ..... هذا عملي و قد حضرت للشباب ما يحبانه ...... )
كان تنفس كرمة يزداد سرعة حتى كادت أن تنفث نارا ..... بينما قالت بقوة
( لكن كنت أود لو أعددت اليوم بعض الخضراوات مع شرائح لحم .......... )
قالت أمينة باستنكار
( و هل هذا طعام بشر ؟!! ..... اذهبي أنتِ غيري ملابسك ..... ثم تعالي لتأكلي بصمت .... )
اتسعت عينا كرمة بذهول .... لكن أمينة تابعت بخبث تصحح عبارتها
( فلا داعي لقلقك على تعبي ...... هذا عملي سيدة كرمة .... )
قالت كرمة و هي تراها تجهز وعاء السلطة ....
( أنا سأعد السلطة ...... شكرا لكِ .... )
لكن أمينة قالت ببساطة و جدية
( لا بل سأعدها أنا ........... )
جذبت كرمة الوعاء منها بقوة و هي تهتف بصوتٍ عالى
( بل أنا من سأعدها ....... )
ساد السكون المطبخ بينما جذبت كرمة الخيار واحدة واحدة بقوة و هي تلقيهم في الوعاء .... ثم وقفت تتنفس بسرعة وعيناها تبرقان بانتصار ....
بينما كانت أمينة تنظر اليها و هي هوجاء الشعرتتنفس بسرعة .... و أول زرين من قميصها مفتوحين .... و تقف على أرض المطبخ حافية .....
رفعت أمينة حاجبيها و هي تقول ببطىء و حذر كمن يعامل مريض نفسيا
( حسنا ....... لا بأس ..... لا بأس ..... لا شيء يستدعي العصبية ..... خذي هاتين الجزرتين أيضا )
استدارت كرمة بعد أن حدجتها بنظرة انتصار و تشفي ... رافعة ذقنها و الوعاء تحت ذراعها ....
لكن ما أن استدارت .... حتى تسمرت مكانها و هي ترى حاتم و محمد يقفان و ينظران اليها بدهشة و ريبة ... بينما محمد يمسك بجزرةٍ حال اندهاشه من متابعة أكلها !!
تقدم حاتم خطوة وهو يقول بخفوت
( لماذا تصرخين يا كرمة ؟!!! ......... )
توترت كرمة و التوت أصابع قدمها تحتها كعادتها دائما حين ترتكب ذنبا .... لكنها قالت بخفوت
( لم أكن أصرخ ....... كنت أصر على أمينة فقط كي تستريح قليلا .... )
ثم تقدمت الى الطاولة ووضعت الوعاء عليها بعنف زافرة بقنوط .... ها هي الآن تبدو مجنونة في نظره ....
اقترب محمد منها بحذر ليقول بخفوت وهو يمد الجزرة في يده اليها
( خذي هذه كذلك ...... لم أقصد سرقتها , كنت جائعا فقط ...... )
رفعت عينيها اليه لتهمس بأسى
( توقف أرجوك ....... ليس وقتك ..... )
لكنها جذبت الجزرة منه كي تقضمها بقوةٍ و يأس ..... و أثناء مضغها قالت بوجوم
( سأذهب لآخذ حمامي ..... ابدأوا أنتم رجاءا ..... )
ثم جرت سريعا و هي تأكل الجزرة بعنف .....
ارتمت على سريرها جالسة بقنوط ..... محدقة في البساط أمامها , لكنها انتفضت حين فتح الباب فجأة لتجد حاتم يدخل و يغلقه خلفه ...
فأطرقت بوجهها من نظرته القاتمة المتفحصة لها ..... الى أن قال أخيرا بجفاء
( هل يمكن أن أعرف سبب استعراض العضلات الذي قمتِ به منذ لحظات .... )
همست كرمة دون أن ترفع وجهها
( أرجوك يا حاتم ........... )
لكنها لم تجد رجاءا معينا كي تذكره ..... فصمتت ....
كان حاتم ينظر اليها بصمت , و هو لا يزال غاضبا من اقتراحها المتخلف .... صحيح أنه لن يقبل حتى ولو اختارت السفر و قررت التحرر من زواجهما .... لن يكون بمثل هذا التحضر .... لذا فبعدها عنه ليس ما يقلقه .... لأنه ليس خيارا من الأساس ....
لكن ما يثير جنونه هو أنها مستمرة في محاولة الهرب منه .... بعقلها إن لم يكن بجسدها ......
أما قلبها فمفقود الأمل فيه ....
تنهد حاتم بقوة .... ثم قال بهدوء محاولا السيطرة على مشاعره الجامحة
( كرمة ..... هل يضايقك وجود أمينة بالبيت ؟؟ ..... )
رفعت وجهها الشاحب تنظر اليه بعينين واسعتين جميلتين يعشقهما .... و قالت بسرعة و بخفوت
( لا ....لا ... لا بالطبع , أنا أعرف أنكما بالنسبة لها في مقام ولديها تماما ...... )
قال حاتم بصوت متفهم
( هذا صحيح ..... لكن لا يعني بالضرورة أن تكوني مرتاحة لها ..... فهي انسانة غريبة عنكِ ... لذا سأسالك مجددا .... هل يضايقك وجودها ؟؟ ..... )
همست كرمة بخفوت
( لا ..... لا .... صدقني ...... )
نظر اليها يدقق النظر بها و بدا غير مقتنع .... فقال
( اذن ربما من زيادة وجودها في المطبخ ؟؟ ...... يمكننا وضع القواعد , فأنتِ زوجتى و لك الحق في ادارة البيت ..... )
ارتجفت شفتيها و هزت رأسها نفيا لتهمس بصوت ناعم حزين
( لا ...... لا ...... ليس المطبخ هو السبب .... )
عقد حاتم حاجبيه ... اذن هناك سبب ... فاقترب منها ببطىء وهو يقول بصوت خافت
( اذن ما الأمر ؟؟ ........ )
رفعت كرمة وجهها اليه و قالت بصوت طفولي خافت حزين
( أعتقد أن السبب هو ....... محمد .... )
توقف حاتم مكانه و ازداد انعقاد حاجبيه ... وهو يقول بحيرة
( محمد ؟!! ...... لماذا ؟!! ..... )
ابتسمت كرمة بشفتين ترتجفان و عيناها تدمعان لتهمس باختناق
( أعتقد أنني .... أشعر بالغيرة .... على محمد , .... هل يجعل ذلك مني مثيرة للشفقة بشدة ؟؟..... كوني لم اعرفه سوى من فترة لا تذكر ؟؟ ..... )
ضحكت قليلا و هي تمد يدها لتمسح دمعة تعلقت بطرف عينيها .... بينما تأوه حاتم بصمت وهو ينظر اليها نظرة كادت أن تصهرها شوقا .... ثم قال بخفوت بعد عدة لحظات
( لا ........ بل يزيد من شدة عشقي لكِ .... )
رفعت وجهها الشاحب و هي تنظر اليه بعينين متسعتين ..... لتراه ينظر اليها بوجه حزين جامد لا يناسب ما نطق به للتو .... فبللت شفتها بلسانها و هي تشعر بنفسها ترتبك و تتلون ..... لكن ....
لكنها فوجئت بنفسها لم تعد تشعر بالنفور من اعترافه كسابق .....
عادت لتضحك قليلا بارتباك و تمسح دمعة تسللت على وجنتها بخبث .... ثم قالت بعصبية
( اشعر بنفسي غبية جدا .......... )
حينها لم يستطع مقاومة الإغراء أكثر و هو يندفع اليها ليجذبها من كتفيها بقوة حتى أوقفها على قدميها ليهبط اليها بوجهه مقبلا كل ما يطاله من ملامحها .....
عينيها .. وجنتيها ... زاويتي شفتيها ...
حتى و هي مطرقة الرأس بارتباك و خجل ... كان يستطيع أن ينهل من ملامحها المستسلمة ...
و مرت بهما عدة دقائق وهي واقفة بين ذراعيه مستسلة لقبلاته القوية لوجهها ... لا يقطع الصمت سوى صوت تنفسهما المتحشرج اللاهث ...... و ما أن أبتعد عنها أخيرا حتى كان كلاهما يتنفس بصعوبة بينما وجهها مشتعل احمرارا بشدة .... على الرغم من أنه لم يقتنص شفتيها فعليا ......
قال حاتم أخيرا بصوتٍ أجش خشن
( هيا ..... لتأخذي حمام و تستعدي للغذاء , ...... )
ثم ابتعد عنها قبل أن يستسلم لجنونه حاليا ... و يترك الغذاء و حينها سيعرف اهل البيت بما يفعلانه ....
اتجه الى الباب بسرعة , لكن قبل أن يغادر ... استدار لينظر الي رأسها المطرق بشعرها المجنون المتراقص و قال بهدوء
( لكن لا تكثري من الأكل كثيرا ..... اتركي مكانا بمعدتك حين نذهب الى فريدة اليوم .... )
رفعت كرمة وجهها الشاحب اليه و هي تقول بدهشة
( من فريدة ؟!! .......... )
رد حاتم ببساطة
( ابنة خالتي ....... لقد وضعت مولودا منذ فترة قريبة و سنذهب لنهنئها ... و ستكون فرصة كي يتعرف عليكِ باقي أقارب أمي رحمها الله ...... )
كانت تنظر اليه فاغرة الشفتين ... متسعة العينين .... و كأنها تستمع اليه من كوكب آخر !!
أقارب !!! .... أي أقارب !!! .... هل يمتلك أقارب !!! .... لا تريد أقارب !!!!
لا تريد المزيد من الأقارب ...... لو كانت تعلم أنه يمتلك اقارب لما تزوجته منذ البداية .....
هتفت كرمة فجأة بهلع
( لا أريد يا حاتم ..... أنا .... أنا .... احم احم .... أشعر أنني سأصاب بالسعال و لست في حال جيد .... )
استدار اليها ... يدقق النظر في وجهها الكاذب ... الجميل بكل ملامحه و كذبه ...
لكنه قال بجفاء دون أن يسمح لنفسه بالتعاطف معها ...
( بل سنذهب يا كرمة ...... لقد كانوا غاضبين بسبب زواجنا السريع و عدم دعوة احدهم ..... )
" أقارب ... و غاضبين أيضا !!!! .... إنه كابوس !!! "
رفعت كرمة وجهها و هي تنظر اليه متوسلة ... لكن توسلها لاقى ملامح جافة وهو يقول متابعا
( هيا ..... لا تتأخري ........ )
ثم خرج .... تاركا اياها في الغرفة بوجهٍ شاحب .... تتسائل عن موعد انتهاء هذا اليوم .... و انتهاء محاكمة الناس لها .....
.................................................. .................................................. .....................
وقفت في المصعد تتطلع الى الارقام المضيئة بوجهٍ شاحب .... بينما كانت قبضة يدها تنقبض بتوتر و تشنج ...
لا تعلم أن حاتم كان يراقبها بصمت .... مدركا لكل لحظة توتر تمر بها .... من شحوب وجهها و اتساع عينيها
كانت تبدو الليلة ذات جمال خاص و هي ترتدي ثوبا كلاسيكيا لونه ازرق داكن .... مزين من الوسط بشريط حريري يبرز نحافة خصرها ... و يبرز امتلاء وركيها الفاتن ....
يكاد يتعدى ركبتيها طولا .... و على الرغم من الجوارب السوداء التي ترتديها , ....
الا أنه كان يشعر بالضيق من هذا الفستان بشدة .... فهو يجعلها أنثوية بدرجةٍ مهلكة .... ذات مقومات جبارة!!! ....
انعقد حاجبيه و هو يشتم نفسه على عدم منعها من ارتداء هذا الفستان قبل نزولها ... على الرغم من أنه لم يكن كاشفا ... الا أنه كان مهلكا ... و كان عليه أن يثق بحدسه ....
تكلم أخيرا كي يخفف من شعوره بالضيق من جمالها الأخاذ ....
( كرمة ........ هل أنتِ بخير ؟؟ ...... تبدين شاحبة )
أجفلت كرمة قليلا عند سماع صوته .... فأخفضت نظرها من الأرقام المضيئة , الى وجهه ....
و كم بدت طفولية بريئة و تحتاج لمن يمسك بيدها .....
لكنها أخذت نفسا مرتجفا و هي تبتسم قليلا لتهمس بصوت خافت
( أنا بخير ....... لن أخذلك , لا تقلق .... )
ازداد انعقاد حاجبيه قليلا ... وهو يقول بوضوح
( لست قلقا .........)
عضت على شفتها قليلا ... ثم أعادت النظر اليه بصمت
انه يبدو شديد الوسامة ... و الرقي .... جاذبيته قادرة على اغراق كل انثى متواجدة الليلة ....
و هذا الxxxx الذي دخلاه للتو , شديد الرقي ايضا .....
لابد أن أقاربه يماثلونه رقيا ..... لذلك سيكون الحكم عليها أفظع ....
رجل مثله كان بإمكانه الزواج من فتاة بكر و من أرقى العائلات لو أشار بإصبعه .....
بينما هي .......
عند الزواج لن ينظر أحد الى مؤهلاتها أو الإنجاز الذي حققته بحياتها العلمية و العملية ....
تبقى أنها مطلقة .... و خريجة دار رعاية ....
لقد عانت مع أهل محمد كثيرا ..... على الرغم من أنها بذلت الكثير كي تعلو شأنا ... لتمحو نظرتهم الدونية لها ....
فكيف سيكون حال أقارب حاتم ؟؟ ......
زفرت نفسا مرتجفا .... لقد اهتمت بمظهرها بشكلٍ مبالغ فيه .... عله يكفي ..
ربما لو كانت قد ارتدت شبكتها الماسية التي أشتراها حاتم ... كان ليكون مظهرها أفضل قليلا ....
لكنها لا تحب البهرجة .... خاصة أن المناسبة عائلية بسيطة ....
رفعت يدها تحك جبهتها بتوتر ..... تبا لهذا المصعد ... لماذا لا يصل ؟!! .... هل هو مسافر للمريخ ؟!! ....
مد حاتم فجأة ليقبض على أصابعها التي تلامس جبهتها .... فرفعت نظرها اليه متسائلة ... الا أنه اكتفى بأن ابتسم لها ابتسامة أرسلت الرعشة الى أوصالها ....
و طال بهما النظر .... الى أن شعرت بالحرج , فتعمدت خفض نظرها الى محمد الذي كان يعدل من ياقة قميصه الأبيض في مرآه المصعد ....
فابتسمت من خلفه و هي تمد يدها لتعبث في شعره المصفف بعناية ... فتذمر بخشونة قائلا
( توقفي عن ذلك .... لقد استغرق مني تثبيت تلك الخصلة عشر دقائق كاملة بالمثبت ...... )
قالت بصراحة
( شعرك جميل و لا أستطيع أن أمنع نفسي ....... )
قال محمد بجدية
( اجعل زوجتك تتوقف عن ذلك ......... استخدم سلطتك ... )
قال حاتم بنفس الجدية
( نعم توقفي عن ذلك ........... )
نظرت اليه كرمة بدهشة ... فقال بخفوت و ابهامه يداعب نبضها
( فأنا أيضا أغار .......... )
احمر وجهها بشدة .... لكن الإبتسامة وجدت طريقها سريعا الى شفتيها , فقال محمد ببلادة
( لقد ثبتك بكلمة ....... كم أنتن ساذجات !! ..... )
ضربه حاتم على مؤخرة رأسه وهو يقول بجدية
( احترم زوجة والدك .......... )
مط محمد شفتيه .. بينما ضحكت كرمة برقة , الى أن انتفضت ما أن توقف المصعد و فتح أبوابه ...
شعر حاتم مباشرة بتشنجها فنظر اليها و هو يضغط على كفها بقوة ليخرج معها ...
تلكأت كرمة قليلا الى أن انطلق حاتم الى بيت أقربائه ... فتوقفت و ارتفعت قليلا الى حاتم الذي اخفض رأسه اليها تلقائيا كي يسمع ما تريد قوله ... فهمست له بإرتجاف
( حاتم ...... هل يعلم أقاربك أنني .......... كنت .... بدار ..... )
رفع يده الحرة ليضعها على شفتيها ليسكتها وهو يهمس
( شششششش ........ )
همست تئن تحت يده
( لكن ................ )
قال حاتم بصوتٍ خافت لكنه قوي ....
( لا لكن ..... هذا شيء يخصنا , ... الا لو أردتِ الفخر بما أنجزته , فحينها سأكون أكثر من فخور بكِ .... )
كانا قد وقفا أمام باب الشقة ... فهمست كرمة بيأس
( حاتم توقف عن ذلك الكلام ........ )
قال حاتم بهدوء خافت
( أقسم لكِ ..... أنني أزهو بكِ كأكثر من أي شيء أنجزته بنفسي .... أنتِ شيء نادر ....أنا و أنتِ حققنا نفس النتائج تقريبا ..... على الرغم من كون حياتي كانت أسهل بكثيرمن حياتك .... فهل اقتنعتِ ؟؟ .... لقد أقسمت لكِ ... )
كان وجهها مرتفعا اليه بابتسامة حزينة سعيدة ... بتناقض غريب ... ووجه منخفض ليها بنظرةٍ باتت تعرفها جيدا ... و لم يدرك كلاهما أن الباب انفتح أمامها و دخل محمد مسرعا ... قبل أن يقاطعهما صوت أنثوي رقيق
( حسنا عرفنا بأنكما لا تزالان بشهر العسل يا سيدي ..... لكن لا داعي لتثير احقادنا أكثر ..... )
انتفضت كرمة و هي تنظر أمامها لترى شابة من عمرها تقريبا ... جميلة ذات شعر بني أشقر و عينان خضراوان ... تبتسم لهما بمودة ...
فتابعت تقول
( لكن والله معك حق تنسى الباب و العالم كله و تلك الأنثى المتفجرة بين ذراعيك ...... )
احمر وجه كرمة و ارتبكت ... بينما قال حاتم عابسا
( فريدة .... لو ستبدأين بسخفك , فسنرحل مباشرة ....... )
عبست تقول
( قل أنك أنت من تتعجل الرحيل و تبحث عن حجة !! .......... )
قال حاتم بملل
( اليس من المفترض ان تكوني مرتاحة بالفراش او شيئا من هذا القبيل بدلا من أن تفتحي الباب بنفسك و تذلي الضيوف قبل السماح لهم بالدخول !! ..... )
ردت فريدة و عيناها تتأملان كرمة بفضول
( حاتم ...... لقد مضى شهر على ولادتي ...... )
انبعث صوت رجولي من خلفها يقول
( ليس معقولا يا فريدة ..... انت تمكثين نصف ساعة كاملة عند فتح الباب كل مرة ... ارجوكِ ارحمي الرجل و دعيه يدخل .... )
برز زوجها من خلفها جذاب ... وودود الشكل و الإبتسامة ... ليسلم عليهما , ولولا أن يد حاتم اليسرى كانت ممسكة بكفها اليمنى بتملك ... لكانت مدت يدها للرجل الذي تبدو عليه الطيبة .... الا أنه لم يلحظ تمسك حاتم بيدها ... و ربت على ظهره محييا يدعوهما للدخول
لكن و ما أن تحركا خطوة حتى اندفعت فريد تمسك ذراع حاتم و تستطيل على أطراف اصابعها لتهمس في أذنه بجنون مرح أنثوي
( إنها رائعة ........ يا ابن المحظوظة !! ..... )
القى حاتم نظرة من طرف عينيه الى كرمة ... ثم همس بشرود
" نعم أنا محظوظ ..... لكن و كأن الحظ يسخر مني ...... "
خلال الساعة التي تلت .... استطاعت كرمة ان تندمج بين هذا الجمع الغفير و الذي هو اكبر من قدرة الشقة على التحمل ...
كان الجميع يتكلمون و يضحكون في وقتٍ واحد ... مما حال دون مواكبتها لهم ...
لكنها كانت مندمجة ... تبتسم هنا ... و تسمع هنا ....
لم تشعر بنفس الخوف الذي كانت تشعر به عند دخولها .... ربما لأنه لا أحد يعلم تفاصيل عن حياتها السابقة ...
و كانت عيناها تشردان معظم الوقت على فريدة و زوجها ....
فقد كان من الواضح للأعمى بأنهم مغرمان ببعضهما حد الجنون .... كلما مرت به و هي تقدم شيئا للضيوف , كان يضم خصرها اليه ... و يسرق من خدها قبلة ... فتبتسم له بخجل ..
لم تدرك كرمة ان شرودها الحزين ... كان يطعن قلب حاتم الذي كان يراقبها من بعيد .....
كان جامد الملامح ... بعينين حزينتين , وهو يعلم بأنها تفكر برجلٍ آخر في تلك اللحظة .....
لقد ثار غضبا اليوم من موضوع مراسلتها لمراد .... لأنه استطاع الإمساك بخطىءٍ لها ....
لكن الآن بأي حق يمكنه معاتبتها و الصراخ عليها .....
يصرخ بها كي لا تفكر به ؟!!! ...... يصرخ بها بأنه يشعر بالخيانة التي تفوق قدرته على التحمل ؟!! ...
لطالما كانت الغيرة على كرمة شعورا منافيا للمنطق .... منذ بداية معرفته بها ...
حين كان يغار عليها من زوجها .... و لا يملك حيلة للسيطرة على هذا الشعور البغيض ....
و الآن ها هو الحظ يسخر منه .... فكرمة أصبحت ملكه ... زوجته هو ... وهو لا يزال يغار عليها من نفس الشخص ..... ربما كان هذا هو عقابه الالهي على حبِ امرأة متزوجة .....
ضاقت عيناه بأسى مع ضيق عينيها الحزين و هي تلمح فريدة و زوجها يدخلان غرفتهما ... فانتفض قلبه بقسوة ....
و دون أن يدري اتجه اليها ليجلس على ذراع مقعدها حتى انتبهت اليه أخيرا ... فابتسمت له ...
و ما هي الا لحظات حتى خرج الزوجان ... و بين ذراعي فريدة تسكن لفة بيضاء صغيرة عمرها ثلاثين يوما .. لاقت التهليل و الترحيب من الجميع ....
ابتسمت كرمة بتحفظ و هي ترى فريدة تقترب منهما كي تناولها الى حاتم قائلة برقة
( أنتما الإثنان من لم ترياها بعد في العائلة كلها ..... هيا سلما على " نغم " )
تلقاها حاتم بين ذراعيه وهو يتأوه قائلا
( ياللهي ...... ما أجملها !! .... كنت قد نسيت مدى روعة هذا الحجم الصغير .... )
حرر احدى يديه .... ليخرج من جيب سترته سلسالا ذهبيا رائعا .... وضعه برفق حول رأس الصغيرة التي تململت و فتحت عينيها الواسعتين له ....
حينها أخذتها فريدة منه بحرص ... و السعادة و الفخر باديان عليها ... ثم قربتها من كرمة و هي تقول بمودة
( هيا احمليها يا كرمة ....... )
أجفلت كرمة ... و ارتبكت و هي تنظر للصغيرة بفزع .....
لم تكن معتادة على ذلك ....
لا تجد في ذاكرتها المريضة سوى استحالة قبول أي من شقيقات محمد بالسماح لها كي تحمل أحد الرضع و كانت تراههم جميعا بعينيها وهم يبسطون كفوفهم في خمسةٍ مفرودة كي تقيهم من حسد كرمة بما أنها لم تنجب ...
و كل مرة كانت ترى تلك الكف الخماسية الصريحة .. كانت تشعر بلكمةٍ في صدرها .... لذا اعتادت البعد عن حمل الرضع منذ سنواتٍ بعيدة ....
قالت كرمة بابتسامة مهتزة خائفة
( لا ..... لا ...... لا أجيد حمل الرضع ... حقا ....... انها صغيرة جدا و أنا أخشى أن أوقعها ..... لكنها جميلة حقا , بارك الله لكِ بها يا فريدة ...... )
لكن فريدة لم تستسلم و هي تضعها برفق بين ذراعي كرمة اللتين تلقفتاها سريعا .. و قالت
( دعكِ من هذا ...... لن يحدث لها شيء )
نظرت كرمة بهلع الى الصغيرة حمراء البشرة بين ذراعيها ... و هي تتململ بسبب تشنج كرمة الملحوظ ...
لكن مرت لحظات قليلة معدودة و كرمة تنظر الى عيني الصغيرة ... و فمها الشبيه بالفراولة و هي تبتلع الهواء .....
ففغرت شفتيها بتأوه مذهول .... و سرعان ما استرخت ذراعيها ... و شعرت بذلك الدفىء الساحر يسري في جسدها .... و هي تتحسس ذلك الجسد الصغير اللين و الدافىء كمخبوزةٍ طازجة خارجة من الموقد لتوها ...
فهمست كرمة بذهول متأوه
( ياللهي ........ )
و سرعان ما ضمتها الى صدرها ببطىء شديد و هي تغمض عينيها بقوةٍ تستشعر تلك الضمادة الدافئة المداعبة لنزيف صدرها .. فهمست مجددا بنشيج خافت
( يا ربي ما أروعها ...........)
لم تدرك أنها كانت تبكي بصمت متلذذة بتلك اللحظة قبل أن تنتهي ... و همسها لا يتوقف
( يا ربي ........ما ذلك الإحساس ؟!!!... .. )
دمعت عينا فريدة بغزارة ... بينما ضمها زوجها اليه وهو يبتسم بتأثر...
أما حاتم .... فقد شعر في تلك اللحظة بغصةٍ في حلقه تكاد تزهق روحه .... حبيبته المسكينة تتألم .... وهو لا يملك دواءا لألمها .....
انخفض بعض الصخب ... و الجميع ينظرون اليها , فعلى الرغم من تأثرهم ... الا أنها بدت كلوحةٍ جميلة ...
لوحةٍ لإمرأة تشتهي الأمومة حد البكاء في صمت .....
.................................................. .................................................. ......................
وقفت كرمة امام المرآة تنظر لنفسها بشرود ... و يديها تحاولان التعامل مع سحاب فستانها .....
الى أن وجدته معها في الصورة ..... يقف خلفها و يداه تأخذان منها المهمة ....
فارتعشت بشدة و هي تشعر بملمس أصابعه المتمهل على بشرة ظهرها ... و بدلا من أن تخفض وجهها للأمام ... وجدت نفسها تبادله النظر ... حيث كان الحوار الصامت بين أعينهما أقوى من أي حديث ....
و ما أن أتم مهمته حتى أخفض وجهه يلامس عنقها بشفتيه وهو يحيط خصرها بذراعيه ..... فمال رأسها جانبا و هي تغمض عينيها تتنهد بتعب ... مستسلمة تماما للغة الحديث بينهما ....
جسده يفهم جسدها .... أصابعه تجيد لغة الحوار .....
شفتيه تهمسان بقبلاته عوضا عن الكلمات ... فتخبرها بالكثير دون أن تتجرأ على سؤاله ....
همست كرمة تتنهد من بعيد ... من عالم آخر و هي لا تزال مغمضة عينيها ...
( يبدو أنني سأعتذر لك كل ليلة ...... أنا آسفة يا حاتم لأنني أغضبتك بهذا القدر .... )
ساد صمت رقيق لعدة لحظات ... قبل أن يهمس بصوت أجش لا يكاد يكون مسموعا فوق النبض المجنون بعنقها
( لا بأس بالإعتذار ............. )
فتحت عينيها تنظر الى صورتهما في المرآة ..... تنظر الي رحلته السافرة فوق معالمها و كأنه يرسم لنفسه خط حياة ....
فهمست بخفوت
( سأترك حاسوبي مفتوحا .... بريدي و كل شيء سأتركه لك كي تراه ..... )
كانت عبارتها عبارة عن نغمة نشاز في سيمفونية المشاعر بينهما ... فرفع وجهه ببطىء ينظر الي عينيها في المرآة .... ينظر اليها بصمت ....
الى أن أدارها بقوةٍ اليه .... يدفعها برفق حتى الصقها بالجدار ... ليرفع ذقنها بهيمنة وهو ينظر الى عينيها الحائرتين .... ليقول بشراسةٍ خافتة ...
( هناك ما يجب أن تتعلميه ...... هناك فارقا ضخما بين انعدام الثقة و الغيرة .... )
صمت قليلا ينظر اليها بجفاء .. على الرغم من المشاعر التي لا تزال مشتعلة بعينيها .. ثم تابع بصلابة أكبر
( يبدو أنني سأظل أغار عليكِ العمر كله ..... شئت أم أبيت ...... لكن لفظ الثقة , لا تذكريه مجددا حتى ولو من باب التأكيد .... لأنه أمر مفروغ منه و الكلام به , إهانة ...... )
ابتلعت ريقها تحت كفه المحيطة بذقنها و أعلى عنقها ..... ثم همست باختناق
( لقد آلمتك مجددا .... لكن..... لكنني أريد الهرب يا حاتم ..... ليس منك , لكن من كل شيء هنا .... أنا ... )
قاطعها يقول بقسوة
( أنا لن أسمح لكِ بالهرب ..... لقد تحدد مصريك معي يا كرمة .... و لن أدعك ترحلين حتى لو أردتِ .... )
رفعت حاجبيها تهمس بقلق
( حتى لو أردت ذلك يوما ؟!! ....... )
أومأ برأسه ثم قال بكل ثقة
( حتى لو أردتِ ....... الفرصة تمنح للرجل مرة واحدة بالعمر , و أنتِ كنتِ فرصتي يا كرمة ... و سأكون مجنونا لو تركتِ تفرين من بين يدي ..... ربما ستخطئين بغباء لفترة طويلة ......و سأصرخ أنا مجددا حين أفقد أعصابي ...... و ستعتذرين كل مرة.... لكني لن أسمح لكِ بالهرب يا كرمة .... ضعي تلك المعلومة حلقةٍ في أذنك ....... هل فهمتِ ؟؟ ..... )
أومأت برأسها ببطىء و هي تتطلع اليه .... و روحها تتوهج قليلا .... الآن تشعر بأن قرارها صباحا و الذي كانت متمسكة به ,عازمة على إقناع حاتم بشتى السبل ..... هو الآن يبدو كاقتراح باهت ...
حينها همست تقول
( هل تريد أطفالا يا حاتم ؟؟ ........ )
رفع وجهه اليها .... بينما انتفض قلبه بقوةٍ و عنف ... فترك عنقها ليحيط وجهها بكفيه ليقول مشددا على كل حرف
( أنا أريدك أنتِ ........لا أريد غيرك .... لا تفكري سوى بذلك .... . )
ارتجفت شفتيها ..... لكنها ابتسمت برقةٍ حزينة .... إنها المرة الأولى على الإطلاق التي تفكر فيها بأطفالٍ من حاتم ...
كانت قد نسيت معنى الرغبة في أن تكون أما ..... لقد هيأت روحها منذ سنواتٍ طويلة على تعطيل تلك الأمنية ... حتى أصبحت أمومتها مع مرور الوقت زائدة غير حية .....
أما الليلة !!! ........ فتلك المخلوقة الصغيرة التي أمسكت بها الليلة نسفت طبقة الجمود التي ترسبت مع السنوات فوق غريزة أمومتها ...
و للحظة فكرت بأنها ...... من الممكن أن تكون أما !! ...... من الممكن أن تحمل أحشائها مخلوقة مثلها ....
لقد كانت من الأنانية بحيث لم تصحح فكرة حاتم عن كونها غير قادرة على الإنجاب .....
كانت ترفض أن تهين محمد بأي صورةٍ و تبخس من رجولته .... أمام ذلك الرجل الذي يمتلك كل شيء و لم يمتلكه محمد .... حتى نال زوجته في النهاية !! ...
كانت تشعر بغضب داخلي موجه ضد حاتم في أول أيام زواجهما .... غضب غير منطقي من كون بعض البشر يحصلون على كل شيء .... و البعض الآخر لا ينال شيئا ....
لطالما فكرت أن محمد لو كان لديه ما لدى حاتم .... لاستمر حبهما ... و لأصبح في رقة حاتم أو أكثر ...
لكان تعلم احترامها ....
لكن الضعف و الإحتياج كانا يجعلان منها القبلة التي كان يفرغ بها كل غضبه ....... و كل عقده ....
أما الآن ..... الآن .....
تفتحت عيناها على امكانية أن تصبح أما !!!!!
شهقت فجأة و هي تضحك ضحكة خافتة مذهولة ... بينما عيناها تدمعان ...
فعقد حاتم حاجبيه وهو يتأمل انفعالاتها .... بينما رفعت كرمة وجهها اليه تتأمله لتهمس ضاحكة من بين دموعها
( شعرك جميل ...... أريد أن ألامسه ..... )
نظر اليها بما يشبه الذهول قليلا .. ثم لم يلبث أن همس بخشونة
( ظننتكِ لن تطلبي ذلك أبدا ...... لقد شعرت بالغيرة من محمد لدرجة أنني كنت قد عزمت على أن أحلق له شعره كاملا كي لا تلامسيه مجددا ..... )
قالت كرمة ضاحكة و بلهجة أم حقيقية
( أتغار من ابنك يا رجل ؟!! .......... )
همس حاتم بصوتٍ أجش وهو يخفض وجهه اليها
( و أغار من النسيم الذي يلامسك ...... كفي عن الكلام يا امرأة و تخللي شعري بأصابعك بعد أن أشعلتِ ناري ...... )
رفعت كرمة يديها وهي تلامس شعره مبتسمة ..... كانت خصلاته أقصر من خصلات شعر محمد ... لكنه ناعم و قوي .... فتخللته بأصابعها و هي تهمس مجددا بشرود
( أنه جمييييي ....... )
لم تستطع حتى أن تنهي آخر حرف حين التقطه بشفتيه بشراسةٍ وهو يغيب معها بعالم آخر .... لم يقطعه سوى يديه اللتين أخذتها تبعدان الفستان اللعين عن كتفيها .....
نظرت الى عينيه الجامدتين في مرآة السيارة ....
كانت أعينهما تتلاقى أكثر من تلاقي عينيه بالطريق أمامه .... كلما حانت منها نظرة الى المرآة , كان ينظر اليها مباشرة .. و كأنه يمتلك حس خاص بعينيها ....
نظرت من نافذتها بغضب وهي تتنفس بسرعة ....حيث الطريق السريع الخالي ....
لا تنكر أنها خائفة ... و بشدة ....
همست بداخلها في محاولة لتطمئن نفسها
" اهدىء يا وعد ...... إنه سيف .... لم يكن ليؤذيكِ .... "
صمتت أفكارها حين انبعث صوت بداخلها يقول ساخرا ....
" حقا ؟!!! ..... ألم يؤذيكِ من قبل ؟!! "
أظلمت عيناها قليلا و هي تشعر بالبرد .... بينما عادت لتهمس
" على الأقل ليس جسديا ..... ما يفعله جنون , و سرعان ما سيفيق منه و يعيدك .... "
نظرت الى وجهه في المرآة ... و كما توقعت ... ارتفعت عينيه لتقابلان عينيها بصلابة ....
فقالت بعنف
( ما تفعله غباء ؟!! ....... هل يمكنك أن تخبرني عما ستجنيه من تلك التصرفات الطفويلة ؟!! .... )
لم يرد عليها على الفور ... بل نظر اليها نظرة كادت أن ترعبها لولا أن تماسكت و ذكرت نفسها للمرة الألف ... بأنه سيف ! ....
حين تكلم أخيرا قال بصوتٍ خافت ... مخيف النبرات
( أنصحك أن تلتزمي الصمت خلال الدقائق الآتية .... و الا كممت لكِ فمك , فأنا في حالةٍ من النفور منكِ تجعلني راغبا في ذلك .... و بشدة ... )
اتسعت عيناها بألم و هي تنظر اليه مجفلة ...
" سيف يشعر بالنفور منها !! ...... إنها المرة الأولى التي ينطق بها كلمة مثل تلك !! "
لكنها رفضت أن تمنحه لذة الإنتصار و تجعله يشعر بأنه آلمها .... فقالت بصوت جامد مشدود
( من تظن نفسك لتحدثني بتلك ال ......... )
هدر صوت سيف بكلمةٍ واحدة
( أخرسي ............. )
انتفضت وعد بداخلها و صمتت تماما .... تريد محاربته و تقطيع وجهه بأظافرها رفضا لما يفعله .. الا أنها قررت الإنتظار الى أن يصلا الى ذلك المجهول الذي يقصده ...
دعت الله الا يكون مكانا بعيدا جدا ... كي تتمكن من العودة سريعا قبل الظلام !! ....
مرت ساعة أخرى ..... ثم نصف ساعة ..... ثم ساعتين .....
و بدت وعد تفقد قدرتها على فتح عينيها خاصة و أنه يقود متمهلا و بمزاجٍ رائق .... بينما تحول الطريق الى سفرٍ طويل ....
لذا فقد تركيزها محاولة عد الكيلو مترات .... فسقطت رأسها كوردة ذابلة و راحت في سباتٍ عميق ....
أوقف سيف سيارته بعد وقت طويل ... عند حلول المساء .....
و جلس مكانه ينظر في المرآة اليها نائمة .. تبدو رقيقة هشة .... ناعمة كزهرة البنفسج ....
نعم هي زهرة البنفسج بجمالها و حزنها ..... و كأكثر الزهور أثارة للشجن و الألم ....
زفر نفسا هائجا من شدة غضبه .. فانتفض خارجا من السيارة ليصفق الباب خلفه بقوة ... مما جعل وعد تنتفض في مكانها مفزوعة و هي ترمش بعينيها .. لتستقيم جالسة بصعوبةٍ تنظر حولها بعدم استيعاب ....
الا أن سيف لم يمنحها الفرصة كي تندهش حتى ... فقد دار حول السيارة .... و فتح بابها بقوةٍ
ليجذبها من كفيها و أخرجها ليوقفها على قدميها بفظاظة ٍ و هي تترنح قليلا ... لم تستجمع كل وعيها بعد ... ثم نظرت حولها ترمش بعينيها ....
حيث كان الظلام قد حل قليلا .... لكنها استطاعت أن ترى بيتا صغيرا لطيفا .... يبدو و كأنه بين عدة بيوت متباعدة ... متشابهة في مجمع سكني ... لكن لكل منها خصوصيته ....
كانت ترتجف من الهواء البارد .... حيث لم يتسنى لها أن تجلب سترة معها ....
و سرعان ما نظرت الى سيف تقول بقسوة على الرغم من ارتجافها
( أين نحن ؟؟!! .............. )
نظر اليها بصمت ... و لم تتبين ملامحه القاتمة من حلول ظلال الظلام عليها ... الا أنه قال بوضوح
( في بيت الطاعة ........... )
رفعت حاجبيها و اتسعت عينيها بذهول و استنكار ... ففغرت شفتيها تهمس بهذيان
( ما الذي ............. )
الا أنه قال بصوتٍ زلزل أوصالها
( تستطيعين السير الى البيت ...... أم أحملك ؟؟ .... لكن ينبغي علي أن أحذرك أولا أنني في حالةٍ من الغضب تمنعني من حملك كما يحمل الزوج عروسه .... بل سألقيكِ على كتفي كما يحمل شوال البطاطا .... )
ازداد اتساع عينيها و فمها ..... لكن و قبل أن تهمس بأي شيء يثير غضبه أكثر ... كان قد هتف بقوة مزلزلة
( تحركي ............. )
انتفضت في مكانها ... لكنها أجبرت ساقيها على التحرك باتجاه البيت بسرعةٍ .. و هي تنظر اليه خلفها كل خطوة .... الى أن تعثرت بأولى الدرجات القليلة الموجودة أمام الباب و هي تنظر اليه .... فكادت أن تسقط على وجهها ... لولا أن امتدت ذراعاه لتمسكان بها بقوةٍ و ما أن وقفت حتى صرخت بغضب و هي تضرب ذراعيه
( أبعد يديك عني تبا لك ........ لا أصدق ما تفعله ..... )
لكنه كان قد نظر الى يدها حيث ضربت ذراعيه دون أن يتفوه بحرف .... و قد اختفت تعابير وجهه بحلول الظلام أكثر ...
فتقدمها ليفتح الباب و يفسح لها الطريق كي تمر دون أن يبدي أي ردة فعل .....
دخلت وعد الى المكان المظلم .... فصدمتها برودته القارصة ...
كتفت ذراعيها و هي تدلكهما بقوةٍ تنتظر عند الضوء الضعيف المنبعث من الباب .... تراقب خيال سيف الضخم .. الذي لحقها ليفتح لوحة في الحائط بجوار الباب ... اخذ يفتح مفاتيحها الى أن عم الضوء في المكان ... ثم أغلق الباب بالمفتاح ليضعه في جيبه ببساطة !! ...
تقدمت وعد خطوة و هي تنظر حولها ... كان بيتا بسيطا جدا ... يكاد يحتوي على الأساسيات فقط ...
بساط واحد كبير دافىء الالوان ... بعض المقاعد الانيقة التي تليق ببيت مصيف ....
تنفست بارتجاف و هي لا تزال تنظر حولها ... الى أن وجدت سيف يتحرك بحرية تماما متجاهلا وجودها ... ليشعل مدفأة كهربائية ... ثم عدل من وضع كابلات تلفاز حائطي ضخم ....
وقفت وعد تنظر اليه بتجمد .... تراقب تجاهله المتعمد لها .....
فتراجعت حتى وجدت كرسي هزاز خشبي ... جلست عليه بصمت ... تنتظر انتهاء تلك المهزلة ....
و بالفعل ما أن أنتهى حتى اتخذ مقعدا مقابلا و مال الى ركبتيه ينظر الى عدة أوراق و بطاقات خاصة بالبيت ...
بينما ظلت وعد تتأرجح ببطىء و هي ترمقه بنظراتٍ قاسيةٍ .. و ملامح فاترة باردة ... ... تكاد أن تزيد الجو صقيعا ... لكنه على ما يبدو لم يشعر بها إطلاقا ....
و حين طال الوقت و شعرت بأنها غير قادرة على تحمل تلك الحرب النفسية الباردة التي يخضعها اليها بسادية ..
قالت بهدوء منقطع النظير ..
( ماذا نفعل هنا تحديدا يا سيف ؟! ........ )
لم يبدو أنه قد سمعها لعدة لحظات ... لكن أخيرا رفع رأسه ليقول بهدوء ينافس هدوئها
( نحن هنا .... في بيتنا ..... أليست تلك إجابة على سؤالك ؟!! ..... )
ظلت تتأرجح ... و هي تنظر اليه دون أن تهتز عضلة بملامح وجهها ثم قالت مجددا
( هذا بيت خاص بالمصيف .... لذا فلا .... هذه ليست إجابة على سؤالي , لكن لما لا أجرب سؤالا آخر ... ماذا تريد مني يا سيف ؟؟ ..... )
ظل ينظر في الورق المسجل أمامه باهتمام ... ثم رفع عينيه اليها , ليقول بصوتٍ جاف
( و ماذا يريد الزوج من زوجته ..... سوى أن تكون زوجة ؟!! ..... )
ردت وعد مباشرة
( زواجنا انتهى يا سيف ...... زواج و لم يكن ناجحا بما فيه الكفاية , فلماذا تحارب في قضيةٍ خاسرة ؟!! ... و أنا لا أراك ذلك المنهار من فشله بالمناسبة .... فلا تدعي ذلك .... )
فرد سيف ذراعيه وهو يمط شفتيه قائلا بحيرة
( لأنه ببساطة لم يفشل ..... فلماذا أنهار ؟!! ...... أنا هنا ..... و أنتِ هنا .....فماذا ينقصنا بعد ؟!! ..... )
رفعت وعد ذقنها تقول بحدة بعد أن استفزها هدوؤه
( هناك قضية خلع رفعت ...... ووصلك اعلانها اليوم ...... )
سكتت فجأة و هي تشعر بأنها قد أستفزته اكثر مما تتطلب الحكمة .... لكنه لم يغير من ملامح وجهه الجامدة ....
و قال بصوتٍ خطير ...
( آآآه الإعلان الذي وصلني علنا .... أمام كل الموظفين ..... )
سحبت نفسا مرتجفا دون أن تحاول إظهار خوفها .... فقالت بحدة
( سيف ..... لما لا تكن واضحا معي .... ماذا تريد مني و لماذا هذا الإسلوب الهمجي في طريقة احضاري الى هنا ؟؟ ..... )
رفع وجهه اليها ... ينظر الى عينيها مباشرة .... نظرة اجفلتها و قبضت قلبها ... ثم قال بإختصار لا يحمل أي ذرةٍ من الهزل أو السخرية ...
( أريد منكِ أن تتعلمي معنى أن تكوني زوجة ........ و حين تفعلين , قد أحررك بعدها .... )
عقدت حاجبيها و توقفت عن التأرجح و هي تقول بجدية
( ماذا تقصد بذلك الجنون ؟؟ ............ )
رفع وجهه ينظر الى عينيها قائلا بهدوء
( ستبقين معي هنا ...... لا هم لكِ سوى أن تكوني زوجة , تلبين طلباتي .... و تخدمينني ... و تتعلمين احترام زوجك ..... )
فغرت شفتيها بذهول و عيناها تتسعان بإستنكار ...و قبل أن تتكور شفتيها بكلمة " ماذا !! "
كان هو قد تابع
( لقد كنت كريم نفس معك .... فمررت فترة حدادك على والدك ... ثم مررت فترة مرضك الى أن أصبحت بصحةٍ جيدة في نظري .... و انظري على ماذا أحصل ؟!!! ..... اعلان من محكمة موجه الى عملي !! .... )
كانت تتنفس بسرعةٍ و غضب ... و ذهول .... تنظر اليه بعينين متسعتين .... ثم همست أخيرا بصوت مشدود كالوتر ....
( ماذا تقصد بخدمتك تحديدا ؟!! .......... )
مد يديه وهو يمط شفتيه متظاهرا بالتفكير ... ثم قال أخيرا
( كخدمة أي زوجة ببيتها .......تنظيف البيت مثلا ... ترتيب ملابسي .... اعداد الطعام ...... أشغال الزوجة الطبيعية .... )
قفزت من مكانها تصرخ بجنون
( زمن عملي كخادمة لديك ولى يا سيد سيف ....أنا لن أحمل أي بساط يخصك مجددا ..... بل أنا لن أحمل أي بساط إطلاقا .... . أنت تحلم ..... )
ابتسم دون مرح وهو يرمقها بمنتهى الهدوء , ثم قال ببراءة وهو يمط بشفتيه
( لن يصل الأمر الى حمل الأبسطة ...... المكان قليلا العدد منها .... لكن حتى لو اضطررتِ الى ازاحتها بعد كنسها .... فسأحملها لكِ كأي زوج مخلص .... )
ابتسم لها ابتسامة جليدية وهو يراقب ذهولها ... ثم أرجع ظهره للخلف قائلا بهدوء
( يمكنك البدء الآن بإعداد فنجان قهوة لي ...... أنتِ تتذكرين قهوتي بالطبع اليس كذلك ؟؟ . ... هيا اذهبي الى المطبخ على يمينك ... أريدك أن تتعاملي معه كرفيقك في الأيام الآتية .... )
ثم تجاهلها تماما .. ليعاود النظر في الأوراق التي يمسكها .... بينما وقفت هي بذهول تنظر اليه و كأنها تنظر الى شخصٍ كان يهذي لتوه ...
" أي أيامٍ مقبلة ؟!! ..... و عن أي خدمةٍ يتحدث هذا المعتوه ؟!! ... "
صرخت وعد بقوة ...
( أنت مجنون ...... أنت مجنون مصاب بلفحة شمسٍ ضربت البقية المتبقية من عقلك ...... )
لم يرد عليها ... و لم يكلف نفسه حتى عناء النظر اليها ... فاندفعت اليه و هي تنحني نحوه قابضة على ذراعي مقعده .. حتى اقترب وجهها من وجهه .... لتهمس بشراسة
( لقد أخبرتك أكثر من مرة .... أنا وضعي تغير يا سيف الدين .... أنا أصبحت أملك مالي و مشروعي الخاص... و أملك نفسي ..... أي أنني لم أعد أحتاجك ..... )
لم يرد عليها .... و لم تتغير ملامحه ... الا أنها كانت تبدو أكثر جمودا ... مشتدة الخطوط ....
و حين انهارت وعد من لا مبالاته ... أختطفت الورق من يده و جذبته بعنفٍ لتمزقه شر تمزيق وهي تصرخ بجنون ...
( لا تتجاهلني ....... كما تركتني بعد تلك الليلة ... و كما تركتني في مكتبك أيها الحقير .... الجبان .... البغيض .... ال .... ال .... أكثر أهل الأرض حقارة .... )
حينها اندفع واقفا من جلسته كالطود الذي يعلوها .... فتراجعت خطوة للخلف و هي تراه يمد يده الى حزام بنطاله ....
تراجعت خطوة أخرى وهي تراقبه بذهول وهي تراه يفتحه .... و يسحبه بكل هدوء ... بينما بدت ملامحه المتجمدة مخيفة قاتمة ....
فصرخت بهلع و هي تراقب الحزام يتدلي من يده وهو يقترب منها و عيناه تنويان الشر
( ماذا تفعل ؟!!! ....... ابتعد عني ..... )
الا انه كان قد وصل اليها .... و رفع يده بالحزام عاليا ... فصرخت وعد و هي ترفع كلتا يديها الى وجهها ... ثم صرخت مجددا و أعلى حين سمعت صوت الحزام الجلدي وهو ينزل بجوارها ليحط على الأرض بصوتٍ لاسع جعلها تنتفض بذعر ...
و حين تمكنت من فتح عينيها المذعورتين بغباء ...رأت ملامح وجهه المخيفة وهو يقول بخفوت
( بماذا نعتيني للتو ؟!! ..... كرري ما قلتيه لأنني لست واثقا من أنني أجدت السمع .... )
شهقت بقوة ... فضرب الهواء بجوارها مجددا وهو يهدر عاليا
( أسمعيني ماذا قلتِ للتو ؟؟؟ ........ )
صرخت وعد و هي ترفع يديها الى جانبي وجهها
( توقف يا سيف ...... أنت تخيفني ...... ماذا أصابك ؟!! ..... )
اقترب منها خطوة ... فتراجعت مثلها شاهقة كالأطفال .. فقال و عيناه تقدحان شررا
( ماذا أصابني ؟!!! ..... اصابني الجنون لأتزوج فتاة الحجر مثلك .... أصابني العته كي ارتبط بإبنة أبيها ..... )
صرخت وعد بجنون وهي تضرب الأرض بقدميها بطفولية
( اذن طلقني و ارتاح من ابنة ابيها ............ )
ضحك بقوة وهو يقول هادرا
( لا حبيبتي ..... لست أنا من يخرج خاسرا من المعركة .... لقد تماديتِ في الخطأ يا زوجتي الصغيرة الجميلة ... و أنتِ تظنين أن وضعك المادي الجديد التافه سيؤهلك كي تتمادي معي بتلك الطريقة .... و في النهاية ... ترسلين الي دعوة تافهة مثلك على يد محضر أمام كل الموظفين عندي ...... استعدي اذن لدفع ثمن كل تصرف دنيء لا يليق بزوجةٍ و ارتكبتهِ بحقي .... بدئا من سفرك دون اذن مني و مكوثك عند شخص غريب .. و السماح له حتى اليوم تحديدا بالتواجد معكِ بمفردكما ...... أقسم بأنني أنا من سأربيكِ من جديد يا وعد طالما أن تربية عبد الحميد قد أثمرت بتلك الصورة البذيئة ..... )
هتفت بجنون تناقض نفسها
( أنت .... لا ..... لا تخيفني بتصرفاتك ... تلك .... )
حينها رفع حزامه عاليا و ضرب الهواء بجوارها مجددا محدثا صوتا قاطعا كالسيف بجوار أذنها مما جعلها تهتف بقوةٍ و هي تقفز مكانها
( ياللهي ...... توقف عن فعل ذلك ...... )
الا أنه مد يده يرفع ذقنها بالقوةِ اليه وقد انهار قناعه الحجري ليظهر آخر سرير أسود
( هل لديكِ فكرة عن موقفي اليوم .... و جميع الألسنة تهمس عند مروري بتلك الدعوى التي ارسلتها !! ....)
هتفت بقوةٍ
( و هل لديك فكرة عن إحساسي و أنت تتركني لتخرج مع تلك الحقيرة الشقراء .... ممصوصة القوام و التي تشبه الزواحف ...... )
جذب وجهها اليه حتى كاد أن يقتلع ذقنها وهو يقول
( اذن كنتِ تنتقمين ؟!! ...... هكذا .... ببساطة ...حسنا إن كنتِ تريدين رأيي الخاص فلا زواحف هنا سواكِ أيتها الحرباءة الحقودة ... . )
اتسعت عينا وعد بذهول ... و سكن رعبها للحظة و هي ترفع يدها الى صدرها لتهمس بصدمة
( أنا حرباءة يا سيف ؟!! ........ )
أومأ برأسه قائلا بكل قوته وهو يتنفس غضبا أمام وجهها
( شكلا و شخصيا ..... مع الإعتذار لها ..... )
فغرت شفتيها و هي تنظر اليه مبهوتة ... ثم قالت بصوتٍ مختنق قاتم
( أنت تهينني ......... )
قال بلهجة مستهجنة ساخرة
( لا تأخذي الأمر بمحمل شخصي ....... انها مجرد لمحة عن شعوري تجاهك في الفترة الأخيرة .... )
ابتلعت وعد مرارتها و هي تحاول منع دموعها بالقوة .... ثم قالت بقسوة
( لو تخيلت للحظة ..... أنني سأسمح لك بلمسي مجددا بعد ما قلته للتو و ما فعلته فستكون واهما .... )
ارتفع حاجبي سيف ليقول بدهشة
( ألم تسمعي حرفا واحدا مما نطقت به للتو !!! ..... حربائتي الصغيرة .... )
هتفت وعد من بين اسنانها بإختناق
( توقف عن دعوتي بذلك .......... اقسم يا سيف بأن أجعلك تعض أصابعك ندما على ما .... )
ارتفعت يده بالحزام عاليا ليهبط به ضاربا الهواء مجددا ليلسع الأرض كالسوط ...فانتفضت و هي تغمض عينيها بينما قال هو بهدوء
( الزوجة المحترمة ...... تحترم زوجها لفظا و فعلا ..... )
فتحت عينيها تنظر اليه بصمت ..... فتسمرت عيناه للحظات على عينيها الرماديتين و المغطاتين بطبقةٍ رقيقة من الدموع .... لتنخفضا الى عنقها الطويل وهو يراها تبتلع غصة في حلقها ....
الا أنه حين تكلم قال بجفاء
( كنوع من النصيحة فقط ...... لا تحاولي الهرب .... لأن مع كل محاولة ... سأطيل فترة احتجازك هنا ... )
ظلت تنظر اليه طويلا رافضة أن تمنحه لذة سماع توسلها أو رؤية دموعها .... ثم قالت ببرود زائف
( و الى متى ستسمر فترة العقاب تلك ؟؟ ......... )
التوت شفتيه في ابتسامة و هو يقول بهدوء
( الى أن أراكِ قد اكتفيتِ ................. )
قالت وعد بإختناق أجش ...
( لابد أن أحضر افتتاح معرضي يا سيف .......... )
أصدر صوت اعتراض من شفتيه و قال
( تؤ .... تؤ ...... انسي المعارض و المشاريع و الأرقام ..... وركزي تفكيرك على كونك زوجة ... و ربة منزل .... )
هتفت بقوة و غضب
( لقد تعبت جدا . و بذلت مجهودا خرافيا من أجل تحقيق هذا الحلم يا سيف .... لا أظنك بمثل هذه القسوة !! )
قال سيف بهدوء وهو ينظر الى عينيها
( و أنا ايضا لم أظنك يوما بمثل هذه القسوة ......... )
لم ترد عليه و هي تنظر اليه بقهرٍ ... و تتنفس بسرعة ....
ظل سيف ينظر اليها قليلا ... قبل أن يتراجع بهدوء قائلا ببساطة
( الآن هيا الى المطبخ و أعدي الي فنجان القهوة .... فأنا في أمس الحاجة اليه ...... )
قالت وعد من بين أسنانها
( و ما أدراك أنني لن أبصق به أولا ؟!! .......... )
التفت اليها مبتسما وهو يقول
( لأنكِ سترتشفين منه أولا حبيبتي ......... )
و حين ظلت صامتة و متسمرة مكانها تنظر اليه نظرة تكاد أن تودي بحياته .... هتف بقوةٍ
( هيا ......... )
أجفلت بشدة .... لكنها أجبرت ساقيها على التحرك في إتجاه المطبخ و هي تشتم بكل شتيمة عرفتها يوما ....
بينما عاد سيف ليجلس على مقعده بعنف وهو يهمس من بين أسنانه ...
( اللعنة عليكِ و على جمالك ........ كيف سأحتمل ؟! ..... )
دخلت وعد الى المطبخ وهي تكاد تموت من الجنون و الغضب .... و الهلع من أن ينفذ تهديده ....
استندت الى الطاولة بكلتا يديها و هي تتنفس بسرعةٍ ....
اللعنة على غبائها !! ...... لماذا تمادت معه الى تلك الدرجة و كأنه عدوها !! ..... ها هي الآن ستتجرع كل ما اقترفته ... بينما هو .... يجلس خارجا منزها عن الخطأ واضعا ساقا فوق أخرى .... منتظرا فنجان قهوته بكل صلف .....
زفرت نفسا مرتجفا غاضبا ..... و هي تبدأ رحلة البحث عن أدوات صنع القهوة .... لتقف في مرحلة ما و هي ترتجف ... ناظرة بطرف عينيها الى باب المطبخ .... ثم تتنهد هامسة بوجوم
( ماذا فعلتِ يا وعد ؟!! ........ لقد منحتِه الفرصة كي يستهلك المتبقي بكِ ..... فهل ستتمكنين من المقاومة ؟!! ...... )
حانت منها التفاتة الى مرآه صغيرة تزين لوحة حجرية معلقة في المطبخ .... فهالها شعرها المشعث ... و به ورقة شجر خضراء تقف رأسيا كمن على رأسها ريشة ....
بينما وجهها كان شاحبا بشدة .... و شفتيها زرقاوان ... ففغرتهما و هي تهمس بصدمة
( لا عجب أن وصفك بالحرباءة !! ......... )
استدارت عن المرآة بعنف و هي تنزع الورقة اللعينة عن شعرها و تسحقها بين أصابعها .... تزفر بجنون وهي تهمس .....
( سيضيع حفل الإفتتاح منكِ ... و ها أنتِ لا تأبهين سوى بشكلك ... و بورقة الشجر الواقفة في رأسك كعلامة تحديد صفحة في كتاب ...... )
خرجت من المطبخ بعد ما يقرب من خمسة عشر دقيقة .... حاملة قدح القهوة في يدها وهو يتوازن فوق الطبق الصغير الخاص به ... و ما أن وصلت لسيف الجالس في مقعده كما تركته مع فارق استرخاءه الواضح ... حتى وضعت القدح بعنفٍ على الطاولة القريبة منه فتساقطت قطراته على الطبق ....
نظر سيف الى القدح بصمت .... و ما أن رفع نظره اليها حتى رمقته بأكثر نظراتها تجميدا للجو المحيط ... و شملته من أعلاه و حتى أخمص قدميه بنظرةٍ احتقارية قبل أن تستدير لتبتعد عنه ... الا أن صوته قصف قائلا ....
( وعد ............ )
وقفت مكانها دون أن تستدير اليه .... فلم ترى ابتسامته وهو يرمق قوامها النحيل بنظرة وله ... و حرمان ... قبل أن يعمد الى تخشين صوته مكررا
( وعد ......... )
استدارت اليه ببرود ... ضاربة كف فوق ظاهر الكف الأخرى و هي تقول بامتعاض
( تحت أمر فخامتك ...... )
مد ايده ليشير اليها قائلا بهدوء
( تعالي ........... )
ظلت واقفة مكانها مسمرة بعناد ... لكن مع حرب نظرات التحدي , زفرت بعد فترة لتقترب منه بتثاقل الى أن وقفت أمامه تنظر اليه برغبةٍ متزايدة في قتله ... الا انه مد يده ليجذبها اليه بيسر و دون قوةٍ تذكر حتى سقطت جالسة على حجره .... هتفت بغضب وهي تحاول النهوض عبثا
( اتركني ........ )
الا أن ذراع سيف كانت قد التفت على خصرها تحول دون نهوضها فقالت بغضب من بين أسنانها
( أتركني أيها السادي .... ضارب النساء ... )
لكنه نجح في تثبيتها بسهولة .. فتوقفت عن المقاومة و هي تلهث بوجهٍ أحمر غاضب ... بينما كان هو ينظر اليها متسليا .. و ما أن توقف صراعها حتى قال بهدوء ...
( هاتي القدح .......... )
زمت شفتيها و هي تحاول جاهدة السيطرة على نوبة الهمجية المتصاعدة بداخلها
الا أنه أعاد بصوتٍ خافت لكن أكثر صلابة
( هاتي القدح يا وعد ......... أنتِ لا تودين المكوث هنا طوال العمر , اليس كذلك ؟؟ .... )
مدت يدها بعنف تتناول الطبق الموضوع عليه القدح ثم دفعته الى سيف مريقة منه بعض قطرات أخرى ....
لكنه لم يلتقطه منها .... بل ظل ينظر اليه الى ان قال بخفوت
( القهوة لا تقدم بتلك الطريقة الفظة ...... أم نسيتِ ؟؟!! ...... كنتِ شديدة التهذيب و أنتِ تقدمينها لي سابقا ... )
قالت بجمود متجنبة النظر الى عينيه
( كانت تلك ساعيتك ...... لم اعد مجبرة على التهذيب معك بعد الآن .... )
الا أنه شدد يده على خصرها وهو يقول بلهجةٍ صلبة هادئة ...
(و الآن أنتِ زوجتي .... لذا هذا سبب أدعى كي تكوني مهذبة ...... امسحي تلك القطرات بإصبعك ...... )
نظرت اليه بذهول رافعة إحدى حاجبيها لتقول بقوة
( ماذا ؟!!! ........ الا ترى أنك تبالغ في الأمر يا سيف ؟!!! ......)
هز رأسه نفيا بيسر وهو يجيب
( لا حبيبتي ... لا مبالغة , ستقضين تلك الفترة معي وفقا لشروطي أنا ..... أو قد تطول بكِ الأيام هنا و تزيد خسائرك ..... )
همست بقسوة
( أنت مثير للشفقة .......... )
رد ببساطة
( و أنتِ كذلك ........ و الآن امسحي تلك القطرات بإصبعك .... )
مدت اصبعها لتمرره حول قاعدة القدح ... لكنها تراجعت و هي تقول بصوتٍ خافت مسكين
( إنها ساخنة ........... )
ضحك قليلا ثم قال بخفوت
( ليس الى تلك الدرجة ..... هيا امسحيها )
زمت شفتيها بحنق لكنها عادت لتمرر اصبعها حول القدح مجددا .... الى أن رفعته لتقول بغيظ
( هل أنت مرتاح الآن ؟؟ ....... )
نظر الي عينيها قليلا , ثم قال بهدوء
( ليس تماما .......... )
و قبل أن تسأله عما يريده بعد ..... كان قد أمسك بكفها ... ليقربه من فمه و سرعان ما شعرت به يتذوق القهوة من على اصبعها ....
ارتجف قلبها بقوةٍ و هي تشعر بتلك الرقة التي أذابت مفاصلها و كادت أن تصيبها بالإغماء ....
رفع وجهه ينظر الى وجهها مبتسما ثم قال بخفوت
( هكذا تقدم القهوة ....... )
ارتجفت شفتيها قليلا ... و الحمى تسري بأوردتها بجنون , لكنها همست
( لم أقدمها لك هكذا من قبل !! ......... )
اتسعت ابتسامته قليلا وهو يقول ببساطة
( لأنكِ لم تكوني زوجتي وقتها ........... )
أطرقت برأسها وهي ترتجف بشدة حتى أن القدح كاد أن يسقط من بين يديها المرتعشتين .... فأسرع سيف الى التقاطه تاركا الطبق بيدها .... ثم قربه من شفتيها ليقول بخفوت
( ارتشفي أولا ....... كي أتأكد من أنكِ لم تبصقي به ... )
رفعت عينيها الرماديتين تنظر اليه من بين خصلات شعرها المسافرة على كتفها ... ثم همست بخفوت
( أنت مثير للإشمئزاز ........ )
ابتسم قائلا
( بعض ما عندكم ............ )
ارتجفت شفتيها لكنها مدت يدها تمسك بيده الممسكة بالقدح ... فرفعتها الى فمها و ارتشقت رشفة منه ... قبل أن تبعده وهي تهمس بصوتٍ أجش
( هاك ............ )
حينها رفع القدح الى فمه و ارتشف منه رشفة .... ليغمض عينيه بعدها و يتراجع رأسه قليلا ....
بدا و كأنه ..... و كأنه في عالم آخر .... متلذذا بقهوته و صفير الليل بالخارج ....
و كانت هي مسحورة بجماله ..... من الظلم أن ينعت الجمال كمجرد وسامة ككل الرجال ....
كم أنت جميل يا سيدي .... بظلمك و بعدك تظل الأجمل بنظري .....
همست وعد بخفوت
( سيف ....... لماذا تركتني بعد تلك الليلة بيننا ...... لماذا عاملتني بتلك الطريقة ؟؟ .... )
ظل صامتا ... مغمضا عينيه ..... ثم قال بهدوء بعد فترة
( أتعلمين أنكِ الفتاة الوحيدة التى اعترف لها بحبي !! .......... )
فغرت شفتيها و اظلمت عيناها و هي تسمعه يتكلم بمثل هذا الخفوت الهادىء ... بعد غضبه الناري منذ فترة ...
حتى أنه ضحك قليلا .. ليتابع دون أن يفتح عينيه
( بعد هذا العمر !! ............. )
ابتسمت بحزن و عينيها تمتلئان بالدموع ..... مدت يدها ببطىء تبعد خصلة الشعر التي تخفيه عنها الى خلف أذنها .....
ساد بينهما الصمت طويلا ... حيث كان يرتشف قهوته مغمض العينين ...و هي تجلس بحجره تتأمله قدر ما تريد .... و الدفىء المنبعث من المدفأة كان قد وجد طريقه اليهما بنعومة مع أصوات الليل في الخارج ....
كان سحرا يجمعهما ..... لم تعرفه من قبل .... حتى في أكثر لحظاتهما تقاربا .....
ارتفع رنين هاتفها فجأة قاطعا السحر بينهما ... فانتفضت وعد و هي تخرجه بسرعةٍ من جيب بنطالها بصعوبة .... بينما ظل سيف ينظر اليها متربصا ... متسليا و هو يراها تحاول اخراجه من جيب البنطال .. فقال بهدوء
( ربما لو كان أوسع قليلا .... )
نظرت اليه شزرا وهي تحاول النهوض .... الا أن ذراعه الممسكة بخصرها عادت لتشدد عليها , فهتفت و هي تقاوم الى أن أخرجت الهاتف أخيرا
( تبا ......... )
ردت بسرعة و هي تقول بجنون
( ملك اسمعيني ....... ذلك الأحمق زوجي ... خطفني .... نعم خطفني .....ملك اهتمي بباقي التصميمات ... لا أعرف متى سأعود ..... ارجوكِ تصرفي مع " راوية " و حتى كرمة .... المهم أن تنتهي التصميمات .... افعلي أي شيء ... الى أن يتعقل ذلك ال ... )
شهقت حين شعرت به يقرص ذراعها بقوة فأنت
( آآه ..... آآآه .....آآآآه )
لكنه قال بهدوء
( ألم أحذرك من اللسان الطويل ؟؟ ........ )
ترك ذراعها ليأخذ الهاتف من يدها بالقوة ... ثم مال للأمام وهو يضع القدح على الطاولة ... و أثناء فعله ذلك استطاع أن يلتقط شفتيها في قبلةٍ مختلسة .... جعلتها تنظر اليه بعينين متسعتين ذاهلتين و تتوقف عن المقاومة تماما و هي ترفع يدها الى شفتيها ... و تتسائل
" ما الذي يحاول فعله بالضبط ؟!! ..... هل هذا هو الرجل الذي هددها بحزامه منذ دقائق ؟!!!! "
وضع سيف الهاتف على أذنه وهو يقول
( نعم يا ملك ...... لا تخافي , أختك معي ........ )
ردت عليه ملك بصوتٍ مهتز غريب .... به نبرة تأكيد
( جيد ..... جيد ..... خذا وقتيكما أنا سأهتم بكل شيء.......لا تتسرعا بالعودة ... .. )
أغلق سيف الهاتف وهو ينظر الى وعد بابتسامة هادئة ... ثم قال
( أعتقد أن ذلك الهاتف سيظل معي الأيام المقبلة ......... )
نهض و أنهضها معه ......
فوقفت أمامه تنظر اليه بصمت و قسوة بعد أن تبدد السحر و حدث ما حدث .... لكنه قال بلامبالاة
( تعالي لأريكِ غرفتك ........... )
أمسك بيدها و جرها خلفه الى غرفة ... فتح بابها ... و أدخلها اليها , فدخلت بصمت تنظر الى أثاثها الرقيق ذو اللون الوردي و الرمادي .....
تنهدت بقوةٍ و هي ترفع يدها الى جبهتها ... ما هذا الجنون الذي تحياه ؟!! ....
استدارت فجأة الى سيف الذي كان واقفا مستندا بكتفه الى إطار الباب ينظر اليها بعمق لم تستطع الوصول اليه ...
فهتفت متوسلة بصوتٍ عالي يائس
( الإفتتاح يا سيف ....... أرجوووك .... )
حينها استقام واقفا ليقول بهدوء ....
( تصبحين على خير يا وعد ...... )
ثم خرج ليغلق الباب خلفه .... بينما بقت وعد واقفة و هي تنظر الى الباب المغلق .... لا تصدق أنه تركها بالفعل بعد كل شيء ....
جلست على حافة سريرها بصمت و هي تحدق أمامها بوجوم ....
" هل فعلا يعاقبها ؟!! ...... هل يذيقها بعض المشاعر لمجرد أن يعاقبها ؟!!! .... "
رفعت يديها الى وجنتيها النابضتين بصداعٍ قوي ....
ثم أغمضت عينيها ... الليلة ...لن تحاول الهرب , فهي تحتاج لنومٍ عميق .... علها تستيقظ لتجده مجرد كابوس ... جميل !! ...
.................................................. .................................................. .................
وضعت ملك الهاتف بجانبها أرضا .... منذ عدة ساعات و هي لا تزال تجلس في نفس المكان أرضا ... رافعة ساقيها الى صدرها ... تنظر أمامها بعينين متورمتين ....
لا تزال المكالمة بينما تنحر من لحمها و هي حية ....
لا تزال تسمع صوتها القاسي و هي تقول دون الإستسلام الى الإنهيار
( أريد تلك الورقة ....... ورقة الزواج العرفي .... )
ساد صمت متوتر بينهما فصرخت بقوةٍ تقطعه
( أريد ورقة الزواج العرفي ....... ....... )
قال كريم أخيرا بصوتٍ خافت
( حسنا يا ملك.. سآتيكِ بها ... المهم أن أراكِ .... أنا أحتاج لأن أراكِ بشدة , كي أشرح لكِ ... كي تفهمي ..)
أغمضت عينيها بشدة ... تحاول السيطرة على الشعور بالغثيان المنبعث بداخلها .... و أخذت نفسا مرتجفا مرة و أثنتين و ثلاث .... قبل أن تفتح عينيها لتقول بصوتٍ ميت
( لا ..... بل أنا التي سآتي اليك ..... غدا سأحمل معي باقة من الورود و آتي الى بيتك .... انتظرني ...... )
ثم أغلقت الخط قبل أن تسمع صوته .....
و الآن وبعد مرور عدة ساعات ... و معرفة أن وعد موجودة ببيت زوجها بأمان ... و متوقع أن تبقى هناك لفترة .. .... كانت أكثر من ممتنة للفرصة .... التي اقتربت أكثر مما كانت تتوقع ...
أنت تقرأ
بعينك وعد. 🌺 بقلم تميمة نبيل 🌺
Randomوأقف أمامك بأعين متضرعة الأرنو اليك بنظرة تلتقطها عيناك من فورها توقف فقط توقف وخذ عينيك بعيدا نظراتك تقتلني وأيامي تضنيني والأمل بعيد بعينيك بحر متلاطم الأسرار ...