15

3.8K 92 1
                                    


الفصل الخامس عشر :
حاول جاهدا التركيز معها أثناء كلامها اللبق و المستفيض .... كانت رائحة عطرها المركز تخنقه و تشوش على ذكرى عطر آخر طبيعي برقة الياسمين ... و كم رغب في أن يطلب منها الا تضع ذلك العطر مجددا و هي في حضوره ... لكنه طبعا لم يستطع ذلك ... و اكتفى بتمني انتهاء حديثها سريعا كي ينفرد قليلا بذكرى بعضٍ من لمحات ليلة أمس ...
ابتسم رغما عنه شاردا ... لكن صوتها الواثق قال يقاطع شروده
( اذن ما رأيك يا سيف ؟؟ ......... )
أخذ نفسا وهو ينظر الى وجهها الجميل المزين باتقان و شعرها الأشقر المنحدر على كتفٍ واحدة ... و هي تنظر اليه مبتسمة بشفتين حمراوين جذابتين
ابتسم قائلا بهدوء
( رائع يا ميرال ....... حقا )
ابتسمت بثقة و هي تتراجع في مقعدها المقابل لمكتبه واضعة ساقا فوق أخرى ثم قالت بصوتٍ رنان
( كنت أعرف أن البرنامج سيعجبك .... لقد صدمت من مدى الفوضى في مكانٍ ناجح كهذا , لذا لم أدخر برنامجي الذي كان موضوع دراستي في سبيل المكان هنا .... )
قال سيف مبتسما بهدوء
( حقا أنا منبهر ......... )
تعمقت ابتسامتها الفخورة ...فتابع سيف قائلا بصدق
( على الرغم من أننا أكثر من محظوظين بانضمامك الينا .... الا أنني أتسائل عن سبب تركك العمل بالخارج و رغبتك في العمل هنا .... صحيح أنني مديرك الآن و لا ينبغي أن أذكر ذلك , لكني متأكد من راتبك هنا أقل بكثير عن راتبك في الخارج ...... )
ابتسمت ميرال برقة ...ترجع خصلة شعر الى الوراء بأناقة ... ثم قالت بثقة
( نعم ..... في الواقع الفرق كبير , لكن الغربة لها ثمن .... و الإستقرار له ثمن كذلك .... لقد ابتعدت عن أهلي طويلا ..... و أعتقد أنني قطعت طريقا لا بأس به في تحقيق طموحي .... أريد الآن أن أستقر بين أهلي و في بلدي ...... تعبت من الوحدة حقا ...... )
قال سيف مبتسما
( و هو حظنا الحسن بالتأكيد ........... )
احمر وجهها قليلا .... و ابتسمت له ابتسامة جميلة مدروسة بأناقة
ثم بعد فترة ظهر عليها بعد التردد , لتقرر بعد لحظة الكلام ., فقالت مبتسمة بحرج
( لو سألتك سؤال فضوليا .... هل تجيبني أم تعتبرها اساءة أدب مني ؟..... )
رد سيف ببساطة
( أبدا ....... تفضلي .....)
ترددت و فمها يفتر عن ابتسامة قصيرة .... ثم قالت باتزان حاولت أن تجعله مرحا
( أنا اليوم أجدك ترتدي خاتم زواج ...... لم يكن بيدك في الأمس , هل أنت متزوج ؟؟ ..... )
نظر سيف تلقائيا الى خاتم الزواج في اصبعه ... و تحرك ابهامه عليه مداعبا بشرود .... لكنه رفع رأسه اليها أخيرا قائلا بابتسامة صغيرة
( هذا صحيح ...... لقد تزوجت ليلة أمس )
لم تستطع منع شفتيها من الإنفراج قليلا ... ثم قالت بدهشة باهتة
( حقا ؟!! ....... لم أره في يدك اليمنى حتى !! ..... و لم أسمع أحدا من العاملين يهنئك !! .... )
التوت ابتسامته قليلا , ثم رفع رأسه قائلا بهدوء
( الأمر جاء سريعا .... و لم يعلم أحدا بعد , و على الأغلب سيعلم الجميع اليوم ..... , إنه عقد قران في الواقع فأنا لا أحبذ الخطبة دون روابط .... )
أومأت ميرال برأسها ببطء ... ثم همست بفتور
( مبارك ....... كم هذا رائع !! .... )
ابتسم سيف ممتنا .... بينما يعود تفكيره رغما عنه في غير الوقت المناسب الي عروسه النحيفة شاحبة الوجه ذات العينين الخلابتين ...
تلك التي تثير به مشاعر لم تثرها به من هنا أكثر جمالا منها بمراحل شاسعة ....
كم كان قريبا منها ليلة أمس .... و مع ذلك تنتابه نشوة الإنتظار متلذذا بكل لحظة من لحظات استسلامها الذي يبدو و كأنه خارج دون وعيٍ أو تركيزٍ منها ....
سمع طرقا رقيقا على الباب ... جعل أذنيه المرهفتين تتخيلانه طرقها ....
الا أنه نفض عنه ذلك التخيل سريعا ... ساخرا من ذلك فكرة قدومها للعمل اليوم بعد أن أصبحت رسميا زوجة المدير ....
لكن الثقة تبخرت من عينه سريعا و هي تبصر اليد البيضاء الصغيرة الصينية المعتادة و فنجان القهوة يزينها ... رائحته الطيبة تخبره بوضوح أنها من صنع تلك اليد الصغيرة التي جرت على صدره تثير جنونه منذ ساعات قليلة ....
لم تكد تمر اللحظة حتى برزت كلها بالفعل ... مرتدية ثوبها ذو الصدر المحكم المطبع بالورود و التنورة الهفهافة من الشيفون ... تحمل قهوته و وجهها الشاحب .. قبل أن ترفع عينيها الى عينيه ....
حينها تسمر الوقت حولهما للحظة ... فاحمر وجهها بشدة و هي تطرق برأسها سريعا ... ثم تقترب أمام عينيه المندهشتين .... الى أن وصلت الى حافة مكتبه فتوقفت و انتظرت لحظة قلقة ... ثم قالت بخفوت مرتبك
( صباح الخير ...... )
لم يكن قد أفاق من دهشته و أختلاجة أنفاسه الشرسة ... وهو يقول بصوتٍ أجش
( وعد !! ....... ماذا تفعلين هنا ؟!! .... )
توقفت أمامه و قد فقدت دفعة الثقة القليلة التي أخذت تختزنها لساعات طويلة قبل أن تأتي و تواجهه من جديد ... طارت عيناها الى الشقراء مذهلة الأناقة في ثوبها القصير بلون القهوة ... و حذائها عالي الرقبة و الكعبين ...
هل كلما دخلت اليه ستجدها عنده ؟!! .......
عادت بعينين واجمتين اليه لتقول مترددة بخفوت
( فكرت ...... فكرت أن أحمل اليك قهوتك .... )
وقفت ترتجف قليلا ثم مالت لتضع قدح القهوة أمامه و هي تتوقع كل ردود الأفعال ... مثل حدة كحدته منذ عدة أيام ... أو أن يصرفها ببرود ....
الأمر الذي يختلف تماما عنه حين يكونان بمفردهما ....
لكن طالما أن تلك الشقراء موجودة فمن المؤكد سيعاملها بطريقته المهينة الفظة .... و انتابها شعور فظيع بأنها لا تريد أن تُهان الآن .... في تلك اللحظة بالذات .... و أمام تلك الشقراء الأنيقة التي كانت تراقبها بصلف ...
همست وعد بداخلها
" يا رب لا تجعله يحرجني أو يهينني الآن .... يااارب "
لكن كل أفكارها تطايرت حين رفعت عينين مهتزتين قلقتين اليه لتصدم برؤية ابتسامة عميقة منه ... لم ترها منذ فترة طويلة ...
تقريبا منذ ان فعلت فعلتها السوداء تجاه والدته ....
ابتلعت ريقها و هي تمسك درعها الواقي أمام خصرها ... عيناها مأسورتان بقوى عينيه ...
الى أن قال أخيرا بصوته العميق النبرات
( هذه ....... حركة رائعة منكِ )
طال صمت متوتر بين ثلاثتهم ... و عيني ميرال تدوران بينهما بحذر ... بينما سيف ووعد كانا في عالمٍ آخر ... عالم لهما وحدهما ....
ثم قال سيف بهدوء عفوي وهو ينظر الي ميرال
( ميرال ...... أنتِ تعرفين وعد طبعا , لكن مالا تعرفينه أنها أصبحت زوجتي )
كان ليضحك في ظروفٍ أخرى من مرأى فمين أنثويين انفتحا أمامه بدهشة ....
دهشة ميرال كانت طبيعية .... الا أن عيناه كانتا مهتمتان بدهشة وعد التي تقارب الصدمة ...
و كأنها تسأل نفسها عن الخدعة التي ينتويها .... و كيفية تلاعبه بها ....
الا أنه أدار وجهه حين قالت ميرال قبل أن تستطيع أن تمنع نفسها
( سيف أنت تمزح ..... لقد أحرجت الفتاة !! ...)
اختفت الإبتسامة من وجه سيف ... الا أن ملامحه لم تكن قاسية وهو يجيبها بهدوء
( لا لست أمزح ..... لقد عقدنا قراننا ليلة أمس ..... وعد قريبتي بالمناسبة .... )
تركت عيناه وجه ميرال المصدوم لينظر الى وعد الأكثر صدمة وهو يتابع بنبرة عميقة للغاية و عينيه بعينيها
( لذا كان من الطبيعي أن أكون الأولى بها ....... )
ارتجفت مكانها و تعقدت أصابع قدميها في مكانها بتوتر .... حتى الآن لا تصدق أنه فعلها !! ....
لقد أتت و هي متأكدة أنه سيحنث بوعده و سيبقى أمر زواجهما طي الكتمان .... أي لعبة يلعبها ؟!!
يبدو و كأنه يتسلى ليرى من يجرؤ على تحديه !! ....
فقالت ميرال بالفعل دون خوف
( ياله من وضع غريب !! ......... )
رفع سيف احدى حاجبيه ليقول بجدية منتظرا .... بخطورة
( ما وجه الغرابة ؟؟ ........ )
صمتت ميرال قليلا و هي تنظر اليه بتحدي خفي ..... ثم قالت أخيرا بجرأة
( أنت تكسر الفارق الإجتماعي بتحدي يثير الدهشة ....... و الإعجاب )
استطاعت وعد أن تلمح في صوتها الرفض التام للكلمة الأخيرة التي أضافتها مرغمة كنوع من الذوق على كلامها الفظ .....
الحقيقة أن كلامها لم يكن فظا ...... بل كان حقيرا ....
شعرت وعد و كأنها صفعتها للتو ..... على الرغم من عدم وجود أي معرفة سابقة بينهما كي تجرحها بهذا الشكل القاسي .......
عضت وعد على شفتها بقلق .... بينما نهضت ميرال من مكانها برشاقة ثم قالت لسيف ببرود لم يلتقطه سوى أذني وعد
( مبارك يا سيف ........ لقد .... أبهرتني ... حقا )
ثم انصرفت متجاوزة وعد و كأنما لم تلقى القدر أو المكانة المناسبة كي تستحق التهنئة كما استحقها سيف للتو ....
سمعت وعد صوت إغلاق الباب من خلفها ... فأخفضت رأسها لتنزلق خصلة من شعرها على وجهها بصمت , حتى حين سمعت صوت نهوضه من مكانه و دورانه حول المكتب كي يقترب منها ببطء
لم تستطع أن ترفع وجهها .... فمد هو يده الي ذقنها يرفع وجهها اليه ....
نظرت الى وجهه و على الرغم من قساوة قسماته الا أن عينيه كانتا تبتسمان لها ..... فابتسمت باهتزاز
قال سيف بخفوت قوي
( حسنا سيدة وعد ...... ماذا تفعلين هنا اليوم ؟!! ...)
ارتجفت بين يديه احداها على ذقنها و الأخرى تتلمس ارتجافة خصرها .... انه ليس غاضب ... ليس تماما ....
فقالت بخفوت
( أنت لم تخبرني بما سأفعله الأيام المقبلة ...... التدريب سيبدأ الشهر المقبل , لذا حين استيقظت اليوم ... لم اعرف بالضبط ما تتوقعه مني , لذا قررت المجيء بصورة طبيعية ..... )
اتسعت ابتسامته أكثر قليلا ... ثم قال بخفوت
( أحيانا تتصرفين بغباء ... يزيد من شكي في مستوى ذكاءك العام )
عبست وعد من الإهانة و هي تنظر اليه لتقول بتذمر
( أنت لم تخبرني بالأمس ..... ماذا كان عليا أن أفعل , خفت أن تغضب و تلغي التدريب إن انقطعت عن العمل .... )
التوت ابتسامته هذه المرة بشكلٍ عبثي وهو يقول بلهجةٍ ذات مغزى
( آآه ليلة أمس ..... أعذريني , كنت مشغولا بأشياءٍ أخرى .... )
أحمر وجهها و هي تحاول الابتعاد عنه , الا انه لم يسمح لها بذلك ... تاركا ذقنها محيطا , ليأخذ الصينية من بين يديها مزيلا ذلك الحائل بينهما .. وهو يقول بصوتٍ أجش
( أتحتاجين هذه في شي ؟!! ...... لقد بدأت تستفزني فعلا .... انها تعوق الرؤية و الإحساس ... )
وضعها على المكتب بعد أن تركتها بسلاسةٍ أكبر من كونها تتخلي عن درعها الواقي ....
ثم التفت اليها , ليحيط خصرها بكلتا ذراعيه يجذبها الي صدره بقوة ... فذعرت و هي تصد صدره بكلتا كفيها هاتفة همسا
( سيف ....... ابتعد , لو دخل أي شخص الآن ستصبح كارثة , لم يعلم الجميع بعد بالأمر ..... )
ضحك بخفوت وهو يقربها أكثر و أكثر حتى كادت أن تنصهر من حرارة صدره الذي بدا كمرجل مشتعل .. ثم قال مندهشا
( هل هذه هي المشكلة الوحيدة ؟!! ..... أي لو أخبرت الجميع , فلا مشكلة حينها !! ..... ربما سأقبلك أمامهم عندئذ .....)
هتفت بقوة و ذعر
( أنت تهذي .......... )
عقد حاجبيه وهو يقول بجديةٍ مصطنعة
( أهذي !! ....... أتحبين الدخول معي في تحدي ؟؟...... )
هزت رأسها نفيا بسرعة و تحولت عيناها الى وديعتين و هي تقول
( لا .... لا .... حسنا سحبت كلامي )
قال سيف باتزان
( حسنا هذا جيد ...... و الآن هل يمكنك قول صباح الخير بكل أدب بعد أن ضيعتِ كل هذا الوقت في ثرثرةٍ لا فائدة منها .... )
همست بتهذيب تلقائيا
( صباح الخير ........... )
عقد حاجبيه ضاحكا .... ثم قال بنفس الإتزان
( هذا جيد كبداية ..... لذا اسمحي لي أن أرد .... )
همست بخوف تلقائيا و يديها تتصلبان تميل بوجهها
( لا .......... )
عقد سيف حاجبيه قائلا ببراءة
( ماذا !! ...... لم أفعل شيء بعد .....)
كانت تحاول الهروب , الا أن الأمر بدا مستحيلا من بين ذراعيه القويتين و المغريتين .... ثم بدأ يميل برأسه تجاهها ببطىء شديد و كأنه يمنحها فرصة لإستيعاب ما يحدث
ياللهي .... إنها في ورطة !! ......
انها غير قادرة على مقاومة ذلك المد البطيء و المذيب لها ..... خبرته تكاد تهلكها و دون حتى مشاعر حب !!
هل هذا ممكن الحدوث فعلا ؟!! ..... أن يصهر كيانها بتلك الصورة دون مشاعر حقيقية بينهما ... الا اذا كانت مشاعر العداء في الواقع ....
لقد سمعت من قبل أن مشاعر العداء تثير نفس التأثير كمشاعر الحب تماما ....
اكتشفت فجأة أنها تهذي مثرثرةٍ بداخلها بينما توقفت مقاومتها ... و أغمضت عينيها منتظرة .....
لكن القبلة التي انتظرتها لم تتجه الى حيث انتظرتها ..... بل أحست بشفتيه الصلبتين تلامسان وجنتها برقة ثم صوته يهمس بأذنها
( صباح النور ........ )
شعرت بإحساس غادر من خيبة الأمل .... لكنها لم تفتح عينيها خوفا من أن تفضحان تلك الخيبة ...
الحقيقة أن أفضل وصف يمكن أن تتصف به حاليا هي أنها " خيبة حقيقية "
توقفت ثرثرتها الداخلية حين مال الى وجنتها الثانية يقبلها برقة اكبر ... هامسا بخفوتٍ اقوى في اذنها الاخرى
( صباح النور ....... )
حينها تبددت خيبة الأمل و ارتجفت بين يديه و هي تريح يديها على صدره ... بينما عاد وجهه لينخفض وهو يمس شفتيها بشفتيه بلمسةٍ كالنسيم وهو يهمس بينهما
( صباح النور ....... )
أغمضت وعد عينيها على " صباح النور الأخيرة " .... و استسلمت ... فزاد من صباحه عمقا .....
مرت عدة لحظات كانت تحلق بها معه ... الى أن أبعد وجهه عنها أخيرا ببطء ... فاضطرت لأن تفتح عينين متألقتين كالنجوم .... و قد تشابكت عدة شعرات من شعرها الناعم بشعرات ذقنه الحادة النامية ...و كأنها ترفض أن يبتعد وجهه عنها و تحاول اعادته متوسلة ....
حينها لاحظت أنه غير حليق الذقن على غير العادة .... عيناه حمراوان .... و ليلةٍ سيئة تلوح على ملامحه ....
مد يده ببطء يبعد خصلات شعرها عن ذقنه وعينيه تنظران الى عينيها و قد اختفت ابتسامته .....
أسبلت جفنيها ونبضاتها تتقافز بقوة .... محاولة التأقلم مع أن ذلك الشخص المهيب أصبح زوجها ... و لو اسما فقط حتى الآن .....
سيف الدين فؤاد رضوان أصبح زوجها !! .....
صدرت منها شهقة صامتة و هي تنظر الى نقطة مجهولة خلف كتفه و كأنها تحاول الإستيعاب من صدمة متأخرة ....
همس سيف أخيرا بصوتٍ أجش جاد
( بماذا تفكرين ؟؟ ......... )
رفعت عينيها اليه , ثم لم تجد القدرة على ملاقاة عينيه طويلا فأخفضت وجهها و هي تبتلع ريقها بارتباك هامسة بتعثر
( لا أصدق انني فعلت ذلك ...... )
أخذت نفسا عميقا ثم تابعت برهبة
( هل هذا منطقي ؟!! ...... .. )
صمت سيف قليلا و هو يدقق النظر بملامح وجهها ... ثم قال بصوتٍ عميق جدا
( هل يهمك كثيرا أن يكون منطقيا ؟؟ ........ )
رفعت وجهها الشاحب اليه ثم عادت لتخفضه مجددا و هي تجد عيناه تنتظران عينيها في كل مرة ... ثم همست
( لقد اعتدت ان يهمني ذلك طوال حياتي ...... )
ترك خصرها ببطء ليقبض كفه على يدها ... ثم تراجع خطوة للخلف مستندا الى حافة مكتبه وهو يسحبها معه ...
الآن أصبحت اقرب .... الآن أصبحت ملكه .... و قريبا ستصبح ببيته ...
مد يديه يحيط بوجنتيها كي ترفع وجهها اليه ... و حين اضطرت رغما عنها على أن تنظر الي عينيه ... انتظر لحظة ثم قال بجدية
( لم أسألك قبلا ......لماذا قبلتِ الزواج مني أخيرا ؟؟ ........ )
ارتبكت بشدة ... و تلون وجهها , ثم قالت بتوتر
( أنت تقريبا هددتني ....... )
رفع حاجبيه دون رد ... فعلمت مدى غباء حجتها , فترددت ثم همست
( لم يكن لدي أي حل آخر ...... كنت ..... أحتاج المساعدة .... )
هذا هو ما كان يعرفه ... و قد استغله تقريبا , ... لكن سماعه منها كان بغيضا على نفسه جدا و بصورة غير متوقعة ...
أخذ يتأمل ملامحها بصمت .... وهو يتخيل كل الأيام الباردة كالصقيع التي عاشتها في طفولةٍ متنقلة بين دار رعاية ... و بين أم و أب لا يستحقان اللقب ...
لكن أكثر ما كان يثير غضبه بشدة هو أن تلك الشابة التي تقف بين يديه الآن و التي حدث أن اصبحت زوجته ... كان من الممكن أن تتفادى كل ذلك و تبقى ببيته ... تحت عينيه منذ طفولتها ...
لو كانت أمه فقط قد ارتضت بذلك ....
لو كانت أخذتها و هي طفلة , لما كان سمح لأحد أن يأخذها من بيتهم أبدا .... و لما كانت حينها ستتصف بصفة ابنة عبد الحميد العمري .... تلك الصفة التي تخنقه و تقف بحلقه ....
لما كان أنشأها على تربيته و مبادئه المنعدمة .....
ليلة أمس ... أمضاها دون أن يغمض له جفن ... ما بين احباط أهوج لتركه لها و ما بين شعورٍ بالعطف عليها وهو يتخيلها طفلة صغيرة هزيلة تقبع في الدار منتظرة كل ليلة أن يأتي من يأخذها من ذاك المكان ....
و الآن على الرغم من احباطه بسبب صراحتها الفجة .... الا أن عقله كان يأمره بأن يصدق أن شابة مثلها من حقها أن تطمح في حياةٍ أفضل بعد كل ما عاشته سابقا ....
كان ينظر اليها شاردا و متأملا في نفس الوقت ... غارقا بأفكاره و يده تتلمس ملامح وجهها الهشة بصمت و تطيل التجول فوق شفتيها المنفرجتين قليلا ....
أوشك أن يخبرها بشيء الا أن شفتيها تكلمتا تحت أصابعه بخفوت و هي تقول
( يمكنك الإنسحاب في أي وقت ...... )
عقد حاجبيه قليلا بعدم فهم ليقول بعدها بصوتٍ جاف
( الإنسحاب ؟!! ..... من ماذا تحديدا ؟!! ...... )
قالت وعد بحذر و هي تتجرأ على النظر الي عينيه
( لو كنت تشعر بأنك قد تسرعت فيمكنك تتراجع في هذا الزواج من الآن ...... )
تصلبت ملامحه فجأة .... ثم صمت صمتا متوترا لعدة لحظات قبل أن يقول أخيرا بجفاء
( أنتِ متساهلة جدا !! .............. )
فغرت شفتيها قليلا و ترددت .... ثم قالت أخيرا بعفوية
( ليست مسألة تساهل ..... لكننا لازلنا على البر , لذا فأهون الضرر سيقع الآن لو انفصلنا و ليس بعد .... )
لم تتغير ملامحه مطلقا ... لكنها شعرت بأنها تشتد و تتصلب أكثر مع كل لحظة تمر ... و حين تكلم أخيرا جاء صوته صلبا لا تعبير به
( لازلنا على البر !! ........ حسنا , لكن بعد ليلة أمس لا أظن أننا لا زلنا على البر بخلاف نظرتك التقديرية للأمور ...... )
عقدت حاجبيها و هي تقول بسرعة دون تفكير
( لم يحدث ............ )
صمتت و عيناه تنفذان بتحدي الى داخل أعماقها ..... فاحمر وجهها من مدى جرأتها المفاجئة فحاولت أن تخفض عينيها الا أنه لم يسمح لها حين أعاد رفع وجهها اليه بإصرار ...
فنظرت اليه مضطرة ..... و قد احمر وجهها بشدةٍ من هذا الموضوع الغير منطوق بين أعينهما حاليا ...
نعم هو محق .... إنهما لم يعودا على البر بعد ليلة أمس .....
ليلة أمس لم تكن مجرد إجراء توقف قبل أن يصل لنهايته لذا يتم حذفه بسهولة .... لكنه كان بمثابة التسليم بملكيتها له ..... و قد خطت إمضاء اسمها بيدها .....
بينما كان هو يحترق بذكراه الخاصة .... مشتاقا , محبطا , متسائلا نفس السؤال الذي لن يحصل على جوابه أبدا .... " هل كانت لتسلم لغيره ؟!! ...... "
تنحنح أخيرا يتنفس بخشونة .... مبددا بعضا من احتراقه الداخلي , ثم قال بصوتٍ أجش
( حسنا سيدة وعد ...... أحب أطمئنك أنني لن أنسحب لا في البر أو البحر ..... و حين تسحبنا الأعماق ذات يوم ستدركين استحالة ذلك حينها ..... )
وجهها يحمر أكثر و أكثر من تلميحاته المتلاحقة .... الا أنها لم تصدقه .....
ببساطة و صراحة لم تصدقه ...... سيأتي اليوم الذي سينسحب به لأن الأمر كله ليس منطقيا ... و هو يتخيل أنها من السذاجة بحيث تصدق ذلك ....
تصدق أنها قد جرحته الآن حين ذكرت كلمة الإنسحاب ..... بينما هي تعرف أنه لن ينسحب من هذا الزواج قبل ان يتمه ..... مثله مثل أي رجل في مكانه .....
و خاصة هو ...... لن ينسحب قبل أن يحصل دينها له كاملا .... و قد يتطاول حتى يحصل دين والدها كذلك ...
تنهدت وعد بشرود و هي تفكر بأنها قد ارتضت بتلك الصفقة ..... فلا يجب عليها الآن تمثيل دور الضحية ...
الحياة تنازلات .... رفضتها بقوة حين كانت تمتلك قوة الشباب و حماسه .... أما الآن .... فهي تتنازل بصمت فلا داعي للتفكير طويلا و تحميل نفسها أكثر من اللازم .....
كان سيف ينظر اليها مسحورا ببشرتها الشاحبة الشفافة و هي تتورد و تتماوج في احمرارها حتى الاذنين مع كل كلمة منه .... لم يرى فتاة من قبل تتفاعل بشرتها مع كلام رجل بتلك السهولة و الوضوح !!
لم يظن أن ذلك ممكنا قبلا ......
وعد عبد الحميد العمري ...... فتاة متناقضة للغاية , حصلت على النشأة و التربية الخاطئة من كل الجهات ... الا أنها على الرغم من ذلك لا تزال تحتفظ بفطرة تحسدها عليها أجمل و أرقى النساء ....
أومأت وعد برأسها بسذاجة ... ثم حاولت الابتعاد و قد بلغ منها التوتر و الخجل أقصى حد , الا أنه عاد ليجذبها من كفيها اليه فتسقط على صدره ...
قالت وعد أخيرا باختناق خجول
( سيف يجب أن أذهب الآن ...... أرجوك )
قال سيف بصوتٍ أجش
( لن تذهبي الى أي مكان الآن .... خاصة بعد أن أتيت الي بقدميكِ ..... مرتدية ثوبك ذو الورود و قد أطلقت شعرك .... أي أنكِ تتحديني في كل ما حذرتك منه سابقا .... )
كانت عيناه تلتهمانها بقوة ... و قد امتلك الحق أخيرا دون الشعور بتأنيب الضمير , مع الشعور بالرغبة فيها و الرغبة في خنقها من امتلاك تلك الجاذبية دون محاولة اخفائها ....
على الأقل لقد امتثلت قليلا و تكرمت بارتداء السترة القطنية البيضاء المفتوحة من فوقه ... لكنها لم تجدي نفعا بالنسبة اليه .....
ارتبكت وعد قليلا و هي تمسك بخصلة شعر منسدلة من احدى مشبكي شعرها تنظر اليها بشرود ... ثم قالت بخفوت
( بما أنني عروس ..... فكرت أن التأنق يحق لي اليوم .... )
اشتعلت عيناه بنيران هوجاء وهو يهمس بصوتٍ متحشرج
( التأنق خلق من أجلك ........... )
و قبل أن ترد كان قد انحنى اليها يقبل وجنتيها بنعومة الورد .... و أصابعه تتخلل شعرها بنعومته التي تسلبه القدرة على تركه دون أن يشعثه بفوضى ناعمة ....
كل مرةٍ يجد بعضا من شعراتها بين أصابعه ما أن يبتعد عنها .... كان ذلك يجعله يريد أن يطعمها بنفسه و في نفس الوقت تزيد من شوقه الي شعرها أكثر و أكثر ....
ابتعدت وعد منتفضة و هي تعدل من سترتها القطنية .... و هي تقول بتعثر
( حسنا .... ماذا أفعل اليوم و غدا ... و الى أن يحين موعد التدريب ؟؟ ... )
أخذ سيف نفسا عميقا وهو يراقب احمرار وجهها الساحر ... ثم قال أخيرا باتزان مزيف
( يمكنك المجىء وقت تشائين .... على الرحب و السعة ... و يمكنك تقديم قهوتي كما تفضلتِ اليوم .... لكنك ممنوعة من العمل نهائيا ..... )
عقدت وعد حاجبيها و هي تقول بغباء
( لكنني في حاجة الى راتب هذا الشهر .......)
ظل سيف ينظر اليها يائسا ... صحيح أنها قد مرت بظروف صعبة , الا أن تفكيرها لا ينصب سوى على الرواتب و الحوافز و الإعانات و المساعدات .... لقد بدأ فعلا يشعر بأنها حالة من البؤس ميؤوسا منها ...
لقد نست أصلا أنها أصبحت زوجة مدير هذا المكان ... و تفكيرها أقتصر في لحظةٍ واحدة على راتب الشهر الذي قد يضيع منها !! ....
كم يعشق تلك اللحظات التي تستسلم فيها لهواه الجامح .... حينها يشعر أنها أخيرا قد انتمت الى عالم البشر ...
قال سيف أخيرا بخفوت
( لا حاجة بكِ الى الرواتب بعد الآن ..... لقد أصبحتِ زوجتي إن كنتِ قد نسيتِ )
ارتبكت وعد قليلا و هي غير مستوعبة اللقب بعد .. ثم قالت أخيرا بحذر
( لم أعتد أن ......أكون مسؤولة من أحد .... لقد ارتضيت المساعدة منك لكن ليس بالكامل و دون أن أفعل شيء في المقابل .... )
استقام سيف من مكانه ببطء فتراجعت خطوة تلقائيا ... الا أنه قال بلا تعبير
( أنتِ زوجتي ........ )
و كأنه بذلك قد شرح مقصده لها .... همست وعد بتوتر و حرج
( لكن ........ )
اعاد سيف بنبرةٍ أشد صلابة قليلا علها تفهم أخيرا
( أنتِ زوجتي .......... )
صمتت و هي تنظر الى ملامحه المتصلبة ... و رمشت بعينيها ....
بماذا تفكر !! .... هل كانت تتخيل أن تقدم زوجة المدير المشروبات و الطلبات الى العاملين هنا !! و يقبل المدير بذلك !!! ..... ربما هي فعلا من الغباء بحيث لم تدرك وضعها الحقيقي الآن .....
قالت وعد أخيرا بارتجاف
( أنا .... أنا .... لن أعطلك أكثر من ذلك , ..... سأذهب الآن ..... )
الا أن سيف ظل ينظر اليها بتصلب .... ثم قال أخيرا بجفاء
( اذهبي لكن لا تغادري المكان ...... سأقلك معي ... )
هزت رأسها نفيا بسرعة و هي تقول
( لا داعي حقا ..... أنا س ..... )
قال سيف بنبرةٍ جليدية
( اذهبي يا وعد ....... و أخبري الجميع عن زواجنا )
اتسعت عيناها قليلا ..... تخبر ماذا ؟!! ...... تخبر من ؟!!! .... هل سيتركها في وجه المدفع وحدها ؟!!
انها حتى تشعر بالرعب من تخيل الموقف .... مرعوبة من تخيل نظرة الذهول على وجوه الجميع ...
موقف غير مرغوب .... و مهين .... مهين للغاية ......
ظلت تنظر اليه متسائلة عن هدفه بخوف .... الا أن وجهه القاسي لم يظهر تعبير وهو يقول بصوت خافت آمر
( هيا اذهبي ........... )
ظلت واقفة لحظة .... ثم اقتربت منه بتعثر حتى وصلت الي حافة المكتب التي يستند عليها فمالت كي تأخذ الصينية من خلفه ...
ثم استقامت لتتراجع و هي تنظر الي عينيه المحدقتين بها ... ثم استدارت لتخرج و نظراته تلفح ظهرها ...
أغلقت الباب خلفها و هي تضع يدها على صدرها اللاهث .... ما ذلك الذي رمت نفسها به ؟!! ....
خرجت من غرفة علا الفارغة الى الممر ببطىء شاردة و صينيتها تتأرجح في يدها .... الى أن وصلت الى مجموعة من الموظفات كن يتضاحكن معا و من بينهن علا .... التي ما أن رأتها حتى نادت باسمة بعفوية
( وعد ..... أريد قهوة بالحليب من فضلك .... )
ثم نظرت الى زميلتها لتتابع ماكانت تتناقش به .... بينما قالت أخرى
( و أنا يا وعد من فضلك أريد شاي أخضر .... لكن رجاءا يا وعد ... رجاءا ... تذكري أنني لا أشربه بسكر ... كل مرة تنسين و تحضرينه محلى ..... )
بينما هتفت واحدة و هي تخرج حقيبتها
( اسمعن ..... أنا أتضور جوعا حيث لم أتناول عشائي بالأمس .... لما لا نفطر سويا ؟؟ ..... أنا أتضور شوقا الى كعكات المقهى المجاور ..... ما رأيكن ؟؟ ....نرسل وعد سريعا )
برقت أعينهن و قد لاقت الفكرة الرضا كاملا ... ثم هتفت علا
( آآآه أنتِ مصدر الفساد دائما .... كل هذه السعرات في الساعات الأولى من الصباح !! ... ماذا سنترك للباقي اذن !! .... لكن من يستطيع المقاومة .... )
ثم نظرت الى وعد تقول بابتسامة عريضة
( لكن قهوتي قبلا يا وعد من فضلك ..... فأنا لم أستجمع تفكيري بعد .... )
بينما قالت الأخرى و هي تخرج حافظتها
( خذي المال يا وعد ...... هل معك ورقة و قلم لتكتبي ما نريد ؟؟ .... )
بينما وعد واقفة مكانها متشبثة بصينيتها و هي تستمع اليهن بنفسٍ منقبضة .و أعين منطفئة ... لم يكن ذلك يشكل لها اهانة من قبل ... كان عملها .... لكنها الآن كانت تشعر بمزيج من الرهبة و الحرج و الإهانة ....
لم تدري ماذا تفعل .... لا تجد القدرة على النطق .... النطق بماذا ؟!! .... ماذا ستقول ؟؟ ....
قررت في لحظة أن تمتثل لهن و تحضر ما طلبنه ثم من بعدها تختفي كي لا يطلب منها أحد أي شيء ...
كانت ميرال في تلك اللحظة تقترب منهن برشاقة و قد التقطت أذنيها نهاية الحوار , فتوقفت لتقول محذرة بشكل مازح
( احذرن يا فتيات ...... أنتن الآن ترتكبن خطأ فادحا ووعد توقعكن في الفخ .... )
وقع قلب وعد بين قدميها و هي تنظر اليها متوسلة الا تنطق بكلمة ... لكنها تابعت متجاهلة نظرتها
( وعد الآن أصبحت زوجة السيد المدير ..... رسميا .... )
لم يصدر أي رد فعل للحظة ثم بدأت الضحكات في الإرتفاع واحدة تلو الأخرى ... و بعض المزحات مثل
( تخيلي لو كان هذا صحيحا ..... )
( حينها كان سيكون لدينا عين جاسوسية في مكتب سيف الدين فؤاد رضوان )
( هذا هو آخر رجاءه عقابا على أنفه المرفوع دائما .... عذرا يا وعد لا أقصد إهانة هههههههه )
( اخفضن صوتكن كي لا يصل هذا الكلام لسيف الدين ...... و تصبحن في عداد الأموات ... )
قالت علا محذرة على الرغم من ضحكها
( انتبهن يا بنات ..... وعد قريبة المدير رغم كل شيء , قد تشي بنا ..... )
( وعد هل أنتِ بهذه النذالة ؟!! ...... هل ستشين بنا حقا و تخبريه أننا نروج اشاعة زواجكما ؟!! ههههههه )

بعينك وعد. 🌺 بقلم تميمة نبيل 🌺حيث تعيش القصص. اكتشف الآن