عِندما التقيتُ عُمرَ بن الخَطاب

19 4 2
                                    



أستلقي فوق العشب الأخضر، أنظر لهذا الفضاء المتسع، سمعت صوت سحق العشب تحت الأقدام، لكن لم أتحرك من مكاني، فما يدور داخل عقلي الآن يشل حركتي، انحنى كاز وهو يبتسم بعفوية:
"أهلا إيلي"

لأحاول الابتسام بدوري وأنا أقول:
"أهلا بابا"

لم يزد على هذا، وجلس بقربي يتأملني بينما أتأمل أنا النجوم، قبل أن أجلس.بسرعة لم تعد تخيفه بعد اعتادها، وأسال:
"لم يفضل الجميع رمي التهم بدل النظر والتمعن في الأمور؟"

عقد حاجبيه باستغراب، وما لبث أن رأى الكتاب الذي يقبع أسفل يدي، ليبتسم بهدوء:
"وما التهم الموجهة له أميرتي؟"

إيلين: "قالوا خالف الخليفة صريح القرآن! وقالوا، وقالوا خالف القرآن الكريم والسنة النبوية بقطعة لسهم المؤلفة قلوبهم ورفض إعطائهم من الزكاة، وقالوا خالف القرآن فحرم الزواج من الكتابيات وما هو بحرام! ولم يكتفى بل أمر من تزوج بكتابية أن يطلقها، يقولون إن الله تعالى فرض الجزية على أهل الكتاب بصريح قوله: «حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقد كانت تغلب على دين النصارى في خلافته، فرفض أن يدفع الجزية بهذا الاسم، وطلب أن يُضاعف عليهم المبلغ وتسمى صدقة بدل جزية لأنهم نفوا أن يكونوا عربا وعليهم جزية، فما كان من عمر بن الخطاب إلا أن قبل بهذا، فكيف يفعل، كيف يُسقط أمرًا أمر الله به، كيف يُغير المسميات الشرعية النازلة من عند الله، أليس هذا اجتراء على الله وشريعته؟!"

أخذت شهيقا وزفرته أحاول الترويح على نفسي كي لا أنفجر، لكني أكملت بعدها:

"يقولون: كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ، وخلافة أبي بكر لا يكون طلاقًا بائنا إذا قاله الزوج ثلاثا دفعة واحدة ، وإنما تحسب عليه طلقة واحدة، فلما جاء عمر بن الخطاب غير هذا، وجعل من طلق زوجته ثلاثا في موضع واحد طلاقا بائنا لا رجعة فيه، فكيف لعمر أن يخالف رسول الله ﷺ، وخليفته من بعده، أليس هذا اجتراء منه على الإسلام، وتضييقا على المسلمين؟ ويقولون: منع عمر بن الخطاب الناس من كتابة حديث رسول الله، أليس هذا استخفافا بالسنة الشريفة، وعدم الخوف على ضياعها، وكيف لرجل افتتح الدواوين، وسجل فيه الناس صغيرهم وكبيرهم أن يزهد في تدوين حديث رسول الله ﷺ، ألا يندرج هذا في باب عدم الاكتراث؟! ويقولون: إن عمر بن الخطاب قد منع الناس من رواية الحديث والرجوع إلى القرآن وحده"

للمرة العاشرة أثناء حديثي، زفرت بغضب أتحكم بنفسي قبل أن أقول وهناك غصة في حنجرتي ودموع تهدد بالنزول:

"يقولون: بقي عمر بن الخطاب جريئًا على الله ورسوله حتى آخر عهده بالدنيا، فلما طعن ونام على فراش الموت، أوصى أن تكون الخلافة في أحد ستة رجال، ثم إنه بحجة حفظ أمر المسلمين أمر بلال بن رباح قائلا له: إذا اختلف أهل الشورى من الستة فاقتل الأقل! يقصدون بذلك أنك أراد أن يقول له: إذا اتفق أربعة ضد ثلاثة، اقتل الثلاثة، وإذا اتفق خمسة ضد اثنين اقتل الاثنين، وإذا اتفق ستة ضد واحد اقتل الواحد فلما راجعه بلال مستغربا قائلا: أقتله يا أمير المؤمنين؟ قال له: اقتله ، لا أريد خلافا بين المسلمين"

ربت كاز على كتفي بهدوء وقال:
"وما رأيك أنت في قولهم؟"

اختفت الغصة من حلقي وقلت بصوت أشبه بالصراخ:
"كذب! كذب وبهتان كبير، كيف لشخص أن يصدق هذا الهراء! قال صلى الله عليه وسلم: (اثبت يا أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان)
يقولون عن من نبّا النبي صلى الله عليه وسلم بشهادته هذا الحديث الذي لا يخرج سوى من شفاه من عادى الإسلام؟ كان عمر رضي الله عنه قويًا في الإسلام وفي الجاهلية، لا يحق لجاهل أن يقول عنه هذا"

أومئ بهدوء وسحب الكتاب من بين يدي، قلب صفحاته بسرعة واستقر على صفحة فقرأ محتواها:

"وأتى من بعيد فارع الطول كأنما بينه وبين النخيل قرابة! صلب كأنه قد من خاصرة جبل! في يده اليسرى عصا تشعر إذا رأيته يغرسها في التراب أنه يحتاجها للاتكاء وإنما ليثبت بها الأرض في مدارها! كث اللحية، أبيضها، كأنها ثوب إحرام! لا ثيابه بالية تخبر أنه من فقراء الأعراب ولكن وجهه الوضاء كسراج، وعينيه الصاخبتين كأنهما ساحة معركة، يُخبران أن هذا الرجل لا يوجد منه الكثير، وليس من الرجال الذين بالإمكان أن نلتقي بهم كل يوم، كل شيء فيه يوحي أن وراءه حكاية، أو لعله حكاية بحد ذاتها! ولما صار على بعد ذراع مني أردت أن أسأله: من أنت؟! ولكن ثمة رجال من فرط هيبتهم يحبسون الكلام في صدرك، وقد كان واحدا منهم!"

همهم بهدوء ثم التفت إلي قائلا
"عندما التقيت عمر بن الخطاب، آدهم الشقراوي، يمكنني استعارة هذا الكتاب منك؟"

"أأجل بالتأكيد، استمتع به، لكنه كتاب دسم فاحذر"
ضحك بهدوء ثم وقف ومد يده لي، فوقفت كذلك ليمسك بيدي وندخل إلى المنزل معًا.

-إيلي

نَسِيجُ الأحرُفِ.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن