19- حديث منتصف الليل..

46 5 0
                                    

"العين تقول ما يقوله القلب، لكن رماديتيه لم تكن تنطق بشيءٍ غير الهدوء و البرود.. كأزرقِ محيطٍ هادئ و صقيع عاصفةٍ ثلجية"
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.







بعد يومين..

غطت الثلوج طرقات موسكو، في ليلة باردة غلفها الصقيع، و ترك قطعه الجليدية الحزينة على حواف المنازل و الأعمدة، إنعكست أنوار الطرقات على بياض الثلوج الناصعة، و أصدرت الرياح أنينها تمر بين الشوارع تداعب وريقات الأشجار ذات الرداء الأبيض..

تجاوزت الساعة منتصف الليل، في الوقت الذي كان من المفترض أن الجميع نيام، كان صوت خطواته فقط من يتواجد بذلك الشارع تحديدا..

يقطع طريقه نحو المجهول بخطوات هادئة، ينظر نحو السماء بملامحه المتجمدة التي تلائم بيئته، كانت مقلتيه متعبة، متعبة بشكل لن يراه غيره، إحتلها الصقيع فجعلها أكثر حدة و قوة بنظرة تخفي الألم و التعب و الضعف الذي يشعر به حاليا..

العين تقول ما يقوله القلب.. لكن رماديتيه لم تكن تنطق بشيء غير الهدوء و البرود..

كأزرق محيط هادئ و صقيع عاصفة ثلجية..
توقف أمام بيت خشبي من الطراز العتيق يخرج أنفاسه المتجمدة ينظر إلى الواجهة الخشبية المعلقة التي تتحرك نتيجة الرياح.. منقوش على ظهرها حرفين بشكل مهمل..

o.w

أنزل مقلتيه إلى الباب أمامه قبل أن يهم بطرقه طرقات مدروسة و محسوبة و نغمة منظمة..

فُتح الباب فتقدم خطوتين يتجاوزه إلى أن أُغلق خلفه، كان بيتا عتيقا، أنيق المظهر، تربعت الأريكة البنية في آخر غرفة المعيشة، لامستها ستائر النافذة من الأعلى و السجاد التقليدي من الأسفل، إقترب من ذلك السجاد ينحني إليه يسحبه عن الأرضية جانبا، لتظهر لهُ بوابة خشبية مُغلقة، قام بفتحها بهدوء فأصدرت صوت إحتكاكها، ظهر الممر المظلم المؤدي إلى الأسفل على شكل سلّم باللون الأسود..

لم يكن هناك صوت سوى صوت أنفاسه الهادئة، دخل الممر يغلق خلفه، يتقدم بخطوات مدروسة إلى أن ظهر أمامه نور أزرق، توقف لحظات يدعو في نفسه أن يكون كل شيء على ما يرام و هو يضغط على قبضة يده بقلق واضح من ملامحه، أكمل سيره و طرق البوابة إلى أن فُتحت من الجهتين، و ظهر من خلفها عجوز يرتدي الأزرق بشعر أشيب و لحية تلامس عنقه، نظر إليه من خلف نظاراته المستديرة يضيق أعينه بملامح صارمة..

- ياسر!.. أهلا بكَ يا بني..

- أهلا بكَ جدّي..

إبتعد الجد عن البوابة يفسح المجال له قبل أن يغلقها خلفه، ظهر لهُ السرير الأبيض بجانبه وُضعت المعدات الطبية على طاولة جانبية، و من الجهة الأخرى كيس مغذيات معلّق، لكن لم يكن هناكَ أحد في السرير!
ظهرت عُقدة بين حاجبيه، كان ينتظر رؤية شخصٍ ما في هذا المكان تحديدا.. و لكن لا أحد!

إبتسم الجد حالما لاحظ قلقه و برود نظراته نحو السرير الأبيض، لكن سرعان ما أخفى إبتسامته يعود لجديته حالما إلتفت ياسر إليه مستفسرا، و قبل حتى أن ينطق بكلمة واحدة، تكلم الجد..

- يُمكنك أن تطمأن الآن، لقد نقلتُه إلى غرفة أخرى أكثر تطورا من هذه، و هو تحت العناية المركزة..

- هل أفهم من هذا أنّه نجى! و يستطيع الوقوف بعد أسبوع!؟

- لا أدري يا بني، ذلك تقدير الله، إصابته حرجة و في منطقة حساسة، كاد يُقطع وريده.. و نجاتُه تعتبر معجزة..

- ماذا إن لم ينجو!؟

- تفائل خيرا و دعك من تلكِ الهمسات التي تُرهقك.. تعال إجلس الآن هنا و أخبرني كيفَ حالُ إبنتي، أعتقد أنك ذهبت إليها قبل مجيئك إلى هنا..

جلس ياسر على المقعد المستند بالجدار أمام جده بهدوء و إبتسم أبتسامة صغيرة..

- أمي بخير يا جدي، لا أزال أحاول إقناعها بالقدوم إلى روسيا أو إنجلترا، لكنها ترفض دائما، هي لم ترضى بغير الجزائر وطنا.. و هي تبلغك سلامها جدي..

نزع الجد نظاراته و أخذ ينظر إليها بين أنامله ذات التجاعيد، يبحر في ذكريات الماضي خاصته بحثا عن صور إبنته الصغيرة.. إبنته الوحيدة.. و إبنته المدللة.. يبحثُ عن حكاياتِ يخبر بها حفيدهُ الذي يحبها..

- أمّك كانت هكذا منذُ صغرها، عنيدة في ما يتعلق بحبها للوطن، لوطننا الأم، بلد المليون و النصف مليون شهيد، لو تعلم كم جلستُ أقنعها بإكمال دراستها في إنجلترا..

- لماذا إخترتَ روسيا يا جدي!؟ أنت أيضا كنتَ جزائريا دما و أصلا و جنسية، و الآن أجدك تخليتَ عن كل ما يربطك بوطنك الأم، و أصبحت مواطنا روسيا كالجميع.

- ستجد إجابة كل هذا في وقته أيها الحفيد المتمرد، تتحدثُ و كأنك لا تملكُ جنسيتين إنجليزية و أخرى روسية و ربما جنسيات أخرى كذلك من يدري! متخليا عن وطن أمك..

- أنا لم أتخلى عن وطن أمي الذي يُعتبر وطني، و لولا إصرارك على بقائي هنا في ما مضى لما أخذتُ الجنسية الروسية أساسا..

- حتى و إن قلتُ لك الآن عد إلى الجزائر فلن تفعل، لذلك لا جدوى من المحاولة معك أيها الحفيد المتمرد، أخبرني عن حفيديَّ الآخرين هل هما بنفسِ جنونك!؟ أتسائل فقط كيف تمتلك رصانة محامي!

هز ياسر رأسه بقلة حيلة، كلام جده دائما ما يريح صدره، حتى و إن كان حديثا عابرا بدون هدف، فذلك يبث السكينة بداخله المليئ بالخربشات و الأفكار التي لا فائدة منها..

- و من سيشبهان من غيرِ أخيهما الكبير.. لكن ليس إلى درجة جنوني..

أطلق الجد ضحكة من كلامِ حفيده الذي أبتسم حينها لأنه يعلم ما سيقوله الآن جده، و هو ما يقوله عادة.

- ياسر..إنضج يا ولد.. ألا تزال تقول أنكّ أخوه الكبير! هو توأمك.. توأمك..

- أعلم..لكن ثلاث دقائق تشكل فارقا..

- بما أنك لا تزال متمسكا برأيك..إن قتلكَ زين ذات يوم لا تسألني لماذا..

ضحك كلاهما عند كلمات الجد الأخيرة، جانبُ ياسر هذا لا يظهر مع الجميع أبدا، و كما قال الجد كيف يمتلكُ رصانة المحامي!؟

.
.
.
.
.
.
.
عالمي المظلم مضاء بنجومكم

 the only witness /الشاهدُ الوحيد حيث تعيش القصص. اكتشف الآن