الجزء الثالث من الفصل الخامس

88 4 0
                                        

أنه هو، هل يعقل هذا! لقد وجدته أخيرا في آخر مكان توقعت أن تجده فيه، سارت إليه بلا إرادة  مغيبة مذهولة مشتاقة، ندهتها اختها وسألتها "إلى اين انت ذاهبة " لم  تجبها لأنها لم تسمعها، فهي لم تعد تسمع سوى تمتماته وهمهماته بآيات من القرآن غير واضحة، كان واقفا أمام أحدى القبور ممسكا بيده باقة من زهور الجوري المنعشة ، وكلما اقتربت شمس منه كانت رئتاها تمتلآن بعبقها وعبقه فينشرح صدرها، ولما شعر بها خلفه التفت واندهش حينما رآها ، ابتسم في حنان وحنين قائلا:
ازيك ياشمس ياحبيبتي، اخبارك ايه ياملبسة!
ابتسمت له في انتشاء وعيناها تدمع من السعادة، نظرت مجددا في نشوى متزايدة إلى  ورد الجوري بين يديه ثم عادت ونظرت في وجهه الأسمر الطويل الجميل فلم تجده كما هو... أنه ليس  يوسف كما ظنت، أنه دكتور ياسر والده، تعجب دكتور ياسر من صدمتها المفاجئة ولكنه لم يبالي كثيرا وألقى التحية وانصرف بعد أن وضع باقة الزهور فوق القبر الذي لم تلمح شمس ما كتب على شاهده بسبب صدمتها الشديدة، ولكنها في طريق العودة إصابتها ريبة ورهبة وهي تتسأل "'على قبر من كان والده واقفا يا ترى! " ولا تعلم لماذا انقبض قلبها فجأة شاعرة أنه قبر  يوسف حبيبها!... لا هذا مستحيل فهيئة دكتور ياسر التي رأتها منذ قليل ليست هيئة أب فقد ابناً كيوسف منذ قرابة عام ونصف العام فقط ، هذا ما قالته شمس لنفسها كي تطمأنها ولكنها عليها التأكد لتزداد اطمئنانا...
في اليوم التالي امتطت ( شمس) سيارة أجرة  وذهبت إلى المقابر لتتبين لمن الاسم الموجود على شاهد القبر الذي كان دكتور ياسر موجود أمامه وعندما قرأته توقف قلبها من الصدمة... شمس سعد سليمان... أنه اسمها! أنه قبرها!...يا إلهي!
استيقظت شمس من نومها تشهق مفزوعة من جراء الكابوس الذي راودها في هذه الليلة الكئيبة كباقي لياليها، ناولتها اختها كوبا من الماء وحاولوا تهدئتها، عليها أن تذهب حقا إلى المقابر لتعلم لمن كان هذا القبر الملعون!
أمام المقابر من الخارج  وقفت محتارة تقدم قدما وتؤخر أخرى، الغريب في الأمر  أن حارس المقابر كان يعرفها جيدا وسألها بعفوية:
فيه حاجه ياست شمس ، ماتدخلي ولا انت مستنية حد
دعاها لدخول المقبرة بابتسامة باردة خبيثة  وكأنها مكانها الطبيعي فشعرت شمس بالذعر وانصرفت مسرعة، ولكنها لن تعود إلى المنزل، عليها أن تبحث عن يوسف حيا لتعرف حقيقته بدلا من أن تبحث عن ميتا مجهولا لا تعرفه
دون تفكير وجدت  قدمها تأخذها إلى مستشفى دكتور ياسر عبد الجواد، وعندما سألت عن دكتور ( يوسف ياسر عبد الجواد) اخصائي جراحة المخ والأعصاب أخبروها أنه لا يوجد أحدا هنا بهذا الاسم او ذاك التخصص، الغريب أيضا أنها لم تلمح دكتور يحيى ولا دكتور ياسر في أثناء تواجدها في المستشفى، فقدت شمس الأمل تماما وبدأت تشك بأنها مجنونة تهلوس وأن العالم الذي خلقته في خيالها ليس له في الأصل أي وجود ولكنها  رأت كوثر من بعيد في إحدى طرقات المستشفى، ندهتها بلهفة فاقتربت كوثر مشتاقة باسمة، احتضنتها كوثر فورما وصلتها ثم راحت تطمئن على حالة شمس الصحية وأخبار ذاكرتها فأعربت لها شمس عن سوء حالتها الصحية والنفسية وعن سوء حالة ذاكرتها
" تخيلي مش عارفة افتكر علاقتي بيوسف أبدا لغاية دلوقتي"
نظرت لها كوثر ببلاهة متناهية، كادت أن تقول شيئا هاما ولكن أحدا ما ندهها فاستأذنت من شمس وذهبت متعجلة...
ماذا يحدث هنا، لما ينكرونه! هل أوصاهم أبوه ورب عملهم بذلك؟
شمس لن تيأس ولن تستسلم، عليها أن تخطط الآن لخطوتها الثانية للبحث عنه، فلابد أن تجده وتعرف منه الحقيقة كاملة كي تستريح... أو ربما تتعب أكثر!
سارت شمس في طرقات المدينة شاردة لا تنفك تفكر في أمر يوسف العجيب وفي أثناء انهماكها في التفكير وجدت قدماها يأخذانها باتجاه البيت القديم الحديث الذي تأجره لها يوسف منذ قرابة العام ونصف العام
البيت بدا مرعبا للغاية من الخارج لم يكن هذا هو أبدا نفس البيت الذي عهدته والِفته، حتى أنها لم تعرفه في البداية وشكت أنها أخطأت العنوان... ولكن لا... أنه نفس عنوان منزلهما القديم الحديث
دفعت شمس الباب فأحدث صرير اقشعر له سائر بدنها ثم سارت بخطى مرتعشة تتأمل الحديقة الذابلة المهملة المليئة بالأشواك اليابسة، تلك الحديقة كانت منتعشة في عصر ما بالرياحين والورود التي تملؤها فكيف ذبلت جميعها هكذا فجأة والأغرب من ذلك أن البيت الذي كان عبارة عن شقة واحدة أصبح فجأة عمارة عالية، متى بنيت كل هذه الطوابق! لا... ليس هذا هو السؤال المناسب في هذا الوضع المريب، عليها أن تتسأل كيف اصبحت هذه الطوابق التي لم تكن موجودة منذ عام ونصف قديمة كل هذا القدم!
سرى الرعب في جسد شمس وهمت بالانصراف ولكنها لمحته بالداخل خلف زجاج إحدى النوافذ فركضت نحو الباب ملهوفة من جديد، هذا هو الباب الذي كانت تملك مفتاحه يوما ما ولكنها اضاعته بملكها، دقته بوتيرة متزايدة متوازية مع دقات قلبها، سمعت صوت خطوات تقترب لتفتح لها، فتسارعت بشكل أكبر دقات قلبها، تنهدت في لهفة وهي تحضر مسبقا ابتسامة مشتاقة قلقة متوجسة...

ملاكي الساقطحيث تعيش القصص. اكتشف الآن