part 25 : صدمة

47 2 4
                                    

في مكان أخر...

مرَّ شهرٌ على استيقاظ فارس وقد تماثل للشفاء تماماً وأصبح يستطيع السير والاعتماد على نفسه في أغلب حاجاته، وقد قرر أن يعود لقريته..
جهز فارس نفسه وخرج ليودع رعد قبل رحيله..
: قررت الرحيل.. لقد اعتدت على وجودك.. سأعود وحيداً مجدداً..
: أشكرك على كل مافعلته.. لولاك لما عدت للوقوف على رجلي مجدداً..
: لا تشكرني فارس.. أنت بمثابة أخي الصغير.. عد لزيارتي..
: سأفعل..
: سأنتظر مجيئكَ مع زوجتكِ..
ابتسم فارس وصافح رعد وسار في طريقه، نظر إلى الخاتم في يده ثم وضع يده على الجهة اليمني من وجهه وتمتم لنفسه: تري هل ستعرفني مع ما أصاب وجهي..!؟
سكت قليلاً وكأنه ينتظر اجابةً ثم قال: بالتأكيد ستعرفني.. فهي ياسَمين.. حبيبتي.. أه كم اشتقتُ إليها وإلى سحر عينيها..
تابع سيره الذي استغرق يوماً كاملاً وعدة ساعات وعندما وصل..

دخل إلى القرية فرأي كلَّ شيئ بها قد تغير، الأسواق، البيوت، حتي الناس تغيروا..
رأي الكثير من الناس لم يعرفهم، أهل قريته الذين كان يعرفهم ويعرفوه من كبيرهم حتي صغيرهم لم يتعرفوا عليه بسبب التشوه الذي أصاب نصف وجهه الأيمن والذي كان يغطيه بشعره، جال بنظره في طرقات القرية وأكمل وجهته نحو منزل ياسَمين..
عندما وصل كان الشوق قد غلبه، والحنين إليها قد نال منه، دقَّ الباب فلم يجبه أحد، دقَّ مجدداً ولكن لا حياة لمن تنادي، فتح الباب وهو يفكر أنه ما إن يراها حتي يندفع ليعانقها عناقاً طويلاً يطفي به لوعة الفراق..

دخل البيت وتفاجأ بما رآى، البيت خالٍ تماماً، أغطية بيضاء وضعت على أثاثه البسيط، ورائحة الغبار هي المسيطرة على المكان، كان يلتفت في أرجاء البيت الصغير الذي يتكون من غرفتين ومطبخ وحمام، البيت الذي حمل بكائها وضحكاتها وكلماتها كان خالياً تماماً..
كان كالغريق الذي يبحث عن قشةٍ يتعلق بها، كان كالتائه الذي يبحث عن طريق العودة لوطنه..
تأمل سريرها واتجه نحوه وجلس عليه، أخذ وسادتها بين يديه وقرَّبها من أنفه ليشمها، كان يبحث عن بقايا رائحة شعرها الفاتنة لكنه لم يجد شيئاً، كانت باردة، باردة جداً، وخاليةً من الحياة..
عاد ليقف في وسط المنزل يتأمله، وبينما هو هكذا دخل عليه رجلٌ عجوز كان يعرفه سابقاً، لكن الرجل لم يتعرف عليه بتاتا بسبب التشوهات التي أصابت نصف وجهه..
نظر إليه طويلاً وقال: كيف دخلت إلى هنا..؟
: لقد وجدت الباب مفتوحاً..
: ومالذي تريده..؟
: كنت أبحث عن الفتاة التي تسكن هنا.. هل تعرف أين هي..؟
: ومن أنت..!؟ ليس لدى الفتاة أي معارف أو أقارب فمن تكون..!؟
احتار فيما يخبر الرجل، أراد أن يخبره أنه خطيبها لكن شيئ ما في قلبه كان يخبره ألاَّ يفعل، فتحرك لسانه بما يريد قلبه..
: أنا أحد معارف الشاب الذي خطبها.. جئت أبحث عنه وفكرت أن أسألها عن مكانه.. هل تعرف عنها شيئاً..؟
تنهد الرجل العجوز ثم قال: يبدو أنك لم تسمع شيئاً.. ذلك الفتي فارس قُتل في المعركة التي حصلت بين قريتنا وجيش الامبراطور..
: قُتل..!؟
: أجل.. نحن لم نرى جثته لكن صديقه الذي كان معه في المعركة أخبرنا أنه قُتل وأنه لم يستطيع احضار جثته..
: والفتاة..؟ ماذا حدث لها..؟
: تلك المسكينة.. بعدما سمعت خبر وفاة خطيبها لم تغادر بيتها أبداً وكانت حزينةً جداً لفقدانه..
: وأين هي الأن..!؟
: لقد تزوجت..
كانت هذه الكلمات كالصاعقةِ التي كسرته، كان لها وقعٌ أقوى من ضربات السيوف وصوت الرماح في المعركة التي أبعدته عنها..
تمتم بدون ادراك: ماذا قلت..؟
: بعد شهرٍ من موت خطيبها تزوجها الامبراطور.. لا أحد يعلم كيف حدث ذلك لكن هناك من يقول أنها أُرغمت على الزواج منه..
: هل أنت واثقٌ مما تقول..؟
: أجل.. إن لم تصدقني اسأل أي شخصٍ في القرية..
خرج من البيت وهو ضائعٌ بين الصدمة والألم، مشي طويلاً وهو هائمٌ في أفكاره إلى أن قادته قدماه إلى بيت نرجس ، فتح له والدها فسأله: هل نرجس هنا..؟
: من أنت..؟
: أنا..
توقف قليلاً ثم قال: أريد أن أسألها عن شيئ ما.. أيمكنني ذلك..؟
: نرجس ليست هنا.. لقد رحلت للعمل في القصر الامبراطوري..
: في القصر..؟
: أجل..
: وصديقتها..؟
: ياسَمين..
: أجل
: المسكينة.. تلك الفتاة لم ترى السعادة في حياتها.. لقد تزوجها الامبراطور ونحن لم نراها منذ ذلك الوقت..
رحل فارس دون أن يقول شيئاً، بينما نظرات الاستغراب علت وجه والد نرجس..

بينما هو يسير رأى صديقه رامي خارجاً من السوق، أراد أن يتقدم منه ويتكلم معه لكنه توقف فجأةً عندما رأى ميس تلحق به وبطنها منتفخة وتمسك ثوب طفل في أحد يديها، أمسك رامي يدها الأخرى وسارا معاً يتحدثان ويضحكان..
بقي يتابعهما بنظره حتي اختفيا بين البيوت، تمتم بأسي: ستصير أباً ياصديقي..
تابع سيره إلى أن وجد نفسه أمام النهر، جلس على صخرةٍ على ضفته وتمتم يحادث نفسه ( ماذا أفعل الأن.. كل ماكنت أحلم به تحطم في ستة أشهر.. ليتني متّ ولم أسمع خبر زواجها.. ومِن مَن..؟ الامبراطور.. لما هي..؟ لما ياسَمين..؟ يا الهي ماذا أفعل..؟ )
نظر لخاتمه فترائت له تلك الذكرى عندما ألبسها الخاتم..

>> :أيمكنك أن تغمضي عينيكِ..
استغربت ياسَمين من طلب فارس فسألته: لماذا..!؟ ماذا ستفعل..!؟
: فقط أغمضيهما ولاتفتحيهما حتي أخبرك..
: حسناً..
أغمضت ياسَمين عينيها فأمسك فارس يدها اليمني ورفعها نحوه وأخرج خاتماً من جيبه وألبسه لها، قال: افتحي عينيك الأن..
فتحت ياسَمين عينيها ونظرت إلى يدها ولم تقل شيئاً، سألها: هل أعجبك..؟
: إنه الخاتم الذي رأيته في الدكان..
: صحيح..
: لهذا السبب اختفيت لأيام.. كنت تعمل لتشتريه لي..؟
: أجل..
: أنا أسفة.. لم أقصد أن أكلفك أكثر من طاقتك..
: لا تقولي ذلك.. كل مايهمني أن أري الابتسامة على شفتيك.. انظري اشتريت واحداً لي أيضاً..
أخرج فارس خاتماً أخر من جيبه وأعطاه ل ياسَمين فأخذته وأمسكت يد فارس وألبسته الخاتم ثم عانقته فبادلها العناق..
بقيا فترة هكذا ثم ابتعد فارس قليلاً عن ياسَمين وأمسك خديها بين يديه وقال: هناك مفاجأة أخرى.. سنذهب غداً لزعيم القرية لنحدد موعداً لزفافنا.. موافقة..
: بالتأكيد موافقة.. أنا سعيدةٌ جداً..
: وأنا سعيدٌ أيضاً..
اقترب فارس من وجه ياسَمين وطبع قبلة على جبهتها، ثم نزل لشفتيها وقبلهما فبادلته ياسَمين القبلة...<<

شعر بقلبه ينقبض، ودقاته تتسارع، ونفسه يضيق، شعر بالدنيا الكبيرة تضيق به فخرَّ على الأرض يبكي..
فارس.. الذي لم يخف من جيش الامبراطور..
فارس.. الذي لم يستطع أحدٌ أن يطعنه في قلبه..
فارس.. الذي لم يبكي أبداً حتي في صغره..
فارس.. الذي عاهد نفسه أن دموعه على والديه ستكون أخر دموع..
يبكي على الأرض مثل الطفل الصغير، يبكي ألمه وخسارته، يبكي الفتاة التي سَرقت قلبه وآسرته، يبكي حبيبته التي سرقت منه، يبكي حبيبته التي كانت أجمل مالديه، يبكي عجزه عن حمايتها، يبكي ضحكاتها وضحكاته..
كان يظن أن ألم جرحه كبير ولا يفوقه ألم، لكنه أدرك أن ألم جرجه لا يساوي شيئاً بل هو أهون بكثير من ألم الفقد، أدرك أن جروح الجسد تُشفي وتُنسي مع مرور السنين، لكن جروح النفس تبقي مدى العمر تُألم ولا تلتئم..
بعد بعض الوقت وقف وسار مترنحاً نحو منزله، فتح الباب فترآي له طيف ياسَمين جالسةً على سريره تبكي قلقاً عليه مثل كل مرةٍ كان يغيب فيها فتأتي تنتظره في منزله ولا تغادر حتي تطمئن عليه، سار نحو سريره وارتمي عليه وغطَّ في نوم عميق..

_________________________________________

تتوقعوا كيف سيتصرف فارس.؟
كيف ح يكون رد فعل ياسمين..؟

سحر الإمبراطوريةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن