حكاية 8

380 14 1
                                    

"طير بينا يا قلبي ولا تقوليش السكة منين، ده حبيبي معايا متسألنيش رايحين على فين، رايحين على فين، على فين"

فتحِت عينيها بصعوبة، الرؤية مكانتش واضحة أوي، بس ودنها لقطت لحن الأغنية اللي اشتغلت على الراديو القديم بتاعها، اتعودِت تسيب الراديو شغال وهي نايمة عشان يطمنها، بالرغم من سنين عُمرها اللي عدت التمانين إلا إن قلبها كان لسه قلب طفل، بيخاف من الضلمة، وبيخاف تنام لوحدها، لحن الأغنية صحاها من النوم فجأة، وصحى معاها ذكريات كانت قربت تنساها، يقطع الزمن وسنينه، اللي يخلي ذكرى حلوة تندفن بالشكل ده، قامت بهدوء وقعدت على سريرها، لبست نضارتها الكبيرة، ومالت على الراديو وعلت الصوت حبة، عشان تحس باللحن وهو بيُنفض التُراب عن ذكرياتها، وكلمات الأغنية وهي بتهز قلبها من الفرحة، ابتسمِت، وبالرغم من إن أغلب سنانها كانت واقعة، إلا إن ابتسامتها كانت لسه حلوة عشان كانت طالعة من القلب، هزت رجليها مع اللحن بعفوية، وعلى الرغم من الروماتيزم وألم المفاصل اللي عندها، إلا إن طاقة الحُب اللي حست بيها وقتها كانت أكبر من وجع رجليها، الطاقة اللي خدتها لدُنيا تانية، ولزمن تاني، حبت فيه من كُل قلبها..

افتكرت اليوم اللي خدها فيه عشان يشوفوا الفيلم سوا في السينما، وازاي كانت مبهورة بكُل تفصيلة في الفيلم، أما هو، فكان مبهور بكُل تفصيلة فيها هي، يُعتبر مكانش بيتفرج على الفيلم أصلًا، لكنه كان بيراقب ملامحها، حركات وشها، ابتسامتها اللي خطفت قلبه، ولمعة عينيها اللي زادت مع ظهور محمد فوزي وفاتن حمامة جوه الحنطور، في شارع طويل وهادي بيطُل على النيل، راقب ابتسامتها وهي بتتسع مع بداية اللحن، وحركة إيديها على رجلها بالتزامن مع غُنا محمد فوزي، افتكرت إحساسها، قد إيه كانت مبسوطة وقتها، وافتكرت نظرته ليها لما انتبهِت إنه بيبُص لها، وقد إيه النظرة دي كانت بتقول ... إنه بيحبها..
"عجبِك الفيلم؟!"، سألها بعد ما خرجوا من السينما، "عجبني جدًا، أنا مبسوطة إني شُفت الفيلم ده معاك يا سعد، حبيته أوي"، بص لها، مقدرش يبعد عينيه عن شعرها اللي كان بيتطاير مع نسمات الهوا، ولا عن فُستانها الأبيض اللي كان مرسوم عليها، ابتسم للحظة، وبعدين قال لها، "وأنا ... مبسوط بس لإني معاكي"، كان عايز يكمل ويقول حاجة تانية، بس قرر ميكملش وبص في الأرض، مكانتش محتاجة تسأله، كانت عارفة إنه كمل في عقله وقال، "وحبيتِك انتي"..

قامت من على سريرها بالراحة، مسكت عُكازها واتسندت عليه، واتحركت بخطوات بطيئة لحد المطبخ، وقفت قُدام البوتجاز وحطت البراد على النار، وبعدين ابتدت تحُط الشاي والسُكر في الكوباية، معلقة سُكر واحدة بالظبط زي ما كان بيحبه، وزي ماهي اتعودت تحب كُل اللي بيحبه، صبت الماية في الكوباية وقلبت بالراحة، وبعدين خدتها واتحركت بخطواتها البطيئة ناحية بلكونة أوضتها، الكوباية كانت بتترعش في إيدها، حاولت على قد ما قدرت تتماسك لحد ما وصلت للبلكونة، وفتحتها، عشان تلاقي الشمس بتُدخل أوضتها وبتغمرها بنورها، اتحركت خطوتين للترابيزة الصُغيرة اللي كانت في مُنتصف البلكونة، واللي كان على يمينها وشمالها كُرسيين من الخشب العتيق، حطت الكوباية على الترابيزة، وسندِت على سور البلكونة شوية وهي بتراقب الشارع، الناس المستعجلة، العربيات اللي بتجري بسُرعة، ودوشة الشارع اللي غطت للحظة على ذكرياتها، قررت تستعيد لحن الأغنية في دماغها مرة تانية، وكأنه شريط وبتعيد تشغيله، ولما اشتغل، مشافتش الشارع زي ماهو، شافت شارع هادي والناس فيه قُليلة، بدل عواميد النور شجر، وبدل العربيات السريعة أوتومبيلات شكلها حلو راكنة على جانب الطريق، ومن بعيد، شافت حنطور بيتحرك ناحيتها، راقبت الحُصان وهو بيتهادى وبيتراقص على الطريق بخفة، وراقبت سواق الحنطور وهو بيشجع الحُصان عشان يمشي، فضل الحنطور يقرب لحد ما شافت اتنين قاعدين جواه، بيضحكوا من قلبهم، ولما الحنطور قرب أكتر قدرت تتبين ملامحهم، كان "سعد"، وكانت هي، بس من ييجي ستين سنة..

حكايات للكاتب " إسلام شاهين"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن