حكاية 4

491 24 1
                                    

كُنت واقف ف بلكونة أوضتي الساعة ٣ الفجر، ماسك كوباية شاي ف إيد، وف الإيد التانية ماسك موبايلي، وفاتحه على رقمها، كُل شوية أجيب زُرار الإتصال، وأقفله، وأجيبه وأقفله، لحد ما سمعت صوت أغنية لعمرو دياب جاي من بعيد، عمرو كان بيدندن وبيقول، *لا القُرب مرتاحله، ولا البعاد أقدر عليه*

-"إيه يبني اللي مسهرك لحد دلوقتي؟!"

اتلفت ورايا، لقيت بابا واقف على باب أوضتي ولابس الروب بتاعه، قفلت الموبايل وبعدين قُلتله..

="مفيش يا بابا، قلقت شوية ف قُلت أقوم أعملي كوباية شاي وأقف أشم هوا شوية، آسف لو كُنت أزعجتك"

اتحرك ناحيتي بخطوات بطيئة، وبعدين قالّي..

-"لا يا تامر مأزعجتنيش ولا حاجة، أنا كده كده كُنت صاحي ومش جايلي نوم برضه، كُنت بفكّر ف أمّك الله يرحمها"
="الله يرحمها، وحشِتَك؟!"

اتنهد، وابتسم ابتسامة مُتكلّفة، ومردّش، ف فهمت إنّه مش عايز يتكلم، خد منّي كوباية الشاي وخد شفطة، وبعدين رجعهالي وقالي..

-"إيه أخبارك مع نور؟!"

أول ما جاب سيرتها ملامحي اتغيّرت وبان عليّا الضيق، بصّيت الناحية التانية ومردتش، ف سألني تاني..

-"انتوا اتخانقتوا تاني ولا إيه؟!"
="أيوة"
-"مش معقول كده يبني! هو كُل شوية خناق كده؟!"
="متقلقش يا بابا، المرادي كده شكلها مفيهاش رجوع تاني، كُل واحد فينا متربس دماغه وقافل من الموضوع خالص، ومستنّي التاني يكلّمه، كُل واحد فينا شايف إن التاني غلط ف حقّه، ومحدش عايز يعترف إنّه غلطان، وأنا بصراحة تعبت، تعبت من الطريقة دي ومن كُل حاجة، ومش عايز أفضل تعبان كده طول عُمري"

لقيت بابا بيبتسم ابتسامة ليها معنى، خرّج علبة سجايره من جيب الروب وسحب منها سيجارة، ولّعها ونفخ دُخانها الناحية التانية، وفضل باصص للسما وهو مُبتسم نفس الابتسامة، بصّيت ناحية ما كان باصص، لقيته كان باصص للقمر، اللي كان هلال، لسّة ف مراحله الأولى، استغربته جدًا، لحد ما لقيته قالّي..

-"هو أنا عُمري حكيتلك أنا قابلت مامتك ازاي؟!"
="لأ، إنت محكتليش غير تفاصيل صُغيّرة أوي عنها، وطول عُمري نفسي أعرفها أكتر، بس مكُنتش بحب أضغط عليك، لإنّي دايمًا كُنت باخُد بالي إنّك بتتأثر وبتحزن كُل ما بجيب سيرتها"

بص ع الهلال مرة كمان، خد نفس من سيجارته وبعدين رماها، وابتدى يتكلم..

-"من حوالي ٣٠ سنة كُنت بدرس ف سنة تالتة ف كُلية الهندسة، كُنت مشهور أوي ف الكُليّة، عضو فعّال ف إتحاد الطلبة، جيتاريست ف فرقة موسيقية بتعزف أغاني روك أجنبية، كُنت وسيم بحق، وبنات كتير كانت بتاخُد خطوات عشان تتعرف عليّا وأنا كُنت بصُدّهم، مش غرور منّي، بس لإنّي ف الفترة دي كُنت عايش ف عالم الأفلام والأغاني الأمريكية، وكُنت بقلّد أبطالهم ف كُل حاجة، نوع اللبس، ستايل الشعر، حتّى الموسيقى اللي كُنت بعزفها، وبالتالي طموحاتي ف البنات كانت أكبر بكتير من بنات الكُليّة، لحد ما قابلت رحاب"
="ماما"
-"فوجئنا جميعًا في الترم التاني واحنا ف وسط مُحاضرة ببنت داخلة علينا المُدرج مع والدها، شعر أصفر مموج وكثيف، عيون زرقا واسعين، وزُرقتهم تشبه لزُرقة البحر، وف الوقت اللي كُل البنات كانوا بيلبسوا بنطلونات ملونة وبلوزات مخططة وسخيفة، كانت هيّ لابسة فُستان ألوانه مُبهجة، كانت تشبه لـ"ميج راين" المُمثلة الأمريكية وفتاة أحلامي ف الوقت ده، خفيفة زيّ الريشة، بسيطة وكأنّك تعرفها من زمان، وجميلة، جمال ياخدك لعالم تاني ويعميك عن أي بنت تانية، أسرتني من أول نظرة، وقلبي دق لأول مرة بحُب، كانت في حاجة جوّايا بتقولي إن هيّ دي البنت اللي بدوّر عليها، واللي استنيت وصبرت كتير عشان ألاقيها"
="وبعدين؟!"
-"البنات فضلوا يتكلموا عنها وقصتها اتعرفت ف الكُليّة، عرفت إنّها كانت عايشة مُعظم حياتها مع باباها ف إنجلترا، باباها كان مُهندس بترول، واضطروا ينزلوا يعيشوا ف مصر عشان الشركة اللي بيشتغل فيها كان عندها مشروع ف مصر هياخُد سنتين ع الأقل، عرفت كمان إنّها معملتش صحاب خالص من ساعة ما جت الكُليّة، توقعت حاجة زيّ دي طبعًا بسبب اختلاف الثقافات وبحُكم البيئة اللي اتربت فيها، ولاد كتير حاولوا يقرّبوا منها وكانت بتصُدّهم بعُنف، لحد ما طلع عنها سُمعة إنّها مُعقّدة، حاولت كتير أقنع نفسي إنّي أقرّب منها وأكلمها، بس كان دايمًا جوايا هاجس إنّها هتعمل فيا اللي عملته ف غيري، ف اكتفيت بمُراقبتها من بعيد، لحد ما ف يوم، كُنت قاعد ف الاستوديو اللي بنتدرب فيه أنا وفرقتي، وكُنّا بنعزف واحدة من أجمل أغاني pink Floyd ف الفترة دي، "I wish you were here"، وفجأة، لقيتها واقفة ورا الإزاز ف أوضة التحكم! بتبتسم بهدوء، وبتهز دماغها مع اللحن، ارتبكت جدًا، وقفت عزف واعتذرت لزمايلي وطلعت أقابلها بره، سلّمت عليّا بعفوية، عرفتني بنفسها، وقالتلي إنّها شافت البوسترات بتاعتنا متعلقة ف الكُليّة، وإنّها بتحب المزّيكا وبتعرف تعزف، وحابّة تنضم لينا"..
="الله يسهله يا سي بابا، الفُرص بتيجي لحد عندك، وقُلتلها إيه؟!"
-"وافقت طبعًا! إنت عارف إنّها تبقى معايا ف الفرقة ده معناه إيه؟! معناه إنّي هشوفها وهتكلم معاها 3 مرات ف الأسبوع ع الأقل، دي كانت أحسن حاجة حصلتلي من ساعة ما جت الكُليّة وشُفتها لأول مرة، فهمتها النظام بتاعنا ونوعية المزّيكا اللي بنعزفها، وبعدين سألتها بتعزفي إيه؟! فلوت ولا هارمونيكا ولا كيبورد؟! لقيتها بتقولي إنّها بتعزف درامز!!"
="وإيه المُشكلة؟!"
-"ف الفترة الزمنية دي حتّى ف أمريكا مكانش في بنات بتلعب درامز، الدرامز كانت آلة صعبة جدًا ومحتاجة قوة وأعصاب من حديد، ف الأول مصدّقتش إنّها بتعزف عليها حلو، بس لما عزفنا سوا، اكتشفت إنّها عظيمة ف عزفها، أحسن من العازف الأساسي اللي كان معانا، وبما إنّي كُنت بعزف إليكرتيك جيتار، ومعروف إن الاليكتريك بيحب الدرامز، ف قدرنا إننا نعمل مع بعض أحلى شُغل، لمّا كُنّا بنعزف سوا كُنت بحس إنّي طاير، طاير ف أبعد سما، شقّيت السحاب والغيوم ولمست النجوم بإيديا، بمرور الوقت بقينا صحاب، والكُليّة كُلّها كانت بتضرب المثل بصداقة عادل ورحاب، اكتشفت إن ذوقها ف الموسيقى والأفلام يشبه لذوقي، وإن نمط تفكيرها قُريّب من نمط تفكيري، كُنّا بنتكلم ف كُل حاجة تقريبًا، الحُب والحرب، الظُلم والعدل، الدين والعلم، ولإن ثقافتها كانت سابقة ثقافتي بملايين السنين الضوئية ف قدرت ف وقت قُليل جدًا إنّها تنمّي فكري بأفكار عظيمة، وأخلاقيات كانت شبه معدومة ف مُجتمعنا، خروجاتنا كانت عُبارة عن 3 حاجات، يا إمّا نُدخل سينما ونتفرج على فيلم أمريكي جديد، يا إمّا نحضر حفلة لفرقة بتعزف غربي ونُقعد نُرقص ونهيّص طول الليل، يا إمّا كُنّا بنسهر سوا ع النيل ف جاردن سيتي، مكان ما كانت عايشة مع باباها، ونُقعد نتكلم مع بعض ف أي حاجة، أحاديثنا أوقات كانت بتبقى عميقة وكأننا فلاسفة من العصور الوسطى، وأوقات تانية كانت بتبقى تافهة جدًا، وصوت ضحكنا يسمّع لآخر الدُنيا، واللي رايح واللي جاي يضحك علينا وعلى هبلنا، ف مرة كُنا قاعدين قعدتنا دي ع النيل، والقمر ساعتها كان هلال زيّ دلوقتي كده، وكانت بصّاله وبتتأمل فيه بسعادة وحُب، أنا كُنت مستغرب جدًا ومش فاهم هيّ شايفه فيه إيه مُختلف، وقبل ما أسألها لقيتها بتقولي وهيّ لسّة بصّاله، (عارف يا عادل؟! أنا بحب شكل الهلال جدًا، يمكن أكتر من البدر كمان، الناس مبتحبش الهلال عشان هو حقيقي أوي، مش مُزيف، بيعبّر عن حقيقتهم اللي بيحاولوا يخفوها، كُلّنا جوانا جُزء مضلّم ومحدش شايفه، والجُزء ده مُمكن يبقى أكبر من الجُزء المنوّر اللي الناس بتشوفه، زيّ الهلال بالظبط، محدش بيشوف منّه غير جُزء منوّر بسيط وبيبقوا فاكرين إن هيّ دي هيئته وإن هو ده شكله النهائي، في حين إنّه لو دققنا شوية وبصّيناله بتركيز، هنلاقيه بيحاول، كُل يوم بيحاول ينوّر أكتر عن اليوم اللي قبليه، والضلمة اللي جوّاه بتفضل تقل وتقل، لحد ما يبقى بدر، منوّر بالكامل، والناس كُلّها تحبّه وتحب نوره، وبينسوا إنّه كان ف الأساس هلال، هلال بيحاول يبقى بدر)، سكتت للحظة، وبعدين بصّتلي وعينيها كُلّها حُب، وقالتلي (أوقات بنبقى محتاجين حد ف حياتنا يشوف الضلمة اللي جوّانا زيّ ما بيشوف النور، حد يحب نورنا البسيط اللي مُمكن ميكونش مؤثر أوي، ويساعدنا عشان نتوهج أكتر ونورنا يزيد يوم عن يوم، والضلمة تروح، لحد ما بمُساعدتهم دي، نبقى بدور، بدور ف سما واسعة وصافية مليانة حُب وسلام، حد زيّك كده يا عادل)، كُنت بسمعها وعايش ف وصفها وأنا مبهور، وف اللحظة دي بعد ما خلصت كلام، حسّيت احساس عُمري ما حسّيته ف حياتي قبلها وعُمري ما حسّيته تاني بالقوّة دي بعدها، حسّيت إنّي متورط فيها، دايب ف كُل تفصيلة فيها من أول ملامحها، لنبرة صوتها، لرسمة ضحكتها، لطريقة كلامها وتفكيرها، حسّيت إنّي مش عايز أعمل أي حاجة ف دُنيتي غير إنّي أبقى مع البنت دي لآخر يوم ف عُمري، واتأكدت إن مفيش بنت تانية هتقدر تاخُد مكانتها ف قلبي مهما عملت، ف اللحظة دي، ومن غير ما أفكّر كتير لقيتني بميل عليها وبحضُنها بكُل قوّتي، والدموع مالية عيني، معرفش ليه عملت كده، ومعرفش كُنت بعيّط ليه، بس يمكن لإنّي تخيلت للحظة إنّها مُمكن تروح منّي، وإنّي مُمكن أخسرها، ف خُفت وحضنتها، لقيتها حاوطتني بدراعاتها وطبطبت عليّا بالراحة، رُحت مايل على ودنها ف وسط عياطي ودموعي وهمست فيها، أنا بحبّك، كانت أول وأصدق مرة أقولها، لقيتها ابتدت تدمّع هيّ كمان، وسمعت صوت ضحكتها وهيّ بتدمّع، وبعدين قالتلي (وأنا كمان بحبّك يا عادل) "..

حكايات للكاتب " إسلام شاهين"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن