حكاية 7

429 16 0
                                    

"مين اللي قال لك الحياة وقفت في يوم على اللي راحوا؟!"

كُنت واقف على كوبري صُغير بيُربط الدُقي بالأوبرا، لما سمعت الكوبليه ده شغال على مركب معدي في النيل، لقيت نفسي بفوق من حالة السرحان اللي كُنت فيها، وبركز فيه، هزني، ووجع قلبي، غمضت عيني وسندت بكوعي على السور، غطيت وشي بإيدي وكأني بحاول أحاوط نفسي بدايرة من الظلام، مكُنتش قادر أحدد أنا يهرب من أفكاري ولا بغوص فيها أكتر، كُنت فاكر إن قعدة البيت هي السبب في التعب اللي أنا فيه، الهدوء الزيادة بيخليني أفكر غصب عني، قُلت يمكن لو نزلت، وشغلت نفسي بدوشة الشارع ووشوش الناس وملامحهم، يمكن أقدر أهرب، يمكن أقدر مفكرش، بس الظاهر إن الدوشة اللي في دماغي كانت أعلى وأشد تأثيرًا، لدرجة إني أتعمق فيها للدرجة دي ومفوقش غير على صوت عمرو دياب، وكأنه بيسألني، "مين اللي قال لك الحياة وقفت في يوم على اللي راحوا؟!"، معرفش، معرفتش إذا كانت وقفت ولا لأ، بس في حاجة جوانا اتغيرت ومش راضية ترجع تاني، في شيء ناقص وكأنه ... وكأنه ثُقب أو فراغ في الروح! الفراغ ده بيحسسنا إن على الرغم من استمرارية الحياة إلا إنها بتمر مرور الكرام، من غير ما يبقى لها لا طعم ولا لون ولا معنى، وكأنها بقت رحلة مافيهاش غير التعب والشقاء وبس، من غير ما يكون معاك حد بيشاركك متاعبها، وبيهون عليك، وهي الحياة إيه غير كده؟ ابتسامة حبيبك ليك بعد يوم مُرهق في شُغلك، حُضنه الدافي وانت في أشد لحظات وجعك، نظرة الفخر اللي بتشوفها في عينيه بعد كُل إنجاز صُغير بتحققه، كلامك معاه اللي مش بيكون مترتب ولا معمول له حساب، والأمان اللي بتحس بيه لما راسك بتميل على كتفه، وتروح في النوم، وانت متطمن إن كتفه هيشيلك لحد ما ترتاح تمامًا، مهما عدى وقت، ومهما هو حس بتعب، هيشيلك، مش هيسيبك..
.
.
.
.
-"توعدني متسيبنيش؟!"
-"أوعدِك"
-"مُتأكد من الوعد ده؟!"
-"طبعًا، ليه بتقولي كده؟!"
-"مش عارفة، يمكن عشان ... خايفة"
-"خايفة مني؟!"
-"خايفة من الدُنيا وأيامها، خايفة من اللي جاي ومنعرفوش، أنا عُمر ما حد قال لي إنه هيفضل مكمل معايا وكمل فعلًا، دايمًا بتساب، وكأني ... وكأني مش كفاية!"
-"ماتقوليش كده، انتي كفاية بالنسبالي"
-"إيه اللي يضمن لك إني هفضل كفاية؟! بعد سنة، اتنين، أو عشرة، إيه اللي يضمن لك إننا نفضل مُكتفين ببعض على طول؟!"
-"حُبنا"
-"المشاعر شيء مُتغير، ومش مضمون"
-"مشاعرنا حاجة تانية، حُبنا مُختلف"
-"كُل اللي حبوا وسابوا كانوا فاكرين كده، وبرضو مكملوش"
-"لأ، أنا واثق من مشاعري ومشاعرك، حُبنا قادر يخلينا نعدي كُل صعب، أوعدك، أوعدك إننا هنقدر نكمل مهما حصل، أوعدك إني عُمري ما هسيبِك أبدًا"
.
.
.
.
افتكرت كلامنا وحسيت بألم في قلبي وأنا ماشي على الكوبري، راجل كبير معدي شافني واتأثر، ملامح وشه كانت بتعكس ملامحي اللي كُلها وجع، توقعت إنه هيوقفني ويسألني مالك يبني، فتعمدت أودي وشي الناحية التانية، وتجاوزته بسُرعة قبل ما يتكلم، مش قادر أسمع حد ولا أتكلم مع حد، كفاية عليا كلامي معاها اللي عقلي كُل شوية بيعرضه قُدام عيني، وكأني بتفرج على نفس الفيلم في السينما، نفس المشاهد والحوارات، الغريب، إن على الرغم من تكرار نفس الصور، إلا إن تأثري بيها مكانش بيقل، بالعكس، كُنت بتأثر أكتر، وبتعب أكتر، وكأني في كُل مرة بشوف تفصيلة جديدة في المشهد، وكأني بشوفها لأول مرة، وكأني ببُص لكلامنا في كُل مرة من منظور مُختلف، زي لما وعدتها إني عُمري ما هسيبها، كُنت بفكر في إيه وقتها؟! إزاي كُنتي غبي وأعمى للدرجة دي؟! لدرجة إني أوعد بحاجة أنا مش ضامنها بالشكل ده؟! بس ... بس أنا وقتها كُنت حقيقي مصدق ده! أنا لما كُنت بوعدها بكده مكُنتش بكذب، كُنت حقيقي مش عايز أسيبها وقتها، كُنت هعرف منين إن في حاجة هتتغير؟! لا لا، أنا كان لازم أعرف، كان لازم أفهم وقتها إن منظوري كان ضيق وسطحي جدًا، وإني مكُنتش شايف الصورة كاملة، هي اللي كان معاها حق، كان حقها تخاف، طب ... طب ولما هي كانت شايفة الصورة كاملة إيه اللي خلاها تخليني أوعدها الوعد ده؟! لما هي كانت عارفة إن احتمالية إننا منكملش موجودة وبنسبة مش قُليلة، ليه أغوتني إني أوعدها؟! عشان أنا اللي أشيل الليلة كُلها؟! عشان لو حصل أي شيء فوق طاقة احتمالي ومقدرتش أستحمله، وسبتها، أبقى أنا الشخص الشرير لإني وعدتها إني عُمري ما هسيبها، مش كده؟! يا إما كده يا إما كُنت هاجي على نفسي عشان أكمل، عشان الوعد دين! طب ودينها هي عليا؟! إنها متتعبنيش أوي كده؟! ومتئذنيش بالشكل ده؟! ولا ده مش دين كافي مُقابل الوعد! ليه خلتني أوعد؟! عشان كانت خايفة بجد؟! ولا ... ولا عشان لما مقدرش أكمل ألاقيها بتقول ..
.
.
.
.
-"كُنت عارفة، كُنت عارفة إنك هتخلف وعدك ليا"
-"هو ده اللي يهمك؟ هو ده اللي بتفكري فيه بس؟ أنا بتكلم معاكي عشان تفهمي! عشان تحاولي تصلحي الدُنيا معايا!"
-"ماعنديش طاقة أصلح حاجة، انت خلاص، بتقول إنك جبت آخرك ومعُدتش قادر تستحمل"
-"بترجاكي تعيدي نظر وتمسكي فيا، تقولي لي إني هحاول علشانك"
-"ما أنا بحاول! انت اللي مش مقدر كُل مُحاولاتي وبقت بالنسبالك مش كفاية"
-"أنا مقولتش كده"
-"مش محتاج تقول، عينيك قالوا كُل حاجة، إنك تعبت، صبرك نفد وبقيت محتاج مني أكتر من المشاعر"
-"مش حقي؟! حقي إني محسش إني بحارب في جبهة لوحدي، وإني محسش إني بقدم فوق مشاعري كُل حاجة بترضيكي وتسعدك ومش لاقي منك غير مشاعرك وبس"
-"بس؟! يعني أنا مش بقدم لك أي حاجة تانية؟!"
-"مقصدش، أقصد إني ..."
-"إن في حاجات تانية انت نفسك فيها وبتتمناها وأنا مش بقدمها لك، مش كده؟!"
-"اشمعنى أنا بقدم كُل حاجة!"
-"انت قادر أنا مش قادرة"
-"انتي تقدري لو عوزتي، لو بتحبيني بجد زي ما بتقولي"
-"فعلًا؟!"
-"أيوة! فكرك أنا بقدر أقدم كُل ده ازاي! ما لإني بحبك للدرجة اللي تخليني أجي على نفسي عشان خاطرك"
-"ده مش صح، مش صح حد ييجي على نفسه أصلًا"
-"جاية دلوقتي تقولي كده؟! لما واجهتك إني محتاج منك تقدمي لي اللي بقدمه؟! مقولتيش ده ليه لما كُنتي بتشوفيني بتعب عشان أقدم لك كُل احتياجاتِك؟! ها؟!"
-"محدش ضربك على إيدك وقال لك تعمل لي حاجة، ومحدش برضو قال لك توعد بحاجة انت مش قدها"
-"انتي قولتي لي"
-"بتقول إيه!!"
-"توعدني متسيبنيش؟! عُمري ما هنسى نبرة صوتك ونظرتك ليا وقتها، وكأنك بتترجيني ممشيش، كُنتي مُتخيلة هرُد وأقول إيه وأنا بحبك الحُب ده كُله!"
-"ياريتك ما رديت الرد ده، حتى لو كان نفسي أسمعه وقتها، بس كان هيبقى أهون عليا من اللي بيحصل بيننا دلوقتي ده، قُلت لك المشاعر مش كُل حاجة"
-"متدخليش المشاعر لإن مشاعري متغيرتش"
-"عارفة، بس مبقتش داعم كافي لاستمرار علاقتنا، هتفضل تحبني بس ... بس انت عايز أكتر من الحُب!"
-"ما هو انتي مش مكاني، ومش هتقدري تحسي بيا، لإني بقدم لك كُل شيء على طبق من فضة، لكن لو كُنتي مكاني، كان زمانك مشيتي من زمان، من زمان أوي، مكُنتيش هتستحملي كُل الوقت ده"
.
.
.
.
"عندك حق"، قالتها بعد صمت طال لفترة من الزمن، امتزجت فيها جُملتها بدموعها، قبل ما أرجع للواقع مرة تانية وأحس بدموعي وهي نازلة على خدي، كُنت بلوم عقلي إنه مش قادر يبطل تفكير في كلامنا واللي حصل بيننا، وكُنت بلوم قلبي، عشان مش قادر يتحلى بالقوة اللي تخليه يعدي الكلام بأقل ضرر مُمكن، بصيت حواليا، واكتشفت إني بتمشى جنب الأوبرا، عند الجنينة اللي كُنا بنتقابل فيها زمان، فضلت واقف للحظات وأنا براقب اليافطة والسور والبوابة، وبفكر في إني برغم كُل شيء بلاقي روحي بتسوقني لكُل ذكرى حصلت ما بيننا في يوم من الأيام، حتى الشوارع اللي رجلينا تعبت من المشي فيها، والأماكن اللي حفظتنا أكتر ما حفظناها، فكرت في الوقت اللي عدى من ساعة آخر مرة جينا فيها هنا، سنتين؟ تلاتة؟ معُدتش بحسب الأيام ولا السنوات، الحياة بتمشي بس أنا ليه حاسس إني لسه واقف مكاني؟! من قبل ما نسيب بعض، ليه بتخيل إننا لسه مكملين؟! وإنها لسه هنا، ممشيتش، ومسبتهاش، هي هنا، هي أكيد لسه هنــ ...

حكايات للكاتب " إسلام شاهين"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن