حكاية 21

215 9 0
                                    

مدرستي ف ابتدائي كانت عبارة عن فيلا ف شارع عمومي، وف نفس الشارع ده كان في فيلا تانية أكبر وأحلى، والفيلا دي كان بيُحرسها كلب، كلب جميل جدًا ونوعه حلو ونضيف، وعشان احنا كُنّا أطفال أشقيا كُنّا كُل يوم نطلع من المدرسة ونُقف عند بوابة الفيلا ونُقعد نستفز ف الكلب، ف ييجي يزوم علينا ويهوهو، واحنا نضحك، كُنّا بنعمل كده كُل يوم لمُدّة ٦ سنين مثلًا، واكتشفنا إنّه اتعوّد علينا وبقى بيستمتع بلعبه معانا كُل يوم..

كبرت وسبت المدرسة ورُحت مدرسة تانية، وبقيت نادرًا ما بعدّي على شارع مدرستي القديمة، وف يوم عدّيت عليه لقيت أصحاب الفيلا عارضينها للبيع، بعدها بكام شهر عدّيت ع الشارع تاني لقيتها اتباعت فعلًا واتهدّت، وبقت أرض فاضية مفيهاش أي حاجة، مفيهاش غير الكلب، صُحابه سابوه ومشيوا وفضل هو ف مكانه، بيزوم وبيهوهو كعادته، وبيدوّر على ناس بيحبهم على أمل إنهم يرجعوا تاني ..

كبرت شوية كمان ودخلت ثانوي ف مدرسة تالتة خالص، وبقيت بعدّي على شارع مدرستي القديمة كتير عشان كان ف طريقي، الأرض الفاضية اترمى فيها أساسات، والأساسات ابتدت تعلى، دور ف التاني ف التالت، بقت بُرج كبير وشكله حلو، العُمال وصُحاب البُرج حاولوا كتير يخلصوا من الكلب، اللي كان بيهشّه واللي كان بيحاول يضربه، بس الكلب فضل ثابت ف مكانه متحركش، فضل يلف ويدور ف نطاق الشارع، ياكُل من الزبالة ويشرب من المجاري، البراغيت تهاجمه ويُقعد ينضّف نفسه، ينام تحت عربية ف الشتا ويلهث من الحر ف الصيف، كُل العذاب ده ومفكرش يسيب منطقته، أبدًا، أوقات كتير كُنت بفكر لو الكلب ده نطق، لو قدر يعبر عن مشاعره واتكلم، ياترى كان هيقول إيه؟!

"أنا مش عارف أنا غلطت ف إيه، حبيتكوا بجد وكُنتوا كُل حياتي، ومكنتش بطلب منكوا أي حاجة غير إنكوا تفضلوا معايا، كُنت برضى منكوا بالقليل، وف المُقابل كُنت بقدملكوا كُل اللي أقدر عليه عن طيب خاطر، أحلى لحظات حياتي لمّا كُنت بشوفكوا مبسوطين بسببي، كُنت مُستعد أكُل بسناني أي حد يفكر يأذيكوا، ليه بقى، ليه تسيبوني بالشكل المُهين ده؟! ليه تتخلّوا عنّي وكأنّي مليش لزوم ف حياتكوا؟! أنا مش عارف أنسى على فكرة وخلينا متفقين إنّي مش هنسى، مليش سَكَن غيركوا، وبيتي هو انتوا، وبرغم كُل الوجع والألم اللي سببتوه ليّا برضه بتوحشوني، وبرضه بحبّكوا، وهفضل واقف ف مكاني هنا، مش هتحرك غير لمّا ترجعوا، ومش هتخلّى عن الحلم ده لإن انتوا أملي الوحيد، ومحدش عارف ياخُد مكانكوا، أرجوكوا، أرجوكوا ارجعوا"..

دلوقتي الوضع اختلف تمامًا والشارع اتغيّر خالص، كُنت معدّي أنا وصُحابي بتوع ابتدائي على أساس نشوف مدرستنا القديمة ونستعيد الذكريات، لقينا المدرسة اتقفلت وبقت فيلا مهجورة، وفي قهوة فتحت على ناصية الشارع، محل سوبر ماركت كمان وكُشك هنا وسنترال هنا، البُرج كُلّه سكن وبقى مبنى عادي زيّه زي أي مبنى، قاعد قُدّامه بواب صعيدي بيشرب شاي وبيدخن سيجارة، كُل حاجة اتغيّرت، المعالم والأماكن وحتى وشوش الناس، كُل حاجة إلّا حاجة واحدة ..
تحت رجلين البواب شُفناه، عجوز، نايم ع الأرض مبيتحركش، شعره منتوف وعينيه مليانة وجع، قرّبنا منّه، رفع راسه بصعوبة وبصلّنا، يمكن افتكرنا ويمكن لأ، بس الأكيد إنّه مبقاش قادر يزوم أو يهوهو، الأكيد إنّه تعب خلاص، واستسلم ..
البواب لمّا شافنا متآثرين وجّه كلامه لينا وقال "بقاله يومين على ده الحال، بينازع وبيطلّع ف الروح، كبر خلاص وأجله جه ومبقاش في حاجة ف إيدينا نعملهاله، بيقولوا الكلب ده هنا من زمان، من ساعة ما العمارة دي ما كانت فيلا من سنين، صاحبها مشي وسابه وهو فضل طول العُمر ده مستنّيه يرجع، إوعوا يا ولادي تتعلقوا بحد بالشكل ده إلا لو كان يستاهل، لإنّه لو ميستاهلش حالكوا هيبقى زي حال الكلب ده، عُمركوا هيتسرق منكوا وإنتوا مستنيين ناس عُمرهم ما هيرجعوا، وف النهاية هتخسروا كُل حاجة، حياتكوا ومشاعركوا، وروحكوا"..
أول ما البواب خلّص كلامه لقينا الكلب بيئِن أنين خفيف، وبيطلّع آخر نفس، وبيغمض عينه للأبد ..

حكايات للكاتب " إسلام شاهين"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن