ولد صالح *2*

153 7 0
                                    

-"سكّتي الواد يا رضوى مش عارف أتكلم في التليفون!"
-"أعمل إيه طيب ماهو اللي مش عاوز ياكُل!"
-"أيوة، أيوة يا محمود بيه معاك، معلش متأخذنيش، أديك سامع بنفسك، أها، أها، يعني مافيش حد بلّغ خالص؟! تمام، تمام يا محمود بيه معلش تعبتك معايا، هتابع الوضع مع المدام ولو في جديد هكلمك، سلامي للأسرة والأولاد، اتفضل يا فندم مع السلامة"

قفلت معاه واتنهدت بضيق، في اللحظة اللي "رضوى" بصّت لي فيها وهيّ شايلة الطفل وبتحاول تهدّيه، وبعدين قالت لي:

-"ها؟! قال لك إيه؟!"
-"ما انتي سامعة كُل حاجة يا رضوى هعيد الكلام ليه؟!"

رمت لي نظرة عتاب من غير ما تتكلم، فسكت للحظة، وبعدين جاوبتها:

-"سأل حبايبه في قسم الخليفة وقالوا له ماحدّش بلّغ بأي حاجة، هيتابع معاهم ولو في حاجة جدّت هيكلمني"
-"طيب خير"

قالتها بفرحة حاولت تداريها، وبصّت للولد اللي كان لسّه بيعيّط مع إنّها كانت واخداه في حُضنها، لمحت شبح ابتسامة بيظهر على شفايفها، حسّيت إنّها مبسوطة عشان محدش بلّغ بفُقدان الطفل، وكأنّها .. وكأنّها عايزة تحتفظ بيه..

-"أنا بقول أول حاجة نعملها لمّا نصحى إن شاء الله إننا نروح وزارة التضامن ونقابل الست اللي انتي قُلتي عليها دي، ونسلمها الطفل، ولا انتي إيه رأيك؟!"

بصّت لي وهيّ مخضوضة، لكنّها حاولت تتمالك أعصابها وقالت لي:

-"بالسُرعة دي؟! مالك مستعجل كده ليه؟! أنا رأيي إنّه يفضل معانا لحد ما .. لحد ما نتأكد يعني إن محدش بيدوّر عليه وكده"
-"فعلًا؟!"
-"هو إيه اللي فعلًا؟! مش فاهمة؟!"
-"يعني هيفضل معانا لحد ما نتطمّن إن محدش بيدوّر عليه، ولا هيفضل معانا على طول يا رضوى؟!"

اتلخبطت وسكتت للحظة، كانت بتحاول تدوّر على كدبة تانية تداري بيها الحقيقة، لكن "رضوى" مكانتش بتعرف تكدب، اللي في قلبها كان دايمًا على لسانها، ولإن قلبها كان أطهر من اللبن الحليب، فلسانها مكانش بيقول غير كُل جميل، بس أنا مافهمتش ده وقتها، للأسف..

-"أيوة يا حازم أنا عاوزة أحتفظ بيه، ماتقوليش إنّك مش حاسس زيّي إنّها علامة من ربنا، كُل حاجة يا حبيبي بتدفعنا للاحتضان، ابننا اللي مات، مرواحي للوزارة، الطفل ده، اللي ربنا بعتنا ليه عشان ننجده، مش يمكن يا حبيبي يكون مكتوب لنا إننا .."
-"مكتوب لنا ننجده زيّ ما انتي قُلتي يا رضوى، والحمد لله أنقذناه وثوابنا عند ربنا هيكون عظيم، دلوقتي جه الوقت إننا نسلّمه للجهات المُختصة وهُمّا يتعاملوا معاه ويوفروه له الرعاية اللي هو محتاجها"
-"وليه مانوفرهاش احنا!!"

زعّقت فيها غصب عنّي..

-"عشان احنا هنخلف يا رضوى!! هنخلف طفل بيحمل صفاتك وصفاتي وجيناتك وجيناتي، مش هنربي طفل الله أعلم أصله إيه ومين أبوه ومين أمّه!! وإيه اللي مُمكن يعمله فينا لمّا يكبر!!"
-"انت بتُحكم على طفل رضيع لسّه مايعرفش أي حاجة من دلوقتي؟! هو لسّه شاف دُنيا ولا عاش حياة عشان يطلع كويس ولا وحش؟! بقى انت اللي بتقول الكلام ده يا حازم؟! ده انت بيتضرب بيك المثل في الإيثار والكرم!!"
-"أتكرم وأتفضل في حاجات كتير يا رضوى، نتصدق، نروح دار أيتام ونزور الأيتام اللي هناك ونلعب معاهم، لكن كُلّه إلا ده، ليه عايزة تحرميني من أجمل نعمة ربنا بيوهبها لعباده؟! ليه مش عايزة يبقى لي ابن من صُلبي أحس ناحيته بمشاعر الأبوة بجد! افهميني يا رضوى! طول ما مافيش سبب حقيقي يمنع إننا نخلف، هفضل باصص للولد ده على إنّه عائق! عائق بيمنعك إنّك تجيبي لي الولد اللي بتمناه من ربنا"

الولد كان بيعيّط..

-"وخوفي مش عائق؟! كلامي معاك عن إنّي مش هقدر أستحمل خلفة تاني مش عائق؟! انت إيه؟! مابتفكرش غير في نفسك وبس؟!"
-"أنا يا رضوى؟!"
-"أيوة انت!! كلامك معناه إنّك لو اكتشفت في يوم من الأيام إنّي عندي مرض يمنعني من الخلفة، فانت هاتروح تتجوّز عليّا عشان تخلف الطفل اللي بتحلم بيه، كلامك معناه إن لو ربنا ابتلاني بداء خلّاني مش قادرة أديك حقوقك الزوجية، فانت مش هتستحمل وهتطلقني عشان تتجوّز واحدة تملى عينك!"
-"انت بتقولي إيه! انتي بتخلطي الأمور ببعضها عشان تطلعيني غلطان وخلاص؟! اللي انتي بتقوليه ده ماينفعش! ماينفعش تخلطي الاختيار بالمشيئة!"
-"يعني إيه!"
-"يعني لو ربنا ابتلانا بمرض يمنعنا من الخلفة، ف دي اسمها مشيئة، ربنا أراد ودي مشيئته واحنا واجب علينا نتقبل المشيئة دي ونُصبر ونحتسب ونُطلب الفرج منّه، زيّ ما الحمل اتأخر سنتين وزيادة وفضلنا صابرين ومُتقبلين إرادته، لكن اللي انتي عايزة تعمليه ده اسمه اختيار! انتي اللي مختارة ماتخلفيش بمزاجك وإرادتك! يبقى إزاي عايزاني أعتبر دي مشيئة وهو اختيارك؟! اختيارك لوحدك؟! افهمي يا رضوى! طول ما أنا عايش معاكي هفضل مُقتنع إنّك انتي اللي اختارتي مانخلفش مع إنّك تقدري تخلّفي! وده شيء صعب على أي إنسان إنّه يتقبله! لكن لو ربنا هو اللي أراد إننا مانخلفش ف ده موضوع تاني خالص"

الولد كان بيعيّط بحُرقة..

-"وانت ليه مُعتبر إن أنا قادرة أخلّف!! هو لازم يكون عندي مُشكلة عضوية عشان تقتنع؟! المرض النفسي زيّه زي المرض العضوي بالظبط!"
-"ده لو كُنتي أصلًا مريضة نفسية مش بتوهمي نفسك بسبب الصدمة اللي حصلت لك من موت ابننا! وحتّى لو كان مرض نفسي زيّ ما بتقولي، هو المرض ده مابيتعالجش؟! ماينفعش نخف منّه؟!"
-"لأ، ماينفعش!"
-"عشان ده مش مرض! دي رغبة وتملّكت زمام تفكيرك، قناعة بقت عاملة زيّ الغشاوة على عينيكي"
-"أنا فعلًا كان في غشاوة على عينيا يا حازم، ولمّا ابننا مات ربنا رد لي بصيرتي، وكأنّه بيقول لي إنّه خالقني لسبب أسمى من الخلفة، إنّي أوفر للطفل المسكين ده الحياة الكريمة اللي يستاهلها، إيه اللي يخليني بقى أروح أجيب طفل جديد للدُنيا، لمّا مُمكن أوهب أمومتي لطفل موجود في الدُنيا بالفعل ومالوش عائل؟!"

كلامها كان فيه شيء من المنطق، لكن للأسف، مش كُل حاجة في الدُنيا ينفع نحسبها بالمنطق، ربنا خلقنا بشر لينا مشاعر وأحاسيس ورغبات، ولمّا ربنا يزرع جُوانا رغبة قوية زي الخلفة، صعب جدًا نشوف الأمور بعين المنطق، اتنهدت في نفاد صبر، وبصّيت لـ"رضوى" وقُلت لها:

-"بُصّي يا بنت الناس، أول ما يطلع علينا النهار هناخُد الولد وهانروح نسلّمه للقسم، أو للوزارة، وهُمّا هيعرفوا يتصرفوا معاه، ده آخر كلام عندي يا رضوى، وماعنديش كلام تاني في الموضوع ده"

لقيتها بتضُم الولد في حُضنها أكتر، وبعدين قالت لي:

-"مش هايحصل يا حازم، الولد مش هيمشي"

سكت للحظة وأنا شايف أمارات العند على ملامحها، قبل ما أرُد وأقول..

-"تمام يا رضوى، يبقى أنا اللي همشي، أشوف وشّك بخير"

حكايات للكاتب " إسلام شاهين"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن